Share
  • Link copied

في مهب الجمود: العقل الفقهي وسؤال النهضة المؤجلة

في لحظة فاصلة من تاريخ الفكر الإسلامي، يتبدّى العقل الفقهي وكأنه يقف على حافة سؤال لا يريد مواجهته: ما معنى أن تكون فقيهًا في زمن تتغير فيه المعرفة كل يوم؟ ما جدوى الفتوى إن لم تلمس الواقع؟ وما جدوى الورع إن تحول إلى قيد على العقل؟

ليست الأزمة في النصوص ولا في الوحي، بل في آليات التفكير التي عطّلت النص وأحاطته بجدران من الورع المغشوش، حتى صار الفقه أقرب إلى إعادة تمثيل للماضي منه إلى صناعة معنى للمستقبل. هي أزمة عقل توقّف عن أن يكون مولّدًا، وانحصر في استدعاء محفوظات شُرحت وشرح الشروح، لا لعيب فيها، ولكن لجمود التصور عنها.

لقد صار الفقيه، في كثير من الأحوال، قارئًا لا صانعًا، حافظًا لا ناقدًا، آمناً في برجه المذهبي، بينما تغرق الأمة في أسئلتها الكبرى: الدولة، المرأة، السلطة، العلم، السوق، البيئة، الحرية، الذكاء الاصطناعي… وقائمة التحديات تطول، فيما العقل الفقهي يتقوقع خلف نصوص لا يحسن قراءتها إلّا في ضوء شروحٍ أنتجت لزمن غير زمنه.

المشكلة ليست في تمسّكنا بالتراث، بل في الطريقة التي نُعامله بها. لقد تحوّل التقليد إلى بنية فكرية مغلقة، ترفض المساءلة وتخشى الخطأ أكثر مما ترجو الصواب. وبدل أن يتحوّل العقل إلى أداة اجتهادية مرنة، صار رهينة ثلاثية خانقة: الخوف من الخطأ، التقديس غير المشروع للسابقين، والانفصال المزمن عن الواقع.

لقد انطفأ نور فقه المقاصد في أغلب مجالات الاستنباط، وغُيّبت القواعد الكلية الكبرى، ولم تعد المصلحة ولا فقه المآلات حاضرة في بناء الفتوى كما ينبغي. صار الحكم يُستخرج من جزئية دون اعتبار لواقعها، ومن أثر دون نظر في أثره، وكأن النص يُنتزع من السياق ويُعاد تعليبه، ليُقدّم كسلعة دينية جاهزة. هكذا لم يعد الاجتهاد وسيلة لفهم الدين، بل صار الدين وسيلة لكبح الاجتهاد.

المأساة أن العقل الفقهي لم يكتف بالعزلة، بل أقنع نفسه بأنه في حماية، وأن أي تفاعل مع الفكر الحديث، أو الفلسفة، أو العلوم الاجتماعية، هو تهديد لثوابته، لا فرصة لإعادة بناء أدواته. فصارت المعركة مع الآخر تعويضًا عن المعركة المؤجلة مع الذات. وفي الوقت الذي يفرض فيه الواقع على الفقيه أن يكون مؤصِّلاً ومهندسًا في آنٍ، بات يرضى بدور المكرر والمتخوف والمرتاب.

ليس أخطر على العقل من وهم امتلاك الحقيقة الكاملة، وليس أقتل على الفقه من وهم العصمة الموروثة. وإذا كان العلماء قديمًا قد قالوا: “كلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد”، فإننا نعيش اليوم في مناخ يقدّس القائل لا القول، ويطرد الاجتهاد باسم الجماعة، ويحمي التقليد باسم العقيدة، حتى صار كثير من الفتاوى أقرب إلى مرايا لمخاوف النفس منها إلى أبواب للهداية.

لكن الأزمة ليست قَدَرًا لا يُرد. فكما سقطت قرون من الركود، نهضت عقول في أزمان الشدة أخرجت من ظلمة التقليد شمسًا للعقل الفقهي الجديد. عقل لا يستبدل القديم بالجديد لمجرد الحداثة، بل يفتح القديم على أفق التأويل، ويقرأ النص في ضوء الزمان، ويُبقي على المبدإ، لكنّه يُجدّد الأداة.

هذا التجديد لا يكون بخطاب شعاراتي، ولا بمجرد مهاجمة السلف أو التغني بالأصالة، بل يبدأ من إعادة تعريف وظيفة الفقيه: من مفتي الأحكام إلى فقيه الواقع، من ناقل الفتوى إلى مهندس المصلحة، من رجل السلطة الرمزية إلى رجل الميدان الذي يسمع، ويرى، ويوازن، ويجتهد، ويخطيء ويصيب.

نحن اليوم بحاجة إلى عقل فقهي ينتمي إلى عصره كما ينتمي إلى تراثه، عقل يزاوج بين النص والواقع، بين المقصد والمآل، بين الشرع والعقل، عقل لا يخاف من الخيال المنضبط، ولا يهاب النقد المحترم، ولا يعادي الحوار، بل يرى فيه نَفَسَ الوحي نفسه، الذي خاطب العقول ولم يُلقّنها.

ذلك العقل لا يُصنع بقرار، بل بتراكم طويل: مناهج جديدة في التعليم، تحرير للخطاب الديني من القوالب، إصلاح للخطاب الفقهي من الداخل لا من فوقه، إعادة بناء للمجال العام بين الفقهاء والناس، وتكوين فقيه يفهم أن الدين لا يعيش إلا بالناس، وأن النص لا يُفهم إلا في ضوء الحياة، لا في ظلام العزلة.

فهل نجرؤ أن ننتقل من عقل الفتوى إلى عقل الرؤية؟ ومن فقه الطوارئ إلى فقه البناء؟ ومن سؤال الحلال والحرام إلى سؤال العدل والإنصاف؟ هل نمتلك الشجاعة لا لنكسر التقاليد، بل لننظر فيها، لنُحييها إن كانت حقًا، ولنُعيد تأويلها إن لزم الأمر؟

ربما تبدأ النهضة من هنا: من لحظة يختار فيها العقل الفقهي أن يُفكّر لا أن يُردد، أن يُبادر لا أن يُحتاط، أن يُخاطب العصر بلغته، لا أن يُعاديه باسم الورع. عندها فقط، يصبح الفقه وعدًا بالمستقبل، لا ظلاً للماضي.

Share
  • Link copied
المقال التالي