شارك المقال
  • تم النسخ

في ضرورة الانتقال إلى مجتمع سلطة واعية من أجل التنمية

تفضي مجمل المحاولات التي تنكر لزوم استحضار البعد الثقافي بشكل جلي في العملية التنموية إلى التيه خارج سياقاتها التاريخية والواقعية؛ مما يدفعها بعد الوقوف عند الحصيلة السلبية – الحتمية، والمتوقعة معا من خلال الإدراك التام للمجريات السابقة – إلى الأخذ بعين الاعتبار، كل ما من شأنه على الأقل الحد من درجة تفاقم مرتبة التيه؛ المؤدية إلى زوال البصيرة الثقافية، أو الحضور الثقافي المطلوب .

كل هذا يحصل لمَّا يكون التيه اللإإرادي المرفوض مجتمعيا، والمفتعل من قبل سلطات كيفما كانت توجهاتها، إحدى تجليات واقعنا. لذا تبرز المقاومة بشكل لاشعوري في الغالب، كوسيلة لحماية الحقوق الطبيعية؛ وهي عادة يطلق عليها العدل الطبيعي، كما يرى توماس هوبز، وهذا ما ندعو إليه على اعتبار أن العدل الطبيعي يقوم على تحقيق حرية كل واحد في العمل بكامل قوته، وكما يحلو له من أجل الحفاظ على طبيعته الخاصة، أي حياته الخاصة، ومن ثم القيام بكل ما يبدو له حسب تقديره الخاص أنه أنسب وسيلة لتحقيق هذا الغرض. 

فالحقوق الطبيعية تتجلى للإنسان في أربعة، وهي حق البقاء أو المحافظة على الذات، والحق في استخدام مختلف الوسائل التي تؤمِّن الحق السابق (حق البقاء)، وحق تقرير أنواع الوسائل الضرورية التي تكفل حق البقاء ودرء الخطر، وحق وضع اليد على كل ما تصل إليه.

لذا، فحق البقاء عموما لا تنفصل مقوماته عن وجود الحرية الكاملة للإنسان في التصرف الذي تحركه بشتى السبل سلط تشبه جيش احتلال؛ حيث أضحى الشعب عدوا لها إلا في الحدود التي تقتضيها المصلحة الضرورية، وهذه السلط كما يبدو في أصلها لا علاقة لها حقيقة بشعوبها، وهذا ما سيظهر لنا من خلال ما سيأتي بيان؛

لنتأمل مليا ما قامت به وزارة الثقافة الفرنسية سابقا، فقد أنجزت بكل ثقة كاملة، وفقا لمخططاتها المستقبلية، وبشكل عملي دراسة شاملة، مستوفية لشروطها الموضوعية بالتمام والكمال، تعود مقتضياتها الأساسية إلى الجهود المضنية النابعة من الجمعية الدولية المستقبلية حول “استشراف مستقبل التنمية”.

وقد كان من نتائج المناقشات والدراسات المستفيضة حول “أية ثقافة في المستقبل؟” أن اتضح لمعظم الباحثين أن هناك إستراتيجيتين للثقافة نلخص مضمونهما في ما يلي: أ- إستراتيجية الاستقالة: وهي في الحقيقة إستراتيجية تتخلى فيها الفئات الشعبية عن كل منافسة للنخبة في مواجهة التقلبات داخل المجتمع، أو محاولة السيطرة على زمام حركتها.

وهذه الإستراتيجية تزيد من تأزم الوضع القائم، وتنتهي بمزيد من تمركز السلطة، والإدارة بيد النخبة، ومزيد من الغرق للمجتمع تحت طوفان المشاكل الناجمة عن الآثار السلبية غير المعالجة للتقلبات، وانحصار اتخاذ القرار، وتحديد البدائل في أيدي زمرة منعزلة من الفاعلين وأصحاب القرار.

 ب- إستراتيجية التجنيد: وهي إستراتيجية تجند فيها جميع الضمائر الواعية في المجتمع، للتمكن من الوصول إلى مستوى حضاري نوعي، وإلى المشاركة الفعلية للفرد في صياغة حياته، والاهتمام ببيئته، ومحيطه الاجتماعي، وإسهامه في تقويم ذاته، والتأثير إيجابا في تطوير مجتمعه، وإصلاحه بشكل يجعل من تقلبات المجتمع ظاهرة طبيعية توظف لصالح تطوير المجتمع، وليست هوسا يشل فعالياته، ويحد من طاقاته.

