شارك المقال
  • تم النسخ

قراءة في كتاب: “حراك الريف في مساءلة: حكامة الأزمة وأزمة الحكامة”

الكتاب عبارة عن جملة أسئلة يطرحها الكاتب لمساءلة الحراك على ضوء التجارب الديموقراطية التي يعرفها العالم المعاصر. وكذا على ضوء نظريات علم النفس الاجتماعي وبيداغوجيا النمو عند الأفراد والجماعات والمؤسسات.

يعتبر السؤال بداية حقّا مشروعا. ولولاه لما تكلّمنا عن التقدّم والنمو. إذ أنّه يغذّي النقد الذاتي والاستفادة من الأخطاء والعثرات قبل الوصول الى حلّ يخدم المصلحة العامّة للمجتمع. ومن هنا لا تخرج الأسئلة التي قدّمها الكاتب عن هذا الإطار. فمن سؤال لماذا الحراك إلى مدى الإجماع حوله وكذا شرعيته ثمّ دور الرقمنة وعالم الاتصال المعاصرة في صنعه. كلّها أسئلة تستفزّ الذات والضمير وتبحث عن بدائل قد تكون أقوى منها وأنضج. لا يكتفي الكاتب بهذه الأسئلة بل يختمها بالسؤال/البديل المتمثل في الاقتصاد الاجتماعي التضامني قبل أن يعود الى الريف والشتات، وكأنّه بذلك يريد أن يقول لنا إن الريفي -كما الشاوي والسوسي- قادر على مواصلة التحدّي وتحقيق الذات عبر آليات المشاركة المباشرة والمساهمة الناجعة في بناء مجتمع ديموقراطي متعدّد.

السؤال الأول في الكتاب يحفر في السير الإنساني نحو الأمام مشبّها إيّاه بنموّ الطفل وهو ينتقّل من رحم الأم الى فضاء أرحب وأوسع يبحث فيه عن التوازن قبل أن ينتهي بالتكيّف وإرادة النمو الذاتي. هذا الطفل الذي يدعونا أن نكون في مستوى جرأته في طرح السؤال، يتطابق تماما وبالقياس مع ثقافة الحراك التي خرجت من بيئة محتضنة له إلى أخرى جديدة لكي يطور نفسه في علاقة مع التحولات النفسية-الاجتماعية. إنه تحسّن متواصل عن طريق التعلّم غير المتقطّع. هنا يدعونا الكاتب بمواصلة التأمل الذاتي ومعه لا تتوقّف المجموعات والمؤسسات عن تعلّم التعلم. إنّها براديغم/أنموذج جديد للتعلّم وصلت إليها المدرسة والمؤسسة التعليمية الحالية. وعليه فإنّ رؤية الكاتب تتجلّى في هذا التأمّل المصاحب للوعي الذي يشبهه بخطى الحلزون الحثيثة والناجعة في الآن لأنّه سيصل ولا شكّ في ذلك في اللحظة المناسبة أو الجيّدة.

أمّا السؤال الثاني فهو سؤال الشرعيّة والمشروعيّة. لا يكتفي الكاتب بمسايرة القائلين بالإثبات أو بنعم، وإنما يسأل من جديد وعلى طريقة سقراط: ولكن لماذا؟ إنّ المساهمة في المجتمع لا يحدّه التصويت في الانتخابات، بل تتعداه الى المشاركة الاقتصادية عن طريق العمل ودفع الضرائب إلى المساهمة في تسيير الشأن العام محليّا أو وطنيا. وهذا ما يعطي للمواطنة وللمدنية معنى. والمشاركة تأتي إمّا عن طريق الديموقراطية التمثيليّة أو عن طريق الديموقراطية الاجتماعية. ويأتي الحراك ضمن الآلية الثانية أي ضمن الديموقراطية الاجتماعية الّتي تنضاف الى الإضراب والاستفتاء الشعبي المباشر، وكلّ هذا في إطار الحق في التظاهر والتجمهر وغيرها. غير أنّ هذا كلّه متوقّف على التقليد الديموقراطي ومدى تدخّلية أو تسلّطية الدولة، وكذا نسبة الأميّة والتمدرس والوعي والقراءة. وفوق ذلك فالحياة السياسيّة والفضاء العامّ لا تحكماه فقط ثنائية الحقّ والواجب بقدر ما تنضاف إليه عنصر الحاجة وفق نظريّة/هرميّة ماسلاوْ (1908-1970). وهل الدولة العميقة مستعدّة للمضي نحو ليبرالية اجتماعية تحترم الحقوق وتسهر على تلبية حاجيات المواطنين؟ هذا ينقلنا الى التساؤل الموالي.

يتمحور السؤال الثالث هنا حول “لااجماعية” الحراك، ولا يهم الجواب هنا بنعم أو لا، وإنما بالجواب على هذا السؤال الأساسي لماذا؟ يتطرّق هذا الفصل الى الحفر في أسباب هذا الخلاف أو عدم الإجماع، ويختصرها في عوامل بشرية وتاريخيّة وأمنيّة وسياسيّة.

 إنّ الحراك صراع اقتصاديّ-اجتماعيّ، والصراع هنا عاديّ جدّا في ظلّ مجتمع متحرّك ومتعدّد ثقافيّا وفكريّا، لكنّ هذا يتطلّب الحوار بين الفرقاء والإصغاء الى الآخر. والصراع نلاحظه أيضا في العلوم الحقّة حيث النسبيّة وعدم اليقين. وهناك نظريّة في التعلّم تسعفنا أكثر لفهم تفاعل الأشخاص مع محيطهم وهي نظريّة البنائية الاجتماعية. إذ الوعي والتعلّم يقاسان بمدى تفاعلهما الإيجابي ومساهمتهما في بناء المجتمع. وإذا كان العامل التاريخي هو عامل الخوف والحذر بين الدولة وأهل الريف فإنّ العامل الأمني لا ينفكّ عن هذا المنحى. فمن خوف بمآلات سورية وعراقية وحتى مصرية ثانية إلى الخوف من الانفصال رغم ما يثبت عكس ذلك. غير أن هذا الخوف ينبغي ألا يحجب المطالب الشرعية لساكنة المنطقة، والمتمثّلة في مستشفى ومدرسة وشغل. أي ما ينبغي أن يقود إلى العامل السياسي وحسن التّدبير والإدارة.

لقد دأب النّظام وفق النظرية السلوكية في علم النّفس إلى وضع الطابوهات التي لا يجوز الخروج عنها مهما كنت معارضا ومنتقدا لهذا النظام لكن الحراك استطاع أن يكسّر ذلك وأن يضع الثقب في الجدار. وهناك طريقة أخرى في التعلّم وهي طريقة بدأت تظهر منذ الثمانينات من القرن الماضي، تعطي أهمّية قصوى للمفاهيم وللبنيات المفاهيمية ودور هذه الأخيرة في بناء وإعطاء المعنى لدى الإنسان كما يذهب الى ذلك نوفاك. إنّه مفهوم يجد جذوره في الماضي وفي الرشديّة الّذي يميّز بين الشكل الخارجي والصورة الذهنيّة الداخلية.  وكمثال رشديّ على ذلك يتجلّى في رؤية الذّئب، الّذي سرعان ما يوقظ الإحساس بالخوف عند الخروف. وهذا شعور ذهني قد لا يكون له بالضرورة علاقة بالخطر. وكثير من المغاربة عارضوا الحراك في الريف المغربي خوفا من العقاب بينما ساندوا الحراك الجزائري. وعلى المستوى السّياسي فإنّه من المفروض أن تكون القوانين هي الموجّهة للسلوك وليست الانطباعات والضغط. إنّ إحداث القطيعة مع الماضي يتطلّب المزيد من الوقت ويسير بخطى بطيئة هذا ما عوّدتنا الاكتشافات الكبرى في أوروبا والتي اصطدمت في بدايتها مع تقاليد القرون الوسطى، قبل أن تنتهي إلى مركزيّة الإنسان الصانع لقدره. إنّه الدخول في لعبة نفسيّة بين الآباء والأبناء تحتاج الى إرادة سياسيّة وديموقراطية تجد حوافزها في عوامل داخلية مثل العامل المعرفي الإبيستيمي المتمحور حول لذّة العطاء والأخذ كما الإحساس بالانتماء إلى المجموعة وأخرى خارجيّة مثل الإيجابيات الماديّة التي توفّرها المساهمة في تنمية اقتصاد قويّ للوطن.

بقدر ما يسائل عبد الحافظ الداودي الحراك من جهة والدولة من جهة ثانية، ومن يقف مع هذا الطرف أو ذاك أو معهما معا من جهة ثالثة، بقدر ما يكون من حقّنا أيضا أن نسائل صاحبنا حول الإسقاطات التي قام بها. وهل تصلح النظريات والممارسات التي جاء بها من سياقات مختلفة. ولا يكفينا هنا القول رغم مشروعيته بدعوى كونيتها وشموليتها التي راح يعتمدها كأساس ومرجعيّة في تحليله للمواقف المختلفة وفي سياق يقوم على ثنائية الدولة السلطانية التقليديّة والاستعارة الشكليّة لمفاهيم الدولة الحديثة. 

أوّلا: هل يمكن استعارة تجربة أمريكا الشماليّة وفرنسا وغيرها من أجل الحديث عن الديموقراطية الاجتماعية ونحن نعرف أنه تاريخيّا ما تقدمت هذه الدول الّا على أسس أخرى منها ما هو في تضاد مع قيم الحداثة والأنوار نفسها. إنّ ما يسمى ديموقراطية اجتماعية هي عبارة عن تنازلات قامت بها الدولة في ظروف معيّنة وتحت وطأة الحرب الأهليّة والهجرة الى القارّة الجديدة وتحت مسمّى الطهرانيّة والأرض الموعودة. وبالتالي فإنّ أيّة قراءة تغفل هذا الجانب تبقى قراءة مبتورة. نعم لقد تمّ ترسيخ قيم الديموقراطية الاجتماعية في هذه الدول إلى جانب الليبرالية والحريات الفردية. لكنه غالبا ما يتم تحويل وجهتها نحو الإجهاز على الحقوق التي تمت مراكمتها والتي بلغت ذروتها في ثلاثين سنة الذهبيّة بعد الحرب. ومرّة أخرى الحاجة الى اليد العاملة خلال هذه الفترة لا يمكن إغفاله. ولنا أن نقرأ خريطة العالم المتقدم اليوم من الناحية الجيوسياسية وسنرى تفاقما للأوضاع، والحديث عن كوارث بيئيّة وحلول التقانة محل اليد العاملة الكلاسيكية بل حتى محل الإنتليجينسيا منها في مقبلات الأيّام.

ثانيا: إنّ الحقوق الاجتماعية المرفوعة في حراك الريف المغربي لا يمكن التقليل من مشروعيّتها، ولست بحاجة هنا لشرح لماذا نحن محتاجون إلى مستشفى وإلى مدرسة ومقاولة، لكنّني أريد أن أقول إنّ هذه المهامّ تاريخيّا وفي السياق المغربي الإسلامي كانت من نصيب المجتمع. وحتى في أوروبا ورغم تغوّل الدولة الحديثة فإن العديد من المدارس والمستشفيات تابعة للمجتمع الأهلي المسيحيّ بالخصوص. أمّا العمل فهو من خلق الأفراد وأصحاب رؤوس الأموال. وإذا كان هناك نضال حقيقيّ للحقوق فينبغي في نظري أن يتجه في هذا المنحى. ويمكن الاستشهاد هنا بمستشفى تصفية الكلى بميضار وسط الريف شمال المغرب، وبمجموعة من المدارس الخاصّة والمدارس العتيقة التي كانت تابعة للمجتمع. النضال إذن يكمن في الضغط على الدولة من أجل توفير البنية التحتية التي تدفع وتمول من جيوب وضرائب المواطنين. الضغط عليها لكي تحمي مواطنيها من المنافسة الخارجية لكبريات الشركات. إن المشاريع السالفة يمكن تمويلها عن طريق الاقتصاد التضامني والأساليب التقليدية التي تعرفها المجتمعات الدينية بصفة عامة أي الصدقة والزكاة والوقف وغيرها. 

ثالثا: ليس صحيحا أن المجتمع قد انتقل الى مرحلة الوعي وإعادة تصحيح المفاهيم وإنتاج أخرى بما يساهم في تنميته المعرفيّة والماديّة، بل نحن نعيش مرحلة السلوكية وردّة الفعل الشرطي في أعلى صوره. على الأقل نلاحظ هنا ومنذ حرب الخليج الأولى سيطرة قنوات العرب الجديدة ودورها في إثارة عواطف الملايين من المحرومين. أذكر هنا الدور القاتل للجزيرة وأخواتها وكيف أرست شعارات بطولة فارغة من أيّة مشاريع حقيقيّة. اللهمّ مشروع الشجاعة والشهادة والظهور أمام الملأ بصدر عار وشعارات جوفاء كما فعل الشهيد مرسي رحمه الله عندما لم يقدر حجم الاستبداد والطغيان. بل إنه ّ لم يقدر حجم الجماعات الطفيليّة المتحالفة مع هذا الاستبداد العسكري ذات الولاء الديني الثيوقراطي والماركسي الأبوقراطي.

رابعا: إنّ الحديث عن الوعي يبدأ بالحفر أوّلا في الأفكار والسلوكات النفسيّة والاجتماعية التي تعيشها منطقة الريف والمنطقة الشرقية والمجتمع المغربي والمغاربي برمّته. الحفر في سلوك الاستهلاك وفي ثقافة التضامن التي بدأت تتراجع بشكل خطير جدّا إذ المثل “ويتطّس أرغيقّن موش” (لا ينام حتى يحبس القط) صار ينطبق علينا حرفيّا. ولا نستفيق من غفلتنا إلا في المواسم الدينية وفي الكوارث: رمضان، زلزال الحسيمة… بل الحفر في ثقافة الحق الذي غالبا ما يقدم على الواجب وهي ثقافة أملتها الديموقراطية الاجتماعية والخوف من المستقبل. 

في الختام أقول إنه لابدّ من مصالحة حقيقية بين الدولة وطوائف المجتمع المختلفة. المصالحة عن طريق إيجاد الدولة لأساسيات العيش الكريم الدنيا وحماية المشترك أو الملك العامّ الذي هو ملك لجميع المغاربة. ثم إعطاء الفرصة للاستثمار والتشمير على السواعد والعقول. وهذا يحتاج إلى ثورة الوعي وإلى دراسات وممارسات ميدانية ثم إلى تحريك للبرك الثقافية الآسنة، البرك التي تعفّنت في حرب أيديولوجية ضروس تحت شعارات الاشتراكية والإسلام والتي نحن في غنى عنها.  

*باحث مغربي-بلجيكي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي