عقد مجلس حقوق الإنسان بجنيف التابع للأمم المتحدة، في دورته الحالية الـ49، الممتدة من 28 فبراير إلى 1 أبريل 2022، اجتماعا استثنائيا، يوم 28 فبراير 2022، وفق البند 1 من أجندة أعمال مجلس حقوق الإنسان، للنظر في الوضع الحقوقي في أوكرانيا، حيث تم اعتماد القرار رقم 49.1 بتاريخ 4 مارس، بعد أن صوتت لصالحه 32 دولة، واعترضت عليه دولتان (إريتريا وروسيا)، وامتنعت عن التوصيت 13 دولة، وذلك من مجموع 47 دولة أعضاء المجلس.
على إثر هذا القرار، طرح عدد من المتتبعين عددا من الأسئلة، نجملها في ما يلي:
أولا: ما هو مضمون قرار مجلس حقوق الإنسان؟
قرار مجلس حقوق الإنسان وصف العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها “عدوان”، وسجل حدوث انتهاكات لحقوق اﻹنسان وتجاوزات وانتهاكات للقانون اﻹنساني الدولي، ناجمة عن هذا العدوان، وأكد على التزامه القوي بسيادة أوكرانيا واستقلالها السياسي ووحدتها وسلامة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دوليًا، والتي تمتد إلى مياهها الإقليمية، ودعا إلى الانسحاب السريع والقابل للتحقق لقوات الاتحاد الروسي والجماعات المسلحة المدعومة من روسيا من كامل أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دولياً، وكذلك من مياهها الإقليمية، من أجل منع المزيد من الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الإنساني الدولي في البلاد، وأكد الحاجة الملحة للوقف الفوري للأعمال العدائية العسكرية ضد أوكرانيا.
أما بخصوص الفارين، فإن مجلس حقوق الإنسان أكد على وجوب حماية جميع الفارين من النزاع في أوكرانيا دون تمييز، بما في ذلك التمييز على أساس الهوية العرقية والقومية.
كما قرر مجلس حقوق الإنسان إنشاء لجنة تحقيق دولية مستقلة، مع ضمان المساءلة عن انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان وانتهاكات القانون الإنساني الدولي، مع مطالبته جميع الأطراف والدول المعنية والمجتمع المدني ووسائط الإعلام والجهات المعنية الأخرى بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق لتمكينها من الاضطلاع بولايتها على نحو فعال، ويرتكز عمل اللجنة على: التحقيق في جميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة لحقوق الإنسان، جمع وتوحيد وتحليل الأدلة على هذه الانتهاكات والتجاوزات، بما في ذلك البعد الجنساني، والقيام، حيثما أمكن، بتحديد الأفراد والكيانات المسؤولين عن انتهاكات أو تجاوزات حقوق الإنسان…
ثانيا: لماذا لم يصوت المغرب على هذا القرار؟ وما موقفه منه؟
من حيث الشكل، المغرب لم يكن معنيا بالتصويت على هذا القرار، لأنه ليس عضوا بمجلس حقوق الإنسان المكون من 47 دولة، ولكنه ملزم بتطبيقه بعد أن تم اعتماده.
أما من حيث الموضوع، فإن موقف المغرب يتطابق مع هذا القرار، سواء من خلال بلاغ وزارة الخارجية المغربية، أو من خلال كلمة السيد عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، التي ألقاها أمام المجلس بنفس التاريخ، أي في 28 فبراير 2022، حيث قال: “إن المغرب يجدد دعمه للوحدة الترابية والوطنية لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، كما يؤكد عدم اللجوء للقوة من أجل تسوية النزاعات الدولية”. وأضاف أن المغرب يدعو إلى “مبادرات وإجراءات تساهم في تعزيز التسوية السلمية للنزاعات”… وهذا الموقف نجده في قرار مجلس حقوق الإنسان السالف الذكر، والذي نص على دور “محكمة العدل الدولية في تسوية المنازعات القانونية التي تعرضها عليها الدول، وفقا للقانون الدولي”، كما أكد على “ضرورة بذل أقصى الجهود من أجل تسوية أي نزاعات أو منازعات بين الدول بالوسائل السلمية حصرا”.
ثالثا: امتناع المغرب عن الحضور في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة
للتوضيح، إن ميثاق الأمم المتحدة، الموقّع في مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1945، ينصّ، في الفقرة الثانية من المادة 11، على أن ” للجمعية العامة أن تناقش أية مسألة يكون لها صلة بحفظ السلم والأمن الدولي يرفعها إليها أي عضو من أعضاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو دولة ليست من أعضائها وفقاً لأحكام الفقرة الثانية من المادة 35، ولها –في ما عدا ما تنصّ عليه المادة 12- أن تقدّم توصياتها بصدد هذه المسائل للدولة أو الدول صاحبة الشأن أو لمجلس الأمن أو لكليهما معاً. وكل مسألة مما تقدّم ذكره يكون من الضروري فيها القيام بعمل ما، ينبغي أن تحيلها الجمعية العامة على مجلس الأمن قبل بحثها أو بعده”.
إذن القرار الصادر عن الجمعية العامة أمامه مسطرتان، الأولى أن يقدم هذا القرار لمن طلبه، أي الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، والمسطرة الثانية لمجلس الأمن.
المسطرة الأولى، أي تقديم القرار إلى الاتحاد الاوربي وأوكرانيا، وبالتالي السؤال: ماذا بعد؟ فالواقع أن الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا في قلب النزاع الحالي.
المسطرة الثانية، أي أن يوجه القرار إلى مجلس الأمن، وبالتالي، ماذا بعد؟ سوف يُرفض باستعمال روسيا لحقها في الفيتو.
يُضاف إلى ذلك أن المادة 12 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه “عندما يباشر مجلس الأمن، بصدد نزاع أو موقف ما، الوظائف التي رسمت في الميثاق، فليس للجمعية العامة أن تقدّم أية توصية في شأن هذا النزاع أو الموقف إلاّ إذا طلب ذلك منها مجلس الأمن”، وبالتالي سيكون الفيتو الروسي أمام هذا القرار.
وبناء على المادتين المذكورتين، فإن قرار الجمعية العامة لا قيمة عملية له، مما يعني أن التصويت كان بهدفين سياسيين، الأول لحفظ ماء وجه الأمم المتحدة حتى لا تظهر أنها صامتة وعاجزة عن التدخل، والهدف الثاني وهو الأخطر، يتمثّل في صنع نوع من الاصطفاف الدولي: من مع روسيا ومن مع الغرب بقيادة أمريكا. وعدم مشاركة المغرب في هذه “المسرحية” الدولية، يعتبر نوعا من “الرزانة الديبلوماسية”، خاصة وأن المغرب له ملف الصحراء داخل أروقة مجلس الأمن.
رابعا: قرار مجلس حقوق الإنسان وحدود تدخّل الأمم المتحدة
يطرح قرار مجلس حقوق الإنسان سؤالا ملحّا حول قوته وقدرة الأمم المتحدة في وقف الاعمال العسكرية؟ فمن جهة، تبدو الأمم المتحدة عاجزة الآن عن حماية المدنيين الأوكرانيين، ومن جهة أخرى، فُتح الباب للقول إن الأمم المتحدة تتعامل بمكيالين، إذ لم تتحرك بخصوص العراق وليبيا وسوريا واليمن بنفس القوة التي تتحرك بها تجاه أوكرانيا؟
يجب توضيح عدد من المسائل:
أولها، هناك تمييز بين عدة مستويات في منظومة الأمم المتحدة، وتختلف هذه المستويات جغرافيا أيضا بخصوص العواصم، فهناك المستوى القضائي، ونتحدث عن محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية وهو مستوى جنائي، ويتواجد بلاهاي، وهناك المستوى الحقوقي، ومنظومته مجلس حقوق الإنسان بجنيف، وهناك مستوى سياسي أو السياسة الدولية، والتي يحكمها منطق آخر، ومن آلياته مجلس الأمن، هذا الأخير توجد فيه دول كبرى تتمتع بحق الفيتو، وهي فرنسا وروسيا والصين وأمريكا وبريطانيا، ويحكمها منطق المصالح الدولية، حيث يمكنها تعطيل الآليات الحقوقية لصالح المصالح الجيوسياسية، وكمثال على ذلك رفض مجلس الأمن الدولي، عبر استعمال أمريكا لحق الفيتو بخصوص “تقرير غولدستن” في شتنبر 2009، الذي اتهم فيه مجلسُ حقوق الإنسان إسرائيل بارتكابها لجرائم حرب.
بالعودة، إلى الوضع الحالي، فهناك عشرات من التقارير الحقوقية، التي تدين ما يقع في عدد من الدول العربية، فمثلا تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص قتل الأطفال والمدنيين في اليمن، والذي اضطر فيه الأمين العام إلى سحبه كما صرح “لحماية أطفال اخرين” بسبب الضغوطات الدولية.
نفس الشيء بخصوص سوريا والعراق، حيث اتهم الجيش الأمريكي بارتكابه عددا من جرائم حرب وانتهاكات حقوقية جسيمة، خاصة بعد فضيحة سجن أبو غريب. إذن هناك مجهودات على مستوى الولاية الحقوقية والولاية القضائية، ولكنهما تصطدمان بالمستوى السياسي داخل مجلس الأمن، وهذا واقع منظومة الأمم المتحدة، التي ورثناها بعد الحرب العالمية الثانية.
ملاحظة أخرى، تكمن في دعاية دولية، حول كون العالم أصبح أكثر أمنا وسلاما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي دعاية مشوّهة، فيكفي تتبّع مسارات الحروب من 1945 إلى الآن، حيث لم تقف الآلات العسكرية، حرب فيتنام (1955-1965)، حرب قناة السويس والعدوان على مصر (1956)، حرب أفغانستان (1979-1989)، حرب الخليج الأولى والثانية، حرب يوغسلافيا السابقة (1992-1995)، غزو أمريكا لأفغانستان والعراق وسوريا واليمن، حروب فرنسا في أفريقيا وخاصة مالي، وصولا اليوم إلى حرب أوكرانيا.
خلاصة القول، إن العالم لم يضع أسلحته بعد الحرب العالمية الثانية كما تدعي الداعية الدولية، بالعكس، فما يقع الآن هو تحوّل في كنه وموضوع الحروب. سابقا كانت حروب نقول عنها تقليدية، أي جيوش في مواجهة جيوش، أما اليوم، فنحن أمام تحديد لحرب نووية، وهذه الأخيرة تتجاوز البعد التقليدي بالبحث عن المنتصر والمنهزم، هي حربٌ الكلُّ فيها منهزمٌ والكل خاسرٌ، حربٌ شاملةٌ.
لهذا أخذت حرب أوكرانيا نقاشاتٍ وأبعادًا أكبر وأخطر، لأن ما يقع هناك يهدد كوكب الأرض كليا.
خامسا: حرب أوكرانيا والنفاق الأوروبي والتمييز والعنصرية
أظهرت حرب أوكرانيا ما سماه البعض بالنفاق الأوروبي بخصوص حقوق الإنسان تجاه اللاجئين الأوكرانيين، بخلاف ما يقع مع اللاجئين من سوريا والعراق!
وتظهر بالفعل عدد من تجليات التمييز من قبل بعض القادة أو الفاعلين الأوروبيين غير الرسميين، ولكن يجب عدم التعميم.
انتشرت تصريحات تمييزية وعنصرية في مستويات متعددة، فمثلا تصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، يوم الاثنين 7 مارس 2022، في حوار له مع قناة LCI بكون فرنسا عبّأت كل الإمكانيات لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، بانخراط عمداء المدن ووزير الداخلية، وتم إحداث موقع إليكتروني بخصوص الموضوع، من أجل استقبالٍ، في أحسن الظروف، للعائلات، أو النساء مع أطفالهن، بعد أن بقي الأزواج في أوكرانيا يحاربون، كما تمت تعبئة الجمعيات من أجل المساعدة في الإيواء والتغذية… فالسؤال المطروح: لماذا لم تتعبأ فرنسا بكل هذه الإمكانيات لاستقبال اللاجئين السوريين والليبيين؟
في نفس مستوى المسؤولين السياسيين، نجد تصريح رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي، الذي رحّب باستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وقدم، يوم الاثنين 7 مارس 2022، مشروع قانون أمام البرلمان، وهو عبارة عن خطط لحُزمةٍ من القوانين لمساعدة لاجئي أوكرانيا، كإصدار تصاريح إقامة لمدة 18 شهرا، مع خيارٍ بتمديدها لمدة 18 شهراً أخرى بعد ذلك، مع تصاريح عمل، ومنحهم رقم هوية قومية مؤقت، لتسهيل حصولهم على خدمات الصحة العامة وتفادي التعقيدات البيروقراطية، بالإضافة إلى تعويض مادي.
فهذه الإجراءات إيجابية ويجب التنويه بها، ولكن من غير المعقول أن تكون صادرة عن نفس الشخص المعادي للهجرة واللجوء، إذ اعتبر، في نونبر الماضي، أن اللاجئين السوريين أو القادمين من بلاروسيا يشكلون خطرا على أوروبا، وغرّد على حسابه الشخصي في تويتر قائلا إن “إغلاق الحدود البولندية من مصلحتنا الوطنية، لكن استقرار وأمن الاتحاد الأوروبي برمته هو اليوم على المحك”…
نفس التناقض نجده عند زعيمة اليمين المتطرف بفرنسا ماري لوبين، التي صرحت مرارا أنها ضد المهاجرين، وأن اللاجئين الهاربين من الحرب يجب أن يبقوا في بلدانهم للدفاع عنها، أما في ما يخص اللاجئين الأوكرانيين، فدعت لحمايتهم، وتطبيق اتفاقية جنيف.
هناك مستوى آخر من العنصرية والتمييز ظهر عند عدد من مراسلي القنوات العالمية، حيث صرح عدد منهم أن الأوكرانيين يتميزون على العراقيين والسوريين بأنهم بيض وعيونهم زرقاء وأنهم من المسيحيين، بل صنع هؤلاء مفهوما عنصريا جديدا وهو لاجئ ذو كفاءة (refugié de qualité)، وهي خطابات عنصرية وتمييزية غير مقبولة في مجتمع إنساني قائم على عدم التمييز على أساس عرقي أو ديني أو اللون، أو الانتماء الاجتماعي.
وأخيرا التصريح التحريضي المثير لوزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، التي أعلنت دعمها للذين يريدون الذهاب إلى أوكرانيا للقتال ضد الروس، وهو تصريح خطير، يرمي إلى دفع مدنيين، ليست لهم خبرة في القتال أو الأسلحة، إلى الحرب، كما أنه تصريح يضرب بعرض الحائط كل أدبيات العلوم السياسية بكون الدولة هي الوحيدة المحتكرة للعنف والسلاح.
سادسا: هل يوجد حل سحري لحماية الأفراد من الموت؟
لا يمكن تقديم حلول سحرية، ولكن الواقع يقول إن هناك أناسا يموتون في أوكرانيا بسبب العمليات العسكرية الروسية، وهناك قوى غربية تستعمل هؤلاء الناس بدعمهم بالسلاح دون المشاركة عبر الجيوش، وذلك من أجل مصالح جيوسياسية، وهناك الإرادة الروسية التي لن تقبل بأن تتراجع إلى الوراء، يمكنها أن تتوقف ولكن لا يمكنها أن تتنازل، وهناك فرنسا التي تترأس الاتحاد الأوروبي تستفيد من عجز حلف الناتو في التدخل لبناء مشروعها المتعلق بالجيش الأوروبي الموحد.
لهذا، فالوضع الجغرافي والرهانات الدولية على منطقة أوكرانيا، باتا يطرحان إمكانية أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى دولة محايدة كمثال سويسرا، بأن تبقى في الحياد، وأن لا تصطف لا مع الروس ولا مع الغرب ولا مع الاتحاد الأوروبي، ويمكنها بناء شركات تجارية وسياسية مع كل هذه الدول، وأن تفتح حدودها مع الاتحاد الأوروبي دون أن يصل الوضع إلى الشراكات العسكرية، أي مرة أخرى الوضع التام في سويسرا، إذ بذلك يمكن إنقاذ حيوات أناس كثر… ومع ذلك، فإنه ليس بالحل السحري للأزمة…
تعليقات الزوار ( 0 )