لقي كتاب آلان دونو “نظام التفاهة” اهتماما منقطع النظير بعد صدوره، إنه حقا مؤَلّفٌ جدير بالقراءة والتمعن والترجمة. تدور فكرته الرئيسة حول طرق سيطرة التافهين وذوي الإمكانيات البسيطة والمحدودة، تدريجيا، على مفاصل الدولة الحديثة وتبوئهم المناصب العليا والدنيا على السواء. يتتبع دونو في كتابه هذا الصعود الغريب لكل ما يتسم بالرداءة والانحطاط والابتذال، ويُقدم أسبابا وتفسيرات للمفارقة التالية: إبعاد الكفاءات وتسيُّدِ شريحة من التافهين والجاهلين من ذوي البساطة الفكرية ممن يتكاثرون بسرعة غير مسبوقة. لكن السؤال المطروح : من أين يستمد التافه كفاءته … وبالتالي سطوته ؟! يجيب دونو: من ” خلال قدرة التافه على التعرف على شخصٍ تافهٍ مثله” ويستطرد: “معا، يدعم التافهون بعضهم بعضا، فيرفع كل منهم الآخر”….!!
في سنة سنة 2013م نشر الكسندر أفونسو بحثا بعنوان مميز ومستفز: “كيف تشبه الأكاديميا عصابة المخدرات”؟، ووفقا لماري إيف ماييه التي تحمل شهادة الدكتوراه في ميدان الاتصالات، فإن طلبة الدراسات العليا يتم استخدامهم كأدوات من قبل أساتذتهم الذين يكونون بحاجة إلى الاستعانة بمصادر خارجية لأعمالهم الإضافية التي يتلقون عليها الراتب الشهري، ولذلك فهم بحاجة لقيام طلبة الدكتوراه بكتابة أجزاء كبيرة من أبحاثهم أو تصحيح فروضهم أو مساعدتهم في حراسة الامتحانات، ويستغلونهم أيضا في تدريس العديد من المقررات التي لا يعود بمقدورهم تدريسها لكونهم مشغولين بحضور اجتماعات القسم ولجان الكلية وغيرها من الاجتماعات المتعددة والتافهة، أو لانشغالهم بأغراضهم الشخصية وحياتهم اليومية. بهذا السلوك يخلق الأكاديمي الفاشل حالة من الاستياء لدى طلبة الدكتوراه الآخرين ممن يتسمون بالاستقلالية ولدى الباحثين المجدين لأن هؤلاء ينشرون –في نظرهم وهم محقون- قيما سلبية ويخلقون اللاتكافؤ في الفرص.
وقد قامت تيفن ريفيير – وهي طالبة الدراسات العليا- بكشف بعضِ من هذه المنزلقات في كتاب لاذع جدا، وصفت فيه الجوانب التعسفية العديدة التي تنتشر في الحياة الجامعية، فصورت الخصومات الداخلية القاتلة بين الأساتذة الذين يستخدمون الطلبة كوكلاء عنهم في الصراعات والتقاطبات، وبينت أن العلاقات الثقافية بين الطلبة ولأساتذة مبنية في جزء منها على المراوغات الخطابية، وعلى قواعد اللعبة، والتي هي قواعد غير مكتوبة، لكنها ذات طبيعة معتادة وفعالة ولو أنها غير رسمية (عرفية)، والتي يجب اتباعها والخضوع لها، ففي هذه البيئة السلبية وجب أن ينقاد لقواعد اللعبة كل من أراد تحقيق أهدافه لا أن يهتم بالنشر والتأليف في المجلات المحكمة، وتشمل اللعبة المذكورة المشاركة الدائمة في بعض “الطقوس”، منها على سبيل المثال تهنئة أستاذ حين يكتب مقالته بالقول: “إنه ممتاز ورائع” أو التعبير بعبارة مشهورة: “إنه عمل سيغني المكتبة العالمية”، مع أن المُهنئ لم يقرأ المقال أصلا وإنما سمع عنه لا غير أو شاهد عنوانه في صفحة أو إعلان، وقد يكون المقال خلاف ذلك تماما، فهزالته قد تبدو واضحة للجميع، إذ قد لا يعدو أن يكون تكرارا لما سبقت كتابته أو اختصارا وتدويرا لمعرفة متداولة. يثبت هذا الطقس الضروري نوعا من الولاء للمجموعة والمعبر عن الانقياد، والجانب الخفي في هذه الطقوس ذلك العنف الرمزي المبطن اتجاه المخالفين والذي يتحول مع مرور الوقت إلى عنف مادي ملموس، فعدم الولاء يُعاقب عليه من طرف المجموعات المشكلة في ظل هذه البيئة الرديئة بالإقصاء الممنهج، فهذه القواعد تطبق على يد سُلط ولجان فاسدة تستغلها بطرق ملتوية، وهي قواعد وضعها اللاعبون مُسبقا لفرض قواعدهم على الآخرين، وهذه القواعد تنطوي حسب الباحثة المذكورة سابقا على غش وعلى نهج غير أخلاقي. إن اللعبة هكذا هي لا يمكن الخروج عليها أو التمرد عليها، فمن لم يخضع لقواعد الولاء يغيب عن النظام التنافسي العادل ويجد نفسه على الهامش.
وهذه القواعد غالبا ما تكون دائما في صالح الضعفاء والمتملقين ممن ينساقون خلفها ويتقيدون بها تطبيقا، فهي حاضرة في سلوكياتهم يستحضرونها تحقيقا لمآربهم الشخصية، وهكذا يفتح المجال رويدا رويدا أمام التافهين ومحدودي المعارف للتسيد، أما الذين يفكرون بشكل أوسع ويكتبون ويؤلفون خارج المجموعة فإنهم يظلون خارج قواعد اللعبة. ولهذا لابد أن تنتمي لنظام الدجالين هذا لتحقق النجاح، فلهؤلاء حماة خاصون في كل مكان، ويعتبر “الأستاذ الدجال” -بتعبيرها- لاعبا محميا من أصدقائه ومعارفه ومن الشبكات التي تأسست منذ سنوات. يسمح الموقع لهؤلاء التافهين لا مكانتهم العلمية بالإشراف على اللعبة والسهر على سلامة قواعدها، وهم يستخدمون القوانين الرسمية للتغلب على خصومهم، يضعون الشبكات على المقاسات، وهم في ذلك متعسفون وظالمون وانتهازيون، يقومون بأفعالهم الشائنة بالرغم من أن ذلك يحط من قيمتهم العلمية ومكانتهم الاعتبارية، فلا مكان للخجل والمعرة في قاموسهم. لا حل إلا لتمتين العلاقات مع من استحدثوا هذه القواعد، ولهذا يدفع الباحثون المزعجون للمتنفذين والتافهين الثمن جراء مواقفهم وأفكارهم، حيث تتم مضايقتهم وعرقلة مسارهم الجامعي، فالمعايير والشبكات تقيد هؤلاء وتخنقهم، لأن التميز غير مُحتفى به، بل هو الخطر الواجب الاحتراس منه، وهذا نوع من الافلاس الأخلاقي الذي أصبح سائدا في الجامعة اليوم، ومن يريد الدفاع عن المعايير والشبكات والنزاهة التي لا توجد إلا في ذهنه إنما يدافع عن سراب لا غير.
تعليقات الزوار ( 0 )