ويمكن عمليا لمثل هذه الإستراتيجية تطوير الفكر والمنهج والمعرفة، بما يسمح لها بالانتقال من مجتمع ذي أغلبية صامتة إلى مجتمع ذي أغلبية فاعلة، تناقش ما تعيشه من مشاكل، والمشاركة في صياغة برامج الإصلاح.

هذه الإستراتيجية الصلبة على أية حال تسمح بالانتقال من مجتمع سلطة جزافية؛ تؤسس للهوان إلى مجتمع سلطة واعية، تؤسس لقوة التحكم في زمام الأمور كيفما كانت أحوالها.وهو التصور الغائب في واقعنا، ببساطة لانعدام الإرادة بسبب وجود آراء، ومواقف معادية ليس في مصلحتها تحقيق ذلك، وتحاول تكريس أبعاد التضليل المختلفة للمجتمع كله، لانعدام الرؤية الواضحة والصادقة الهادفة لتحقيق للتنمية الشاملة، المفعمة بالقوة لاثبات الوجود.

فجل الحركات الإصلاحية في العالم بأسره اعتمدت على رؤية بعيدة المدى للوصول إلى مبتغاها، و من ثم فبدونها كما ذهب المنجرة لا يمكن بناء إستراتيجية، وبدون إستراتيجية لا يمكن بناء سياسة، وبدون سياسة لا يمكن تحقيق التقدم في أي من ميادين الحياة.

وعليه فالإفلاس السياسي راجع أساسا إلى الافتقار للرؤية، والتدبير الإستراتيجي لما يراد تحقيقه، وللأسف فنحن نجد أن المسؤولين في مجتمعاتنا يعتمدون غالبا في دراستهم المستقبلية على الأجانب، وتقارير البنك الدولي …دون الاهتمام بما يكتبه خبراء بيئتهم لأن ما يهمهم هو البقاء في السلطة، والاعتماد على الطرق غير المشروعة للحفاظ على مواقعهم، وهذا ما يهدد بطبيعة الحال مستقبل مجتمعاتنا على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ومن أجل تفادي مصير التيه- وحسب ما ذهب إليه المنجرة – فإن تشييد معالم الرؤية لا يمكن أن يشهده أي نظام عربي إسلامي يتسم بما يلي:
:أولا: التفقيرقراطية؛ أي حينما يغدو الفقر” نظاما للتدبير والحكم، وهو ما يفسر تفاقم هوة الفوارق من الاستقلال إلى يومنا هذا”. ثانيا: الجهلقراطية؛ فلا يمكن تحقيق التنمية في ظل استفحال ظاهرة الأمية، والجهل في الوقت الذي نتحدث فيه عن مجتمع المعرفة.

ثالثا: الشيخوخقراطية؛ فنحن بحاجة إلى تحقيق الديمقراطية في توزيع الأعمار، فنحن محكومين بأناس شيوخ في حين أن ثلثي الجماهير شباب. رابعا: الكذبقراطية”؛ أي حين يغدو الكذب شكلا للحكم. فالكذب خطير؛ لأن ذلك الذي يكذب يبدأ في الاقتناع بأنه على حق وأنه لا يكذب، وحين يقوم المرء بذلك فإنه يفقد كل مصداقية”. خامسا: الخوفقراطية؛ أي حين يصير الخوف وسيلة للحكم والتحكم.
لتجاوز ذلك فما علينا سوى طرد الفساد من بيئتنا حتى لا يتحول إلى غول يهدد سلامة وجودنا، لكن يبدو أن نمو الفساد في عالمنا أدى إلى اضمحلال مقومات التنمية الثقافية وميكانيزماتها المحركة للتنمية الشاملة.

والغريب أن هناك من يرى أن الفساد يمكن أن يكون محركا للنشاط الاقتصادي حتى لا نبتعد عن تشريح كنه الفساد وأوهامه، ومادامت هذه الحقيقة بادية للعيان؛ فما علينا سوى انتظار ما هو أسوأ بحكم أن الفساد مبدأ لا أخلاقي وغير مرحب به؛ فهو شر، ومكرس لسلطة جزافية، فبئس توجهها الحالي، وسيناريوهاتها المستقبلية الآثمة.

*دكتور في الفكر العربي والإسلامي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي