(قراءة في نص وحدها النوافذ للشاعر محمد بلمو)*
كان الناس زمن وباء كورونا الذي حل بالعالم على حين غرة، في حيرة من أمرهم، فقد ابتلعهم الخوف وافترستهم العزلة. تلك العزلة التي كان يفضلها الشاعر وحده بات الناس كلهم يفرون باتجاهها ويحتمون بالنوافذ والجدران. ولقد كتب شعراء كثر عن هذا الوباء الذي أوقف العالم فجأة. الشاعر المغربي محمد بلمو كان من بين هؤلاء الذين كتبوا بجمالية شعرية بديعة ومسترسلة عن كورونا في نصه الذي عنوانه ب: “وحدها النَوافذ” التي يقول في استهلالها: “وحدها النوافذ / تشرع أبوابها/ وحدها/ في البيوت لفظت حمولتها الشوارع/ كي تطمئن لصمتها العجيب/ تتأمل سيارات مركونة على عجل/ تغرق في شخير/ غير معهود/ ومحطات الوقود/ نعم محطات الوقود/ لم تصدق أنها شبه عاطلة/ وأنها لم تعد قدرا هي التي استعصت على دعوات مقاطعة..”
نعم ماذا لو توقف العالم فجأة؟
فكرة لم تكن تخطر على بال أحد منا في هذا العالم، الشاعر هنا يصف غرابة ما وقع وما يقع. حتى الشوارع التي كانت مزدحمة بالمارة صارت فارغة. أفرغت حمولتها عنوة في النوافذ لترتاح قليلا وتطمئن لصمتها العجيب..السيارات في زمن الوباء توقفت، محطات الوقود التي لا تتوقف أيضا توقفت. الشاعر محمد بلمو يصف هنا غرابة المشهد المرصع بالصمت، وحدها النوافذ امتلأت بالناس، لم يعد لهم سبيل ولا غاية..يواصل الشاعر محمد بلمو غرس مخالب القصيدة في فم هذا الوباء الفتاك نكاية فيه وفي زمنه، يقول: “لم تصدق المقاهي التي استسلمت لكوابيس النهار أنها في عطلة إجبارية/ستشتاق لرائحة القهوة/ ورق الجرائد/ عرق الزبائن/صراخ الدربيات/ وأن النادل عليه أن يدبر لا جدواه وخبز أطفاله/ إلى أن يمر ليل لم يأبه بوفاء الشمس لتقاليد الشروق والغروب..”
في هاته السطور التي تتشكل في هيئة ومضات وجمل برقية شذرية، يصور الشاعر عالمنا كأنه عالم آخر، فالمقاهي الممتلئة صارت في عطلة، من كان يتصور هذا؟ النادل أصبح معطلا، بل كل الناس أوجلهم إلا بائع الكمامات..، المقاهي اشتاقت لرائحة القهوة، كل ما كان بداخل المقهى أصبح خرابا وصمتا. الشاعر هنا يعبر ببلاغة الانسجام عن حال بلده أو لنقل حال العالم الذي أصبح مغلقا لأجل غير مسمى..
وحدها النوافذ أصبحت تشهد تحول العالم وتغيره، هي النوافذ أمل العالم، تختزله وتراقب تغيره، يقول الشاعر:
“وَحْدَها النّوافِذُ /تشْرعُ أبْوابَها/ وَحْدَها/السّماءُ مَشْدوهَةٌ/ لمْ تُصدِّقْ أنهَا زَرقاءُ على غيرِ عادتِها/ زَرْقاءُ فعلا كَما كُنَّا نَشْتَهي/لمْ تُصدِّقِ الطيورُ أنها تُحَلِّقُ مُطْمَئنّةً/ لا يُعكِّرُ بهْجَتها هدِيرُ الطائِراتْ/ لمْ يصَدِّقْ حَمامُ السَّاحاتِ أنه تُرِكَ فجْأةً لجوعٍ القِططْ/ لمْ تُصدِّقِ السُّحبُ القَليلةُ التي تَمرُّ مُسرِعةً / أنّها بيْضاءُ كالثَّلجِ/ كأنّها اغْتسَلتْ لِلتَّوِّ في النهْرِ/ لمْ يُصدِّقِ الهَواءُ أنّهُ عَليلٌ/ خَفيفْ / لا تَحْتَلُّه أدْخِنةٌ ولا عَكَّرتْ مِزاجَهُ الصَّعْبَ غازاتٌ مِن كُلِّ أنواعِ السُّمومِ/ كأَنَّ المدينةَ اسْتعارتْه مِنْ قِمَّةِ جبلٍ شامخٍ/ أوْ مِنْ كُرّاساتِ الخُضْرِ الحالمةِ..
في هذا المقطع من القصيدة يحتفي و يتوسل الشاعر بعناصر الطبيعة جلها من أجل تصوير واقع جديد فرضه وباء كورونا، فجمله الطويلة تسرد أثر الوباء القاتم القاتل على الطبيعة من طيور و حمام وقطط، فعناصر الطبيعة حاضرة بكل تفاصيلها في القصيدة. فالهواء مثلا ارتاح من دخان السيارات فأصبح سقيما على حد تعبير الشاعر كناية على تسممه الدائم الذي اعتاد عليه فصارت حالته الطبيعية الصفاء والنقاء شيئا من المستحيل. فالشاعر هنا كثف من التشبيهات والوصف والاستفهام لتقريب الواقع من ذهن المتلقي.
يواصل الشاعر أيضا في قصيدته الحالمة هذه التفرس في حالة العالم زمن الوباء. يقول: “وَحْدَها النّوافِذُ/ تشْرعُ أبْوابَها/ وَحْدَها/ وأنا أحْتَمي بِضَوْئِها/ أسْتجيرُ بِهوائِها مِنْ كابوسِ الوَقتْ/ لمْ أُصدِّقْ أنَّني لا أحْلمُ هذِهِ المَرَّةَ/ لا أحْلُمُ كَكُلِّ مرَّةٍ/ وأنَّ عَلَيَّ أن أقيسَ خَطَواتي / أتسلَّحَ بَمنادِيلِ الورقٍ الكثيرةِ/ كيْ أدْفَنَ رَذاذِي في المهْدِ/ كُلَّما عَطسَتْ/ لمْ يُصدِّقِ الضَّجيجُ المقيمُ أنّهُ اخْتَفى مِنْ هَلَعْ/ لمْ يُصدِّقِ الدُّخانُ الوَقِحُ الذي هَرَبَ / أنَّهُ جَبانٌ ثَقيلُ الظِّلِّ/ كَمْ هَدَّدَ سَقْفَ الأرضِ بِلَعْنَتهِ/ كَمْ أربَكَتْ رائِحَتُهُ مِنْ دورَةِ دَمٍ مُنْهَكَةٍ/ وأَنَّ الطَّبيعةَ ترُدُّ صَفعاتِ رأسمالٍ جَشِعْ..”
يحتمي الشاعر بالنوافذ كباقي البشر، فلم تعد العزلة من اختصاص الشاعر وحده، بل وحدها النوافذ أصبحت ملاذ العالم للاحتماء والاختباء من مخالب الوباء القاتم..بضوئها يحتمي الشاعر يقضي فيها كل وقته، رغم أنها تطل على العالم فهي تحبس الحلم وتقيده وتقزم العالم، لذلك على الشاعر كباقي الناس أن يتسلح بالمناديل الورقية لحماية نفسه وعليه أن يحتاط من رذاذه مخافة على الناس من الوباء إذا عطس. إنها الطبيعة تمردت على جور العالم، على سم الدخان المنشر في كل مكان. الدخان هو سم قضت عليه الطبيعة بهذا الوباء. الدخان في القصيدة يعني أيضا حياة الرأسمالية المنتشرة في هذا العالم كالوباء تماما. فالطبيعة إذن تصفع العالم حسب تعبير شاعرنا. فكل الأماكن في العالم تغيرت وتبدلت وتحورت، الأرواح تشنجت، المساجد أفرغت..يقول مسترسلا بلازمته :
“وَحْدَها النّوافِذُ / تشْرعُ أبْوابَها/ وَحْدَها/ كي يمُرَّ الأوكسجينُ/ إلى أجسادٍ خائفةٍ وأرْواحٍ تُسَبِّحُ طوالَ الوقتِ/ لمْ تُصدِّقِ المساجدُ أنَّ المُصلِّينَ ولُصوصَ الأحذيةِ هَجَروها رغْمَ وَفاءِ المُؤذنِ لمواعيدِ الصَّلاةِ/ وأنَّ انْفِلاتَ مَذْعورينَ يُهَلِّلونَ ذاتَ ليلةٍ/ ليستِ الصَّلاةُ من أخرجتهمْ يُهَرْوِلونَ مِنْ فَزَعْ/ لمْ تُصدِّقِ الحاناتُ أنها تَخلَّصتْ مِنْ عَرْبدةِ مَجانينِها / اشْتاقَتْ لِنغماتِ عازفٍ حكيمٍ/ تَركَتْ كُؤوسَها تبْكي في ظلامٍ اليُتْمِ / اسْتأْجَرتْ جَلساتِ السُّكْرِ مؤقَّتاً /لِبعْضِ الشُّرُفاتِ الحَزينةْ/ لمْ يُصدّقْ ماسِحُ الأحذيةِ أنَّ الأزقَّةَ مصْدومةٌ/ لَفَظَتْهُ بلا عَملٍ/ لَعلَّ الحُكومةَ لا تَنْسى قوتَ أُسْرتِهْ/لمْ يَصَدِّقْ سائِقُ الطّاكسي كيْفَ انْقَلبَتِ الأحوالُ/ بِسُرْعةِ بَرْقِ/كيْفَ اخْتَفى المُسافِرونَ/ تَضاعفَتِ المتاريسُ حينَ هوى النَّفْطُ دليلا/ لمْ يَصَدِّقْ كيْفَ أنّهُ انْدَحرَ مثْلَ سَبّورَةِ القِسمِ / وبائعِ الخُرْدةِ والمسرحيِّ والمغَنّي/ حينَ تسلّقَ الصّابونُ سُلَّمَ الأَوْلوياتْ/ اسْتعادَ عَوْنُ السُّلطةِ بريقَهُ/ واسْتأسدَتِ الكُماماتْ..”
تشتد الاستعارات في الـأوقات الصعبة، في الأوبئة والحروب، فمعلقة زهير لم تكن لتولد إلا بوجود حرب ضروس وهكذا، فهذا النص للشاعر محمد بلمو ولد من رحم كورونا، الشاعر يلتصق بالمعاناة ، يعْبر ويعَبر بالمجازات، يأخذنا هنا في هذا المقطع مع حسنات النوافذ. هي إذن شعرية جديدة تتكرس، شعرية النوافذ زمن الوباء. بلمو واحد من هؤلاء الذين يرسخونها في جدارات الوقت. في جدارات القصيدة..النوافذ منفذ الأكسجين الذي يتسلل إلى الأرواح البشرية الخائفة على مصيرها..مصير العالم، المساجد أصبحت فارغة تماما، الحانات بدورها أفرغت من الزبائن والزجاجات أيضا تركت كؤوسها تبكي للفراغ في ظلام اليتم. يصف لنا الشاعر عالم الوباء باستناده إلى النكرات فهو لا يعرف إلا بالإضافة (ظلام اليتم..عازف حكيم..) لعله يريد أن يدلل على هذا العالم، فهو ينحت تضاريسه لتشمل كل خائف من “كورونا” لتشمل كل طارئ ومتغير..لكن الشاعر هنا يعرف الشرفات (الشرفات الحزينة ) لأنها شرفات محددة ..شرفات كل العالم..العالم في شرفة، في نوافذ العالم في حالة ترقب وخوف دائمين..
البطالة ابتلعت الناس فالإسكافي أصبح بدون عمل والأزقة مصدومة بالخواء..كل مجال إلا وساده الخراب، لايتثناء مجال السلطة، فالأعوان استأسدوا والكمامات تربعت على العرش وفرضت نفسها بنفسها.
الشاعر في هذا المقطع يصور حسنات الوباء ومثالبه وربما يرجح حسناته لأنه جعل الناس تستيقظ-أي الوباء- وأحيا الطبيعة برا وبحرا، كل شيء دبت فيه الحياة وبدأ يتحرك إلا الإنسان فقد دب فيه الخوف واليأس وعمته اللاجدوى..فهل سيدبر لا جدواه إذن؟
يقول الشاعر مواصلا سيره في عوالم الوباء غارسا سيف مخالبه الشعرية في ملامح الوباء نيلا منه ومن جسارته:
وَحْدَها النّوافِذُ /تشْرعُ أبْوابَها/ وَحْدَها/ كيْ أتَنفّسَ عَميقاً/ كيْ أُرَتِّبَ فَوْرةَ أسئلَةٍ مِثْلَ عاصِفَةٍ/ لمْ يُصدّقِ الأطْفالُ أنَّهُم هَجروا لُعَبَ أزِقَّتِهمْ/ عَنْدَما اخْتَلطتْ عليهِمُ عُطَلٌ بالدِّراسةِ عَنْ بُعدْ/ انْزَوَتْ كُراتُهُمْ حَزينةً بلاَ هدفٍ/ بلا مرْمىَ انطفأتْ نجومُهمْ /كاميراتٌ مجْنونةٌ اسْتَبْدَلتْ وِجْهَتها/ لأنَّ المَلاعِبَ انْتَحَرتْ واللَّاعِبون على مَضضٍ/ قَبلوا تَخفيضَ أُجورِهِمْ /لمْ تُصدِّقِ المدينةُ أنها اكْتشفتْ فَجأةً غيْرَتها مِنَ القُرى/ انْقَلبَ تَيّارُ الهِجْرَةِ على غَرْبٍ مَوْبوءٍ /تَهافتَ مُهاجِرونَ على قَواربِ مَوتٍ/ كيْ يَعُودوا إلى دَواويرِ الفقرٍ المَنيعَةْ..”
يرصد الشاعر محمد بلمو هنا المفارقات العجيبة التي حدثت زمن الوباء..هناك من سنحت له فرصة الفراغ لمراجعة أسئلته وهناك من انقلبت عادته وسجن بين الأسوار المنزلية كالأطفال الذين حرموا من اللعب، هناك من اقتطع من أجره. انقلبت أفكار بأفكار صارت الهجرة نحو القوى المحررة لأن المدينة غزاها الوباء والحجر والمنع..هجرة مضادة فكر فيها كل محتجز داخل مسكنه/ السجن..
وحدها النوافذ إذن تشرع أبوابها، وحدها يقول:
وَحْدَها النّوافِذُ / تشْرعُ أبْوابَها/ وَحْدَها/ كي لا أخْتنقْ/ كي أسْترٍقَّ النَّظَرَ في كُلِّ مرَّةٍ إلى سماءٍ تبْتَعِدْ/ لَمْ تُصدِّقِ الهواتِفُ الذَّكيةُ أنَّ شأنها يَعْلو حَيثُما نَزلَ سِعْرُ النَّفطِ والصَّرفْ/ وأَنّها تُطيحُ بالعَرباتِ عنْ عُروشِها / تسْطُو شاشاتُها على أقْسامِ الدَّرسِ ونَشراتِ الأخبارْ وَأنّها سَحَرَتْ بِلا هوادةٍ أصابعَ الصِّغارِ وعُقول الكِبارْ/لأنَّ القُبْلةَ أصْبَحتْ مَوْقوتَةً والاحتكاكَ قدْ يؤدي إلى مجْزَرَةٍ / وأنَّ لا طريقَ غيْرَها لِعيادَةِ الأحْبابْ/ لمْ يصدِّقِ الرِّجالُ أنَّهمْ لنْ يُغادِروا كُلَّ صَباحٍ/ وأنَّ عليهِمُ التَّأقْلُمَ معَ سَطْوةِ المطبخِ وغَسْلِ الصُّحونْ/ وأنَّ نَفْضَ غُبارٍ سَميكٍ عنْ كتبٍ أعْياها الانْتِظارُ أرْحَمُ مِنْ تسَكُّعٍ ممْنوعٍ/ والأبوابُ أقْفَلتْ أبْوابَها/ كي لا تَتسلَّلَ كائناتٌ غامضةٌ/ والرَّوائِحُ المُزْدحِمةُ اخْتفَتْ فجأةً/ أفْسحَتِ الطّريقَ لنَسيمِ البحْرِ اليَتِيمْ/ واسْتَراحَتِ الأرْصِفةُ مِن أحْذِيَةِ الرَّاجلينَ وعرباتِ الفواكهِ وبائعي السَّجائرِ وعِصاباتِ الحَشيشْ..
بإيقاعه المنساب يتابع الشاعر مطاردة المفارقات عبر جمله الشعرية الومضة، التي تضيء نوافذ العزلة، الهواتف استأسدت وفاقت النفط أهمية لأنها أضحت المادة الخام للعالم في هذا الوقت العصيب أضحت منفذا ونافذة للتدريس وللخروج من النافذة للتحليق في سماوات الحلم ..لزيارات الأحباب..صار المنفذ هو السطح آخر أمل للتطلع إلى المستقبل، صار السؤال في هاته المرحلة كيف ينفذ البشر من مخالب الوباء والعزلة إلى روابي الأمان والنور، يفرون من دفئ القبل/ الموت إلى سجن العزلة والبعد، الخوف من الكائنات الغامضة قلب العالم، وعوالم النفس البشرية اضطربت، صار المنزل حسب الشاعر كأنه عالمنا الكبير والمصغر في آن..لكن الحياة لم تتوقف أبدا بل استمرت، يقول:
وَحْدَها النّوافِذُ / تشْرعُ أبْوابَها/وَحْدَها/ كيْ لا تَموت الحياةُ/ لمْ تُصدِّقِ القِطاراتُ أنّها أصبحتْ بلا جَدوى/ مَحطّاتُها نائِمةٌ دونَ أجِنْدَةٍ/ وأنَّ الكونَ دَخلَ زَمناً آخَرَ / اسْتبْدلَ سِكَّةَ الحديدِ بِطُرقٍ أخْرَى/ وأنْظِمة تَنَقُّلٍ لمْ نَتَعوَّدْ عَليْهاَ/ لمْ تُصدِّقْ مُخابراتٌ أنّها فَقدَتْ طَراوَتها/
أوْ لعلَّها تَجرُّ العالمَ إلى فَخٍّ/ كيْ تَتخلَّصَ مِنْ عِبْءِ طاعِنينَ في السِّنِّ أو لِتَرويجِ سِلَعٍ جديدةٍ أو بِناءٍ على أَنْقاضِ تَدْميرْ/ لمْ أُصدِّقْ أنهُ لا زالَ بإمكاني أنْ أَكتُبَ شِعرًا/ حينَ فاضَ نَهْرُ الأسئلةِ في صَحْرائي/ لمْ تُصدِّقِ العُزْلةُ أنّها لَمْ تَعدْ قَدرَ الشّاعرِ أَو حُرِّيتَهُ / إليْها هَربَ الجَميعُ بِلا اسْتِئذانٍ/خوفًا مِن وحْشٍ مِجْهَرِيٍّ/ يَطرُقُ أَبْوابَ المُدُنِ في صَمتْ/….. / وَحدَها النوافذُ تَسْتحْمِلُ حَماقاتِي
وحْدَها النَّوافِذُ تَسْتحْمِلُ حَماقاتِ العالَم وَحْدَها
حينما يحتمي العالم بالنوافذ، من كائن مجهري تحدث مفارقات شتى كسرا “للزعامات الفارغة للوباء” فالوباء لو وجد منفذا لنفذ منه إلا من النوافذ التي ينبعث منها أكسجين الأمل..كل الفضاءات تعطلت، اختلفت أولويات شعوب باختلاف مرجعياتها. دول أروبية تريد التخلص من فئة لا تنتج، ودول عربية فقيرة تحمي الشيوخ والكهال، لم يصدق الشاعر أنه بوسعه كتابة الشعر زمن الوباء، لكن الشعر وليد العزلة، لذلك استغل الشاعر الفرصة لينتج خريرا من الشعر يترنم به في وقت عصيب، أصبحت فيها العزلة دين كل الناس وديدنهم، وليس فقط الشعراء. لكن على الشاعر أن ينظر من النافذة كي يتنفس شعرا، كي ينجو من مخالب الوباء ويطعنه في ظهره ويغرس مخالب الشعر فيه برذاذ العبارة ووهج المعنى. ليبقى الشعر منفذا وسلاحا في كل وقت وحين يستنجد به الشاعر متى شاء. هنا الشعر وليد النوافذ، لأنها مكان متاح غير ممنوع، تستحمل حماقات الشاعر وحماقات العالم الذي يطل منها عليه.
إن بلمو هنا يغرس مخالب الشعر في وجه الوباء الذي حبس العالم عن الانطلاق نحو الأمام، لكنه يذكر حسنات الوباء إلى جانب مثالبه مؤكدا على نظرة الشاعر التي تتسم دائما بالاتزان والاعتدال والحكمة، رغم جنوحها نحو الخيال والتجريد والتمثيل.
إن بلاغة هذا النص الشعري تتجلى في التعبير بصدق وانسيابية عن ظرف حرج عاشه العالم، من هذا المنطلق يمكن أن نعتبر الشاعر بصفة عامة مدافعا ومحاميا عن العالم بألوانه المتعددة، إلا أنه يمثل راية واحدة تمسى الإنسانية. لقد نجح الشاعر بلمو في إيصال صداه عبر نافذة الشعر بتوظيف جل أساليبه وباتباعه لأقنوم بلاغي داخل نوافذ المعنى، فالشعر إذن رغم جنوحه للتخييل و”الأمثلة” يبقى مساندا للواقع، لأن الشاعر ليس إلا جزء من هذا المشترك أي الواقع الذي يجمعنا. فبلمو محمد إذن قد أصاخ السمع لآهات المجتمع العربي بل العالم ككل في زمن احتمى كل واحد منا فيه بالنوافذ..الشعر أيضا نوافذ متعددة كل يطل منها على ما يريد. لكن بلمو أطل من خلالها على الوباء ..على العالم ..على التفاصيل.
* النص الشعري نشر سنة 2021 في مجموعة شعرية جديدة صدرت للشاعر ضمن منشورات مؤسسة مقاربات تحت عنوان “زر اسود لقتل الربيع”
تعليقات الزوار ( 0 )