شارك المقال
  • تم النسخ

في سطوة المثقف: جدل التأسيس

  لا يجد الكثيرون حرجا في استخدام كلمة مُثقف اليوم للتعبير عن فئات مُختلفة من النخبة العالمة في البلدان العربية والإسلامية، على بالرغم من كون أهل الإختصاص أجمعوا -في غالبيتهم- على أن لفظة “المثقف” ظهرت بمناسبة قضية ألفريد درايفوس، أي أنها وُلدت منذ قرن ونيف من الزمن. وألفريد درايفوس هذا هو قُبطان فرنسي من أصل يهودي اتُّهم بتسليم معلومات عسكرية إلى الإمبراطورية الألمانية (العدو التاريخي لفرنسا)، فحوكم أمام القضاء ونُفي بعيدا إلى بعض جزر المستعمرات بعد إدانته. وعلى إثر ذلك قامت مشاجرة كبرى بين المدافعين عن براءته والمنددين به، واستمرت القضية مثار جدال داخلي لمدة 12 عاما. وكان من أشهر المثقفين ممن دافعوا عن قضيته، الكاتب والروائي والصحافي إيميل زولا (1840- 1902)، والذي نشر مقاله الشهير: “إني اتهم”، في صحيفة (فجر) الأورور l’Aurore، مندداً بالقضاء الفرنسي الذي أقر حكم الإدانة على درايفوس. وقد وَقَّعَ إلى جانبه متضامنين آخرين بيانا حَمَل اسم “بيان المثقفين”؛ وكان من بين الموقعين عليه أيضا كبار الكتاب من أمثال: أناتول فرانس، ومارسيل بروست، وليون بلوم، فلم يكن أمام الحكومة الفرنسية أمام هذا الضغط إلا الإذعان لإعادة مُحاكمته سنة 1898م، لكنه لم يحصل على البراءة بصفة نهائية إلا عام 1902، حيث قررت محكمة النقض سقوط الحكم، وأمرت بعودته إلى عمله السابق، وقد رُقِّيَ بعد ذلك إلى رتبة مُقدم، كما شارك إلى جانب القوات الفرنسية في أطوار ومعارك الحرب العالمية الأولى (1914-1918).

    صنعت قضية درايفوس الشهيرة حدثا هز الجمهورية الفرنسية التي تعتبر من أرقى الديموقراطيات آنذاك، وأدى الحدث -الذي يبدو في حالات أخرى عاديا- إلى انقسام حاد بين فئات المجتمع الفرنسي، فهذه القضية التي شغلت الرأي العام الفرنسي أخذت كل شيء من وسائل الإعلام، وأعطته كل شيء؛ إذ تزامنت مع صعود قوة تأثير الصحافة المكتوبة، وارتبطت أيضا بلفظة “المثقفين” الواردة في بيان التضامن المُطالب بإعادة محاكمته.

    هناك بعض المفكرين الآخرين مِمَّن يعودون إلى قضية جان كالا في القرن 18م، حيث يجعلون من هذا الحدث البداية الأولى لبروز سلطة المثقفين. إن هذا الحدث المأساوي الذي انتهى بتنفيذ حكم الإعدام في المتهم ساقه القدر للفيلسوف الشهير فولتير، إذ كان فرصة سانحة أبرز من خلالها هذا المفكر الاستثنائي سطوته، فقد استطاع الوقوف بمفرده في وجه تَكَتُّلِ قضاة ومحلفي مدينة تولوز ممن أصدروا حكم الإدانة في حق المتهم جان كالا. لقد تمكن من الانتصار للعدالة في النِّهاية رغم كل العوائق والصعوبات التي أحاطت بالقضية الشائكة ورغم أن الخصم جهاز قضائي عتيد، وحقق لنفسه شرفاً لا مثيل له، ذلك أن عددا كبيرا من الباحثين يعودون إلى هذه القضية بالذات كلحظة تأسيسية، ويجعلون منها الحدث الممهد لبروز “سلطة المثقفين” في الغرب. كان جان كالا- كما روى فولتير بنفسه- رجلا في الثمانية والستين من عمره، تاجرًا بروتستانتيًا على غرار زوجته وأبنائه، باستثناء واحد منهم جحد وارتد عنها إلى الكاثوليكية، ويُدعى مارك. انتحر هذا الأخير في أحد الأيام من سنة 1762م، لأسباب يتعذر ذكر تفاصيلها في هذا المقال الموجز، ويتعلق الأمر اختصارا بإدمانه على لعبة القمار، وقد اتُّهم الأب بقتل ولده وخنقه لمنعه من الارتداد عن مذهبه الديني (البروتستانتي). تحوَّلت إشاعة قتل الأب لولده إلى اعتقاد راسخ لدى سكان المدينة ذات الأغلبية الكاثوليكية التي عبئت المشاعر ضده، وتم الاستناد إلى كون تعاليم البروتستانتية تحض الآباء على قتل أبنائهم في حال إفصاحهم عن الرَّغبة في التحول عن مذهبهم العقدي. لم يكن هُناك دليل مادي ضِدَّ الأب ولا شهادة يقينية ثابتة من شاهد عيان، بل كان من المستحيل حدوث مثل هذه الجريمة، وذلك لأسباب كثيرة منها على سبيل المثال البنية القوية للابن المنتحر مقارنة بوالده، وقد أصَرَّ القضاة مع ذلك على إدانة جان كالا بالتهمة.

     كانت المحاكمة صورية وتخللتها جلسات طويلة من الاستجواب الممزوجة بالتعذيب الشَّديد لأبِ المنتحر ليعترف بالمنسوب له، وانتهت المحكمة، بعد التداول، إلى إصدار حكم الإعدام في حقِّ الأب باعتباره مُذنبا، وصودرت أملاكه، فيما تم الإفراج عن أخيه وأمه. وقد استنجدت هذه الأخيرة بالفيلسوف فولتير، الذي لم يتردد في مساندة قضيتهم، وألف بمناسبتها رسالته الشهيرة في التسامح، فغذت بذلك قضية كالا قضية إنسانية شهيرة، إذ نالت اهتماما قل نظيرها، وحدث بسبب هذا الكتاب انقلابٌ تام في الرأي العام بفرنسا، وإن الناس الذين عاشوا من بعد ما أعيد الاعتبار لكالا مَدينون لفولتير بما تحقق من تحول في المسار، فقد ربح الدعوى في النِّهاية، ونُقض الحكم الصادر في تولوز بعد سنتين من صدوره، وجرى استقبال السِّيدة زوجة كالا وابنتيها من طرف الملكة في قصر فرساي فيما يعتبر رد الاعتبار للأسرة المكلومة، في حين قدم الملك تعويضا ماديا سخيا للأسرة المكلومة تعويضا عن الضرر الذي لحق بهم.  

       بالطبع لا يمكن إلا تثمين انخراط فولتير في قضايا عصره، فذلك ما جعل منه “مثقفا نضاليا” بتعبير عصرنا، إذ كان متابعا جيدا لكل ما كان يجري من أحداث سياسية في بلاده. بالطبع ليس هناك ما يمنع اليوم من استعمال لفظة “مثقف” للدلالة على الفئات المهتمة بالعمل الذهني ما دامت ملتزمة بقضايا الوقت ومنخرطة فيها بشكل من الأشكال، فهذه العبارة أي “المثقف” استخدمت في الأبحاث المعاصرة لوسم من عاشوا قبل هذا التاريخ بزمن طويل، وهذا ما قام به فعلا العديد من الكتاب والمؤلفين؛ فقد أشار بعض المؤرخين إلى “مثقفي العصر الوسيط”، بل هناك من تحدث عن “المثقفين في بلاد اليونان القديمة”، وعلى سبيل المثال اختار دومينيك أوفروا إطلاق لفظ “المثقف” على الفقيه والفيلسوف العربي ابن رشد، بدلا من استعمال الألفاظ الأخرى الملتبسة.

  وبدوره اختار المفكر المغربي محمد عابد الجابري لإحدى دراساته عنوانا لافتا وهو: “المثقفون في الحضارة العربية”، وفيه تطرق لمفهوم المثقف، وقد أشار إلى أنه لا وجود لهذا اللفظ مُطلقا ضمن مرجعية الثقافة العربية، فحاول بناء تلك المرجعية عبر التأصيل الثقافي له من المفاهيم المعاصرة، ومن المواضيع المهمة في هذا الكتاب حديثه عن المثقفين في القرون الوسطى بأوروبا الغربية، وسلطة العِلم العربي في أوروبا، وسياق ظهور المثقفين في الإسلام، وعرج على أجيال المثقفين المسلمين، وإن كان قد ركز في النهاية على حادثتين شهيرتين، وهما: محنة الفقيه أحمد ابن حبنل ونكبة الفيلسوف ابن رشد، إذ وضعهما في سياقهما التاريخي، رابطا بين ما وقع لهما وموقفهما المعارض للسلطة.

    لا شك أن لفظ “المثقف” مفهوم غربي اشتق حديثا، بما أن مدلوله السوسيولوجي لم يظهر إلا مع قضية درايفوس ذي الأصول اليهودية، حيث انبرى رجال أدب ورجال علم وفنانون باسم الحقيقة والعدل بالدفاع عن هذا الكابتن ذو الانتماء الديني المختلف عن الغالبية الساحقة، وبذلك رسموا الطريق نحو التزامات أخرى، نقلتهم من وضعية خالقي المعرفة إلى وظيفة أخرى أكثر رمزية، يتجلى فيها “المضمون الحماسي”، الذي يمتاز بأنه لا يعني طبقة موجودة بقدر ما يعني فئة تسعى إلى أن يُعترف بها كقوة فاعلة. وقد اختار المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف مثلا استخدام هذا اللفظ في دراسته لهذه الفئة في العصور الوسطى، حيث استخدم عبارة “المثقفين” بدلا من الألفاظ الأخرى، عَلَّامة، بحاثة، كاتب، مفكر، متفقه.

    يقصد جاك لوغوف بمثقفي العصر الوسيط أولئك الذين امتهنوا العمل الفكري وجعلوا من أعمالهم التفكير وتلقين ذلك للطلاب في مقابل الرهبان الذين امتهنوا خدمة الكنيسة ورعايتها. وتشمل فئة المثقفين لديه تحديدا الشعراء والأساتذة والأدباء والفنانون والمترجمون والفلاسفة الذين برزوا في المدن الأوروبية خلال نهضة القرن الثاني عشر، واعتبر لوغوف أن بيير أبيلار  Pierre Abélard هو أول شخصية استوفت مواصفات “المفكر المثقف”، فقد جمع هذا الأخير بين الفلسفة وعلم اللاهوت، وكان يلقن المعارف للطلاب في إحدى المدارس، وحين بلغ سن الخامسة والثلاثين وقع في حب امرأة تدعى هلواز، وهي تلميذة درست عنده، وكانت تنتسب للوسط الأرستقراطي، وحدث أن حملت منه بطفل غير شرعي، فكانت النتيجة وخيمة جدا في مجتمع محافظ، إذ قام أحد أفراد عائلة الفتاة بإخصاء أبيلار انتقاما لشرف عائلته النبيلة، وانتهى الأمر بالعشيقين إلى الانعزال في مونيستيرين منفصلين، غير أن العشق والحب ظل يسكنهما، فقد استمرا في تبادل الرسائل سرا. كان أبيبلار، كما ذهب جاك لوغوف، ينوي إضفاء طابع الشرعية على علاقته بمحبوبته وفق تصور عصري للعلاقات بين الجنسين، بيد أن الصيغة التي أراد بها تحقيق ذلك كانت غريبة ومستهجنة آنذاك، لأنها كانت حداثية بالمقارنة مع زمانها. ويُستشف من بين رسائل هلواز أنه كان من الصعب على مثقف مثل أبيلار التوفيق بين العمل الفكري ومؤسسة الزواج، وتكتسي هذه المسألة أهمية بالغة لأنها تفيد بميلاد نخبة مثقفة وحداثية في وقت مبكر جدا حسب تصور لوغوف، كما تشير إلى موقع الحب العذري في أوساط هذه النخبة

يُعد جاك لوجوف بحق أحد أعظم مؤرخي القرون الوسطى في القرن العشرين، فقد اقترح باستمرار سبلا جديدة للتفكير في هذه العصور التي وُسمت بالمظلمة، وأظهر مدى غناها وتعقدها عندما نشر لأول مرة في عام 1957 كتابه: المثقفون في العصر الوسيط. كان عمله هذا رائدا وفريدا، وتتمثل مزاياه في كونه يقدم العصور الوسطى باعتبارها مرحلة فكرية مميزة، وأن أسيادها كانوا بدورهم مبدعين، وهو تصور لم يكن مألوفا قبل دراساته.

نُشر كتاب المثقفون في العصر الوسيط للوغوف جنبًا إلى جنب مع كتابه الآخر الموسوم بــ التجار والمصرفيون في العصور الوسطى(1957) وهما دراستان تأسيسيتان لمنهجه التاريخي المميز. انطلق في كتابه الأول من مفارقة تاريخية ذلك أن لفظ المثقف ظهر كما تمت الإشارة إليه سابقا مع قضية درايفوس، أي في نهاية القرن التاسع عشر، بيد أن استعماله من طرف هذا المؤرخ إنما يمثل في العمق الإشادة بالقرون الوسطى العظيمة.

يسترجع هذا العمل الاستثنائي، والغني بأيقونات جميلة للغاية ما كان خافيا تحت وَسْمِ العصر الوسيط الممقوت. ينطلق لوغوف من تبيان دور رجل دين فريد من نوعه، مفكر ومدرس منذ القرن الثاني عشر فصاعداً، والذي غدا “بائع كلمات”. إن الحركة العظيمة للترجمات من اليونانية والعبرية والعربية، والتي ازدهرت في الغرب، لم تكن معروفة حتى ذلك الحين، وصعود الجامعات أو ما أطلق عليها “كاتدرائيات المعرفة” ساهمت في قيام نهضات متعددة، فقد أصبح القرن الثالث عشر قرن النضج الدراسي، وغدت الجامعات تمثل في هذه المرحلة نُضج هذه الفئة التي نظمت نفسها وأدوات عملها وطورت طرق تدريسها، حتى غدت “سلطة” ذات تأثير في المجتمع. فهل تقوم يا ترى هذه المؤسسات اليوم بذلك الدور الذي قامت به في مرحلة تأسيسها؟

*باحث أكاديمي في التاريخ

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي