يتواصل إرهاب الدولة، الشّنيع والمُمنهَج، الذي تمارسه دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزّة وكلّ فلسطين، ونحن عاجزون عمليًّا عن توحيد الرّؤية السياسيّة واتخاذ قرار عربيّ مُشترَك يعكس الحدّ الأدنى من غضبنا الإنساني الموجوع والمشروع.
أيضًا، يجد المثقفون العرب اليوم صعوبةً بالغةً في اختراق المنظومة الثقافيّة والإعلاميّة الغربية المُتحامِلة على الفلسطينيّين شعبًا وقضيّة، وهذا أمرٌ مُحبِطٌ ما في ذلك شكّ. لكنّ الأدْعَى للإحباط هو الصمتُ الذي تُواجَهُ به جرائمُ “التطهير العرقي” و”الإبادة الجماعية” في غزّة من لدن العديد من مثقّفي الغرب.
فهل هذا جديد؟
منطقُ الكيل بمكيالين، الذي نُواجهُهُ اليوم على مستوى السياسة الدوليّة، قديمٌ مُترسِّخٌ لدى عدد كبير من المثقّفين الأوروبيّين أنفسهم.
الفيلسوف الألماني كانط كان مُساندًا قويًّا للثورة الفرنسية، لكنّه في المقابل سيرفض الثورة الشعبية في بروسيا. لكنَّ معارضةَ مُدشّن الفلسفة النقدية للثورة في بلده لم توقِف رياحَها، إذ نجحت ألمانيا في التحوُّل من النّظام الملكي إلى جمهورية برلمانية ديمقراطية.
فيكتور هيجو، الأديب الإنساني الكبير الذي ساهم عبر نشاطه الاجتماعي وأدبه في إلغاء عقوبة الإعدام في بلده، كان يقول بأنّ الرَّب أهدى إفريقيا لأوروبا، وظلّ يبرّر الاستعمار الفرنسي لإفريقيا بهدف إنهاء العبودية. لكنّ البلدان الإفريقيّة ثارَتْ تباعًا وكسبت استقلالها بنضال أبنائها.
حتى ماركس نفسه لم يتردّد في تزكية الاستعمار الفرنسي للجزائر باعتباره شكلًا من أشكال الهجرات التي تنقل التّمدين والتحضُّر إلى شعوب شبه بدائية متخلّفة. كما اعتبر رسالة المستعمِر البريطاني في الهند مزدوجة؛ تدميريّة وباعثة للحياة، محدّدا إياها في محو أسباب “الركود الشرقي”، ووضع الأسس المادية للمجتمع الغربيِّ في آسيا. هكذا برّر ماركس هو الآخر الاستعمار الغربي بمنطق استشراقي.
من الواضح إذن أنّ شعارات الحرية والعدالة والعقل والتنوير لم تُحصِّن عددًا من مُفكّري الغرب وفلاسفته، ولم تمنعهم من تجاهُل بديهيّات بسيطة، على رأسها بديهيّةُ أنَّ الحياةَ الحُرّةَ حقٌّ مشروع وأنّ الاحتلالَ لا يُبرَّر.
ثم إنّ الثورة الألمانية نجحت في النهاية يا كانط. وإفريقيا تحرّرت يا هيجو. كذلك الجزائر والهند يا ماركس. فهل سيتصوّر عاقلٌ يثق في المستقبل أنّ فلسطين ستظل محتلَّةً أبدَ الدهر ضدًّا على منطق التاريخ وبداهة الأشياء؟
ومع ذلك، فدورُنا اليوم هو العمل على بناء خطابٍ ثقافي جِدّي يُناصرُ القضية الفلسطينية العادلة بوعي وعقلانية وينافح عنها بلُغةِ العصر. البكائياتُ وقصائدُ الرّثاء لا تكفي. شحذُ الهمم ودغدغةُ المشاعر لا تبني أفقًا واضحًا. كما أنّ الجعجعة اللّفظية لن تهدّئ من روع الضّحايا بقدر ما تُثلج صدر الجلّاد الذي يُشهرها أمام العالم كما لو كانَتْ خطرًا مُحْدِقًا رغم أنّه يعرف في قرارة نفسه أنّها مجرّدُ قعقعةٍ بالشِّنان.
لذا علينا أن نوقف سيل الكلام السَّائب، ولننصرف بدلًا من ذلك إلى إنتاج خطابٍ جادٍّ ومسؤول تتصالح داخله الكلمات مع دلالاتها. علينا مُقارعة كل هذا التزوير والتَّبرير المُراوِغ لسياسيّي الغرب وإعلاميّيه بخطابات ناقدةٍ تُمارسُ الفحص البلاغي لمقولاتهم، تكشف مغالطاتها المنطقية، تُفكِّكها وتُحاجِجُها بهدوء وبلا تشنُّج. ولقد تابَعْنا هذه الأيام المُرور المُوفَّق لمفكّرين ودبلوماسيّين وإعلاميّين فلسطينيّين وعرب أحرجوا مُحاوريهم على شاشات كُبريات القنوات الإعلاميّة. وشاهَدْنا كيف تحوّل ممثّلو التعدّد الإعلامي الغربي إلى مُحقّقين مُسخّرين يُكرّرون نفس السؤال، في محاولة يائسة لإخراج أكثر الضيوف رزانةً عن طَوْرِهم لدفعهم إلى “الاعتراف”.
لا أوهام لدينا. فنحن نعرف الطريقة التي يُفصِّل بها الغرب “الأسسَ القانونية” لعدالةٍ دوليّةٍ على مقاسِ مصالحه. فالخلطُ المُريب والمَعيب بين القانون والسياسة، وعدمُ فصل السُّلط في نظام العلاقات الدولية ورَّط النّظام العالمي الجديد في توظيف القانون “للتّهذيب السياسي” ولتصفية الحسابات السياسية، وتحويل قانون العقوبات الدولية إلى أداة انتقامٍ من الدول والكيانات “العاصية”. هكذا إذن تشكّلت أرضيةُ ما نُسمّيه اليوم سياسة “الكيل بمكيالين”، التي تطعنُ في مصداقية النّظام العالمي وشرعيته.
لا أوهام لدينا. فنحن نعرف أنّ فرنسا “الحرّية والمساواة والأخوّة” صارت مجرّد حكاية تُروى، فيما استحالت أوروبا التنوير والنّزعة الإنسانية والحداثة والديمقراطية إلى تراث إنساني مكانُه المتحف. فالكلمة الفصلُ اليوم صارت لهذا الغرب المُتعجرف الذي تقوده أمريكا بصلافة. لهذا ربّما يجدر بأحرار أوروبا – من المثقّفين النّزهاء والديمقراطيّين الأصلاء – أن يستعيدوا حرّيتهم في التفكير والتعبير، ليساهموا في تحرير الأفق الإنساني الأوروبي من سطوة “الغرب”: من سطوة أمريكا. بعدها فقط سيصير النقاش حول غزّة وفلسطين ممكنًا. وإلّا، فسيتواصل ما نُتابعه هذه الأيام بقرفٍ من حوارٍ للطُّرشان.
كلّنا مع غزّة، كلّنا مع الحقّ الفلسطيني في هذا العالم العربي مُترامي الأوجاع. كلٌّ مِن موقعه. نحتاج لأن نتظاهر يوميًّا ضدّ هذا القتل الأعمى لأطفال غزّة ونسائها ومدنِيّيها العُزّل. لكن علينا أيضًا أن نشتغل بجدٍّ لنبني خطابًا. وهذه مهمّة شاقّة طويلة النّفَس. إنّما لا مَحيد عنها، ولا بُدّ من الانخراط فيها.
ربّما علينا أن نُعيد الاعتبار للبداهة: واقعُ الحال هو أنّ الأرض الفلسطينيّة مُحتلّة، وغزّة قطاعٌ مُحتَلّ. ومقاومة الاحتلالِ وحصارِه الغاشم حقٌّ مشروعٌ لكلّ فلسطينيٍّ من أبناء غزّة بغضِّ النظر عن الانتماء الحزبي والإيديولوجي لِمَن يُمارِسُ فعلَ المقاومة، مثلما كانت حقًّا مُصانًا للأوروبيّين في مواجهة الاحتلال النّازي. ثمّ إنّ ردَّ الفعل اليائس لمن يرزح تحت نير الاحتلال مُكابِدًا كلّ أنواع الحصار أمرٌ متوقّعٌ بل وَيُمكن تفهُّمُه بقليلٍ من سلامة العقل والطويّة. لكن، أنْ يُعربِدَ المحتَلُّ متصنّعًا المفاجأة دون أن يجد في هذا النظام الدولي المُختلّ من يُوقفه عند حدِّه، فهذا إذكاءٌ للمزيد من السُّعار.
لذا نُدين هذه الأساليب المُتغطرِسة في تجريم فعل المقاومة، بل وتجريم حتى إشهار التَّعاطف مع ضحايا الاحتلال. نرفض هذا الابتزاز الرّخيص الذي يُمارَسُ ضدّ الأصوات الحرّة في الغرب بشكلٍ خاص. نرفض هذه الألاعيب الإعلامية المفضوحة التي تمارِس تكميم الأفواه وهي تحدّد الكلمات وتستبِدُّ بإلباسِها المعاني التي تُناسب تأويلها المُغرِض، ثمّ تشرع – بناءً عليه – في تصيُّد أصحاب الضّمائر الحيّة والمواقف الحرّة للإيقاع بهم في أحابيلها المكشوفة. وها نحن نرى كيف بلغ التّغوُّل مداه بالتّنمُّر على أنطونيو غوتيرِيش لمجرّد أنْ حاولَ ممارسةَ الحدّ الأدنى من الحياد الذي يُلزِمُهُ به ميثاق الأمم المتحدة، وهم يطالبون باستقالته من منصبه كأمين عام فقط لأنّه قدّرَ بنزاهةٍ أنّ هجمات السابع من أكتوبر “لم تأتِ من فراغ”، وأنَّها “لا تُبرِّر القتل الجماعي الذي تشهده غزّة”.
نرفض أيضًا أن تتحوّل بعض وسائط التواصل الاجتماعي إلى أدواتٍ للقمع والتنكيل بالمتعاطفين مع الدم الفلسطيني ومع شهداء غزّة. فأصنافُ المتاريس الرّقميّة التي يستعين بها فيسبوك للتّضييق على المحتويات التي لا تُوافق “هواهُ” السّياسيّ، فاجأت سكّان هذه القارّة الافتراضيّة من العرب والمسلمين الذين آمنُوا منذ “الربيع العربي” بمُعجزتهِ التّواصليّة الإلكترونيّة وصدَّقوها وسكنوا إليها واستثمروا فيها إنسانيًّا واجتماعيًّا، قبل أن تنقلب عليهم لوغاريتماتُهُ اليوم لتصدمهم بحقيقة أنّ الحريّة في المدار الإلكتروني مسقوفةٌ مُوجَّهة.
هناك صورٌ شاهدناها هذه الأيام على الشاشات العربية ستُعذِّب الضمير العالمي طويلًا. صورٌ مُؤلمة لجثث أطفال غزّة ومدنيِّيها المقصُوفين بوحشية لا نظير لها. صورٌ حقيقيّة لا علاقة لها بالصُّوَر المزعومةِ التي ادّعى بايدن وجوقَتُه السياسية والإعلامية الاطِّلاع عليها في الخفاء، والتي استُعمِلت ذريعةً لتدمير غزّة وإبادة أهلها. هناك صورٌ كثيرة، موثوقة وملفّقة، ستطفو عاجلًا أم آجلًا على سطح الحقيقة، وستحتاج إلى أن يُحقّق فيها المستقبل.
لكن ليست الصور وحدها ما يقضُّ المضاجع اليوم، بل التَّمثُّلات أيضًا. فالتَّمثُّلات الفاسدة تعذّبُ أكثر ممّا تُعذّبُ الصّور. لذا علينا أن نفتح بجرأةٍ جبهة الصُّور النمطية والأحكام المسبقة. فهي حاسمةٌ في مواجهةٍ بهذا الزّخم. ذاك أنّ التمثّلات التي كرّسها الإعلام الغربي عنّا في الأدب والسينما والتلفزيون، بالكثير من التهويل وبتحريضيّة سافرة، لعبت دورًا خطيرًا في تنميط بل وشيطنة صورة العربي والمسلم. وها هم السياسيّون الحُواة في أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الأوروبيّة يُوَظّفون هذه الصورة لتجييش مُواطِنيهم واستثارة مشاعر العداء والكراهية لديهم ضدَّ العرب والمسلمين. مشاعرُ عداءٍ كامنةٌ في لاوعي الغربيّين وفي وجدانهم العامّ منذ الحروب الصليبيّة. لكن، عوض التدخل لتجسير الهوة النّفسية وخلق أسباب التقارب بين الثقافات والشعوب، ها هو العدوان الإسرائيلي اليوم يحرص على تغذية هذه التَّمثّلات القاتلة، بل ويستثيرُها لتمرير مواقفه اليمينيّة العنصريّة وتبرير جرائمه الحربيّة.
وأخشى أنّ بعضَ الأوروبيّين يريدون التَّطهُّر من ماضٍ أسود اضطهدَ فيه أسلافٌ لهم اليهود وعرّضوهم لمختلف أصناف التّنكيل. لكن، هل بالمساندة العمياء لجيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يمارس الإبادة الجماعيّة لأطفال غزّة يكون التَّطهُّر؟ أم بالإدانة المبدئية النّزيهة لكل أشكال التَّفنُّن في القتل، أيًّا كان جنسُ القاتل ودينُه وجنسيتُه؟ ثمّ ألَمْ يكن اليهود إلى جانب المسيحيّين والأقباط والإيزيديّين والصابئة والأكراد والأمازيغ جزءًا من النسيج الثقافي والعرقي والديني الذي تعايش على امتداد عصور في المنطقة العربية، وذلك في مرحلة لم يتمكّن فيها الغربُ من تحمُّلِ اليهود كبنيةٍ مُغايرة؟ لقد حدث ذلك في الماضي. طرد الإسبانُ الآلافَ من اليهود والموريسكيّين قبل خمسة قرون، طاردوهم ونكَّلوا بهم. وعرَّض النازيّون اليهود لمحرقة شنيعة. ونحن لا نحاسب أوروبيّي اليوم على أخطاء الماضي وجرائمه، فما بالهُم يُحاسبوننا نحنُ على جرائم لم نقترفها، في عملية قلبٍ سافرٍ للأدوار؟ فأطفال غزّة الذين تُشوى جُلودُهم اليوم ليسوا مسؤولين عن محرقة الماضي. كما أنَّ أهلنا في فلسطين ساميّون لو تدرون، فكيف يُتَّهمون بمعاداة السّامية؟
ثم لنقُلها صراحةً: إسرائيل ليست جزءًا من التاريخ القديم للمنطقة. فهي بنتُ جغرافيا متخيَّلة اخترعها الكهنة اليهود. ثم ساهم الاستشراق والمستشرقون في صياغة سرديتها وبلورة حبكتها. وأخيرًا مكّنَ لها الاستعمار البريطاني وغرسَها في قلب المنطقة العربية ضمن مشروعٍ عامٍّ لتمزيقِ الكيانات العربيّة وزرْعِ أسباب الفتن الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة وسطها قبل منْحِها استقلالاتٍ ملغومةً يبدو أنّها لا تزال ناقصةً حتى اليوم. وها هي أمريكا وريثةُ الاستعمار، ولاعتبارات جيو-استراتيجية لها علاقة بالنفط والغاز، تُواصلُ دعم صنيعة الاستعمار في المنطقة ظالمةً ومظلومة.
لهذا نرى أنّ جزءًا من مواجهة هذه الأسطورة المعاصرة يقتضي فعلًا تحليل السردية التي تسنُدها والتَّمثُّلات التي تعضِّدُها والخطابات التي تُروّجُ لها.
فالتَّرافع من أجل فلسطين لا يجب تركُه للسياسيّين وحدهم، وَلِمن والَاهم من وسائل الإعلام الكبرى السائدة. إنّما هو شأنٌ ثقافيٌّ وحضاريٌّ أيضًا. لذا نحتاج صوت المثقّف وتدخُّله. كما نحتاج أكثر من أيّ وقت مضى الأصوات العربيّة الحرّة التي تعيش في الغرب. فهي أقدرُ منّا على محاورة الرّأي العام الغربي بمنطِقِه ولغتِه. فشعوب الغرب تستأهل خطاب الحقيقة بكلّ وعي ونزاهة. وهي لن تقبل الانجراف طويلًا وراء جوقة التّزييف التي تُلغي آدمية الفلسطينيّ لتبرير إبادته، دافعةً المنطقة ومعها باقي العالم إلى مزيد من التَّقاطُب والتصعيد، وإلى مزيد من قصف الأمل وتفجير المستقبل.
تعليقات الزوار ( 0 )