“اللهم افضحنا ولا تسترنا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود”
من أدعية أبي حامد الغزالي
مقدمة لا بد منها
كبرنا على فكرة مفادها أن النفاق ظاهرة تتجسد في الحياة السياسية، ويحتكرها السياسيون، حتى تظاهرت علينا “نخبة” تسمي نفسها مثقفة ومفكرة، تسللت إلى ساحة البحث عن الخبز والخمر والثمرات من بوابات “التحليل التفكيكي”، و”التحول ما بعد البنيوي”، و”الانزياح النيو-واقعي”.
فإذا بالقوم يزفون العلم في الـ”مايو”، ويبيعون الضمائر على أرصفة التمويل، ويعرضون النظريات في “تبّان” مزركش بسيرة ذاتية منمقة في مجلة عالمية، لا يهم إن كانت بالعربية أو العبرية، فالمعنى في المازوط، لا في اللغة.
عرض الفضيحة وإضمار النصيحة
خرج أبو الفضل ممتطيا أثانَه من الخيمة مائلًا. البردعة محكمة الوثاق، والشواري افرغ من فؤاد أم موسى، والمادة العلمية خليط من نصوص شاردة ومقالات مستنسخة، يشد أعناقها كما يشد قطيع غنم ضل الطريق وعثر على مرعى.
اجتهد أبو الفضل أن يحسن صنعا، فسارع إلى التحسين والتجويد، فصب على الورق توابل من “الشك المنهجي”، و”الإطار النظري”، و”الخلفية الفلسفية”، و”النظر المفاهيمي”… كما يُصب الفلفل والحامض على طاجين السمك.
سألت الكنبوري، يا دكتور إدريس، ما قولك؟
قال:
“ما كنت أحسب أن أبا الفضل يجعل من العلم قوادة تنظيرية تنكح فيها المعرفة كما تنكح العذارى بعقد مؤقت!”
ثم أضاف:
“رأيته في مجلس جامعة كبيرة وعظيمة وتاريخية، قد عقل الأتان بمحاذاة مقصف الطلبة، يزف العلم إلى سلطان المازوط كما تزف العروس، ممتطيا أثانا جرباء وهو يُحلل ويمطط المفاهيم، لا لشيء سوى أن يُقال له علي سبيل الاطراء والمدح والتملق: مفكر حكيم، لأنه محكّم“.
شهادة حسن أوريد:
ويحكي حسن أوريد، الباحث الأكاديمي المعروف، عن واقعة تكشف زمن القوادة الأكاديمية:
” قبل ما ينيف عن خمس سنوات دلفت مجلسا يُقال له ندوة: “عن التنوير المغدور بين أبي محمد الجولاني والشيخ العرعور”، فإذا هو محفل تعرت فيه المعرفة، ولم تتستر العورات إلا بورق التوت البلاستيكي الأكاديمي من قبيل: “التحولات السوسيولوجية”، “الانزياح الإيديولوجي”، “البنية الخطابية في التنظيم”… إلخ مما تجود به خزائن القوادة البحثية لمن خلع ثوب الأمس وارتدى مايوهات التمويل.”
وشهادة أوريد لا تُكذَّب، ولا ترد، فإن كان “رواء مكة” له شافعة، فإن “المازوط” له كاشفة، واسألوا المقرئ أبو زيد الإدريسي الذي ما انفك يجدد إيمانه مع كل صفحة من الرواية.
تحوّل أم تراجع؟ مراجعة أم خيانة؟
يقول أوريد:
“رأيت أحدهم كان بالأمس يحاضر عن النهضة العربية المغدورة، يبيع الكتب في معارض الإسلاميين، ثم صار اليوم يبيع الإسلاميين أنفسهم في مزادات التسامح العربي/العبري، وقد استبدل العمامة بربطة عنق، وترك “التمكين” ليتحدث عن “التحليل السياسي”.
بل الأعجب من ذلك، يضيف أوريد:
“صار يفسر أزمة الأحزاب والتنظيمات السياسية بالجينات تارة، وبالحقن الثقافية تارة أخرى، وقلمه الذي كان سيفًا نقديا صار ملعقة يتذوق بها طعم المازوط، ولا يكتب حتى تصله رسالة شكر من صاحب محطة وقود.”
محاولة استدراك
سألت، بعفوية، أليس ما تراه تحوّلا علميا يا حسن؟
أجاب أوريد مقاطعا، وكأن جريرا هجا الفرزدق:
لو كان تغيرا نابعا من قناعة إيديولوجية متماسكة، أو عزلة فكرية أو تيه معرفي لقلنا: عاد من سفر العلم، لكن. القوم لم يسافروا إلا من مطار إلى مطار، ومن فندق إلى منتجع، ومن “إطار نظري” إلى “إطار تمويلي”.
خلاصة القول
يا قوم، هذه ليست مراجعة فكرية، بل قوادة تنظيرية، ومن كان بالأمس مواليا لتنظيم سياسي أو نظام سياسي، فلا يحق له أن يكون اليوم نبيا للتفكيك والتركيب في أول محطة بنزين.
بيان توضيحي
هناك ملاحظتان خفيفتان علي اللسان ثقيلتان في الميزان:
ـ أولا: هذا المقال لا يهاجم الأفراد، ولا يفضح الظاهرة، ولا يشكك في النوايا، ولا يسلط الضوء علي أحد، وحسن أوريد وإدريس الكنبوري مجرد شخصيتين من نسج الخيال.
ـ ثانيا: العلم إذا تزين للتحكيم من أجل الممول في بلاط السلطان المازوطي أصبح قوادة تنظيرية.
أنا داخل سوق راسي
تعليقات الزوار ( 0 )