شارك المقال
  • تم النسخ

في انهيار أساطير صهيونية

لا نتحدّث عن الأنظمة والحكومات العربية، فهي، في الغالب، اختارت أن تدفن رأسها في التراب، لا تسمع، لا ترى، لا تتكلّم، وإن تكلمت لا أثر لكلماتها على المشهد الراهن. ليس صحيحا أنها عاجزة ولا خيارات أمامها. لو صدقت النيات، وتم تحليل ما يجري على الأرض لاكتشفت أنها قادرة على فعل الكثير. لكنها فضّلت الوقوف على الربوة، وانتظار ما ستسفر عنه الحرب في غزّة، وتستعد لتأمين مصالحها والحفاظ على وجودها. بكل وضوح، أنظمة عربية عديدة لا تتمنّى أن تخرج المقاومة بقيادة حركة حماس منتصرة، فمن شأن ذلك أن يخلط جميع الأوراق، ويضع هذه الأنظمة أمام سيناريوهاتٍ لم تستعد لها. هناك رغبة في زوال المقاومة، والعودة الى خيار التسويات السياسية من أجل تصفية القضية الفلسطينية.

بُنيت إسرائيل وتعيّشت من العديد من الأساطير المستمرّة، ووجدت من يصدّقها ويروّجها، حتى كادت أن تتحوّل إلى “حقائق علمية” لا يرقى إليها الشكّ. ما يحدُث اليوم هو انهيار هذه الأساطير بانكشاف زيفها وعدم صمودها أمام العقل والتاريخ وتغيّر معطيات الصراع. لقد اتخذ العقل الصهيوني من التاريخ قاعدة لبناء أساطيره المزعومة، لكن الحفريات أثبتت بطلان ادّعاء أنهم الأحق بفلسطين، خصوصا مدينة القدس، واخترعوا قصة هيكل سليمان المزعومة، المدفون، حسب زعمهم، تحت جامع الأقصى. يقول المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه (Ilan Pappé) إن “فهم جوهر الصراعات يكمنُ في التاريخ، لأنه يوفّر الفهم الحقيقي غير المتحيز للماضي”، كما أن تشويه التاريخ أو التلاعب به “يؤزّم المشهد ويجعله أكثر تعقيدا وبعيدا عن الحل”. ويقرّ بأن تشويه التاريخ “يشجّع على انتشار الاضطهاد، ويحمي نظام إسرائيل الذي يصفه بالاستعماري والاستيطاني. ليست هذه الشهادة الوحيدة لكبار المؤرّخين اليهود”.

هزّت عملية 7 أكتوبر جوانب أخرى من هذا العقل الأسطوري، حيث أعادت الفصل بين ثلاثة مصطلحات أساسية، اليهود وإسرائيل والصهيونية. مصطلحات ذات دلالات مختلفة. وقد أبرزت الأحداث أخيرا أهمية الجماعات اليهودية الكبرى التي احتجّت بقوّة على قصف غزّة، وعارضت بشدة سياسات حكومة نتنياهو واليمين الديني الإسرائيلي الفاشي. أن تكون يهوديا لا يعني أن تجعل من فلسطين وطنا بديلا لك، وأن تتخذ من إسرائيل دولة لك. وهو الربط الذي عملت الحركة الصهيونية على تحويله إلى عقيدة لدى جميع اليهود. كما تمكّنت من اعتبار محاربة الصهيونية بمثابة معاداة للسامية، وفي ذلك خدعة تصدّى لها عديد المثقفين اليهود الأحرار. كذلك الشأن بالنسبة إلى أسطورة “أرض بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض”، وهي اختراع نسفته الأحداث، فجذور الشعب الفلسطيني ضاربة في أعماق التاريخ. يكفي الاستماع لأطفال غزّة.

أما أسطورة الجيش الذي لا يُقهر فقد تهاوت أمام الصمود الأسطوري للمقاومة، ما دفع رئيس الموساد السابق داني ياتوم، كما نُسب إليه، إلى طرح أسئلة غريبة مثل “ماذا يحدث؟ هل تخلى عنا رب موسى وهارون؟ من يقاتل معهم. هناك أشباح مخيفة تساعدهم على قتل اليهود.. نهاية دولة اسرائيل تقترب”. وهذا يعني سقوط الأسطورة في الماء. وعندما نرى 800 ألف إسرائيلي غادروا إسرائيل خوفا من الحرب، وعشرات الآلاف وضعوا في الفنادق، فهذا يعني أن حياة الاسرائيليين تغيّرت تماما، وانهار اقتصادهم، وأصابهم الرعب وشكوا في الدولة والجيش، يعيشون كابوسا غير مسبوق منذ سنة 1948.

تضع هذه المعطيات الموضوعية الجميع، أنظمة ونخبا، داخل العالم العربي وخارجه أمام نتائج غير قابلة للتشكيك. بعيدا عن التورّط في تضخيم المقاومة، كما حصل في حروب سابقة، لكن علينا عدم مجاراة الذين يؤلهون إسرائيل، ويعتبرونها قوّة لا تقهر. إنها ككل الكيانات السياسية في العالم معرّضة للضعف والزوال. وفي هذه اللحظات التاريخية، أظهرت الوقائع أن الكيان الصهيوني مهدّد من داخله، بعد أن نجحت المقاومة في حشره في الزاوية. انهارت أساطيره، لم يبق سوى قتل المدنيين، وكما علقت صحيفة برافدا الروسية “بتدمير غزّة تدمّر إسرائيل نفسها”.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي