في خضم صراع جيوسياسي متصاعد في منطقة المغرب الكبير، حيث تتقاطع الحسابات العسكرية بالتوترات الدبلوماسية، يواصل المغرب، بهدوء استراتيجي ووضوح في الرؤية، مسارًا طموحًا نحو تعزيز قدراته في الدفاع الجوي.
فمنذ أكثر من عقد، أطلقت المملكة مشروعًا متكاملًا لتحديث بنيتها العسكرية، لتجد نفسها اليوم من بين الدول الإفريقية القليلة التي تمتلك درعًا جويًا متطورًا متعدد الطبقات، قادرًا على رصد واعتراض الصواريخ والطائرات بدون طيار، بل والتحكّم في المجال الجوي على نحو يجعل أي عدوان محتمل مخاطرة غير مأمونة العواقب.
وسلّط تقرير حديث لصحيفة “جون أفريك” الفرنسية، الصادر منتصف أبريل الجاري، الضوء على هذا التحوّل اللافت في العقيدة الدفاعية المغربية، مؤكّدًا أن الرباط لم تكتفِ بتجهيز قواتها بأنظمة حديثة فحسب، بل وضعت تصورًا متكاملًا قائمًا على التوازن بين الردع، والجاهزية الميدانية، والسيادة التكنولوجية.
وفي قلب هذه الرؤية، نجد إدراكًا مغربيًا متقدّمًا لطبيعة المخاطر المتحوّلة التي تحيط بالمنطقة، وعلى رأسها التوتر الدائم مع الجار الشرقي الجزائر، وتحديات ملف الصحراء المغربية، ناهيك عن التهديدات غير التقليدية الصاعدة، من هجمات سيبرانية إلى الطائرات الانتحارية المسيّرة.
واختار المغرب ألا يركن إلى التطمينات السياسية وحدها، بل قرأ الواقع من منظور استباقي، مفاده أن من لا يمتلك قدرة دفاعية جوية متطوّرة، لا يمكنه اليوم أن يضمن سيادته الترابية، ولا أن يحمي مصالحه الحيوية في ظل سباق تسلّح صامت يسود شمال إفريقيا.
ولتحقيق ذلك، اعتمدت الرباط على تنويع شراكاتها العسكرية، فجاءت اقتناءاتها من أنظمة دفاعية متقدمة من مصادر مختلفة: من الولايات المتحدة بنظام باتريوت PAC-3، ومن إسرائيل بمنظومة Barak-MX، ومن الصين بنظام FD-2000B، إلى جانب رادارات بعيدة المدى فرنسية الصنع من نوع GM400.
واستنادا إلى المصادر ذاتها، فإن هذا التنوّع في الشركاء لم يكن وليد الصدفة، بل يعكس توجهًا سياديًا مستقلًا، يهدف إلى عدم الارتهان لمصدر وحيد، وضمان مرونة تشغيلية تتيح للقيادة العسكرية خيارات متعدّدة في لحظات الأزمات.
ومع توالي مناورات “الأسد الإفريقي”، التي ينظمها المغرب سنويًا بشراكة مع الولايات المتحدة، شكّلت هذه التمارين منصة مثالية لتجريب هذه الأنظمة الجديدة في بيئة عملياتية واقعية.
وقد ظهرت قدرة القوات المسلحة الملكية على التنسيق بين أنظمة دفاعية مختلفة المصادر، بما يكرّس مبدأ “الدرع المتكامل”، وهو نموذج عصري تعتمده الجيوش الكبرى في إدارة المخاطر الجوية.
غير أن التطور التقني لا يكتمل دون تأهيل بشري مواكب. ولهذا، ترافق اقتناء الأنظمة الدفاعية في المغرب مع برامج تكوين صارمة، لضمان جاهزية الطواقم التشغيلية، وإرساء نواة صلبة من الكفاءات الوطنية القادرة على صيانة وتحديث هذه المعدّات، ما يعزز مفهوم السيادة التقنية في المجال العسكري.
ولا يمكن عزل هذا المسار عن السياق الإقليمي المتقلّب، حيث تواصل الجزائر بدورها تسليحًا متسارعًا، وتصعيدًا في خطابها السياسي تجاه المغرب، مستمرة في دعمها الصريح لجبهة البوليساريو، وتحرّكاتها الاستفزازية في مناطق التماس، وهو ما يدفع الرباط إلى تبني موقف الحذر الحازم: “عدم السعي إلى المواجهة، لكن الاستعداد لها إن فرضت”.
وفي نهاية المطاف، فإن ما يبنيه المغرب اليوم ليس فقط منظومة دفاع جوي، بل بنية ردع استراتيجية تُحسب لها حسابات دقيقة في ميزان القوى المغاربي. ذلك أن من يتحكّم في سماء المنطقة، يتحكم ضمنًا في أمنها السياسي، واستقرارها الاقتصادي، وحدودها السيادية.
وأشار التقرير الفرنسي، إلى أن المغرب يؤكد ، عبر سعيه نحو سماء مؤمّنة، أنه اختار أن يكون فاعلًا لا متلقيًا، ومبادرًا لا منتظرًا، وأن الدفاع في القرن الواحد والعشرين يبدأ من الجو، لكنه لا ينتهي عنده.
تعليقات الزوار ( 0 )