هذا سؤال مُربك طرحته مجلة «ذي إيكونوميست» قبل فترة وجيزة. سؤال جازم يفترض إجابة جازمة كذلك، كما لو أن المُطالعة عملية آلية، وأن الإنسان يعرف حجم الوقت الذي يصرفه، كل يوم، في مطالعة كتاب أو جزءٍ منه، مثلما يعرف حجم الوقت الذي يصرفه في وظيفة روتينية. كما لو أن المُطالعة لا تخضع إلى مزاج ولا بد على القارئ أن يكون صارماً في تعامله معها، سواء أحب الكتاب الذي بين يديه، أم لا، المهم أن يقضي وقته في تقليب الصفحات، ثم يعد الكتب التي طالعها طوال حياته.
هذا السؤال يقتضي أيضاً مسابقة القارئ مع نفسه، ويقتضي ـ ضمنياً ـ تعريفاً للقارئ، فأفضل قارئ هو من يُطالع أكبر عدد مُمكن من الكتب، حسبما تفترضه هذه المجلة. بينما التجربة تُخبرنا، أن الفصل بين القراء يتحدد من خلال نوعية الكتب التي يطالعونها وليس عددها.. وليس كل كتاب يستحق أن نضيع معه وقتاً في القراءة. هناك كُتب حررها أصحابها من أجل تضييع الحبر والورق، وليس قصد إفادة الآخرين بمعرفة أو متعة، بالتالي، لا يهم كم تقرأ، بل ماذا تقرأ! لكن قبل الخوض في تفاصيل ما ورد في المجلة، يظل العنوان في حد ذاته عالقاً في الذهن، ونتساءل: هل هناك خطأ في صياغته؟ هل أراد صاحب السؤال قول شيء آخر وخانه التعبير؟ لأن المطالعة مغامرة، وكل مغامرة تحتمل لحظات توقف وانطلاق، وكل كتاب جديد نقرأه ينسينا آخر قرأناه، ولا يعقل أن يقضي الإنسان عمره وهو يخبئ دفتراً في حقيبته يدون فيها الكتب التي قرأها. كما إن هناك كتبا من كثرة ما سمعنا عنها، نشعر بأننا قرأناها. هل تدخل في الحساب كذلك؟ هناك كتب بات بوسعنا مطالعتها سمعياً، هل ندرجها في القائمة؟ هناك كتب نشعر بأننا قرأناها بحكم مشاهدتها مقتبسة في السينما والتلفزيون، هل نضمنها في القائمة؟ لقد وصلنا زمناً باتت فيها المطالعة فعلاً مُتعدد الوسائط، لم تعد محصورة في سياقها التاريخي، في تصفح كتاب من ورق، بل يمكن أن نقرأ بحواسنا الأخرى، لاسيما المشاهدة أو السمع. كما إن السؤال لا يفترض جزئية أخرى مهمة: كم كتاباً نُعيد مطالعته؟ لأن القراءة لا تستوجب مطالعة واحدة، بل هناك كتب نعود إليها أكثر من مرة. فهل كل إعادة قراءة يمكن اعتبارها قراءة منفصلة وتدخل في الحساب؟ إن السؤال المطروح أعلاه يُحيلنا إلى إعادة تعريف معنى القراءة، ويجعلنا نلج حقلاً من الاحتمالات التي لا تنتهي. مع ذلك فإن مجلة «إيكونوميست» غامرت بتقديم إجابة، ووضعت القارئ في حرج آخر.
770 كتاباً
استعانت المجلة البريطانية بشركة سبر الآراء الشهيرة «يوغوف» وهي شركة مُتخصصة في دراسة أحوال الأسواق، سواء سوق الكتاب، أو غيره، وبإجراء مسح لمعطيات كل سوق، وطرح استطلاعات رأي وسبر للآراء. وبناءً على عينة من 1500 قارئ أمريكي، شرعت «ذي إيكونوميست» في الإجابة على سؤالها المُتشعب. المعضلة الأولى التي واجهتها أن 46% من الذين أجابوا على السؤال أقروا بأنهم لم يقرؤوا ولا كتابا واحدا العام الماضي. فالمطالعة تخضع للمزاج وإلى الحالة النفسية التي يمور فيها الشخص. يحصل أن نرغب في مطالعة كتاب، ولكن ظروفاً حياتية تمنع عنا الاستجابة إلى تلك الرغبة. كما إننا في عالم مُتحول، حيث الانشغالات اليومية تبدو مثل نهر لا مصب له، والناس يقضون نهارهم وليلهم بين وظائفهم ووسائل نقل، بين واجبات وزحمة مرور، بين مشاريع والتزامات عائلية، بين تنقلات وخمول، بين نشاط ومرض، لهذا لا يمكن القول إن المطالعة ترف فحسب، بل هي مشقة في توفير الوقت لها. لذلك فقد اضطرت المجلة إلى تقليص هامش الاحتمالات، وبناء نتائجها على أساس 54% من المستجوبين. وجاءت الإجابات أن الأفراد الذين خضعوا إلى استطلاع الرأي طالعوا ما معدله 11 كتاباً العام الماضي. هذه النتيجة أفادتهم بخلاصة مفادها، أن كل إنسان يبدأ القراءة منذ سن السابعة من عمره، وفي حال عاش ضمن معدل العمر الإنساني (84 سنة) فسيكون بوسعه مطالعة 770 كتاباً قبل أن يموت. قد يبدو في سياق عربي أن الرقم كبير، فمن يمتلك الجهد والوقت قصد قراءة هذا الكم من الكتب؟ لكن المجلة أعقبت هذا الرقم بجملة تفيد بحسرة، وتقول إنه رقم ضئيل جداً. هنا أيضاً تبرز الفوارق بين قارئ غربي وآخر عربي، حيث إن مطالعة كتاب واحد، في العام، باتت إنجازاً في مجتمعاتنا، بينما مطالعة مئات الكتب في مكان آخر تعد رقماً بسيطاً يستوجب الحسرة.
تسونامي الكتب
حسب إحصائيات تقديرية، فمنذ أن جرى تعميم استخدام المطبعة في القرن السادس عشر وإلى غاية اليوم صدر ما يقرب من 160 مليون عنوان. إذا صدقنا هذا الرقم فإن الإنسان يقضي حياته وهو لم يقرأ سوى 0.003% من العناوين التي صدرت. فمهما بالغنا في المطالعة، ومهما صرفنا من وقتنا ومالنا من أجل الكتب، فإننا لن نبلغ سوى رقم ضئيل مما صدر أو يصدر كل سنة. بالتالي فإننا إزاء معادلة غير متوازنة، من جهة تسونامي في عدد الكتب التي تصدر، والتي يتضاعف عددها كل عام نظير تطور وسائل الطباعة وشيوعها وسهولتها، بالمقابل قارئ يحيا تحت ضغط انشغالات يومية تمتص كامل جهده، ولا يسعه متابعتها كلها.
هذه النتائج ألزمت مجلة «ذي أيكونوميست» إلى مراجعة سؤالها الأولي، وأردفت أن ليس كل الكتب التي تخرج من المطابع تستحق المطالعة، مركزة على الأعمال الكلاسيكية، التي صمدت على مرّ السنين، ثم أتاحت قائمة ﺑ770 كتاباً من الكلاسيكيات تستحق أن ينصب عليها اهتمام القارئ (يمكن إتمامها إذا عاش القارئ 84 سنة وقرأ بمعدل نصف ساعة كل يوم). بهذه الطريقة ناقضت المجلة نفسها مرة أخرى ولعبت دوراً في توجيه الذائقة، كما لو أن القارئ يكفيه العودة إلى الأعمال القديمة والانفصال عما يصدر في الحقبة المعاصرة. في هذا الاستطلاع للرأي المثير، الذي تناقلته وسائل إعلام عالمية، في الأيام الأخيرة، يتجلى مأزق المطالعة، وأن العملية ليست تسلية كما يفكر البعض، ولا تمضية للوقت، بل المطالعة لا بد أن تكون وظيفة قائمة في حد ذاتها، إذا أراد شخص أن يدخل في عداد القراء.
تعليقات الزوار ( 0 )