ليس من القابل للتصور أن تتوهم أي دولة أن في استطاعتها أن تكون أشد من أمريكا عطفا وحدبا على الولد الإسرائيلي المدلّل. ومع ذلك فإن هنالك من يتوهم ويتنطّع. وقد قدم جون كيري الدليل على أن أمريكا تغتاظ من هذه المزايدات المجانية. فقد قال قبيل مغادرته وزارة الخارجية، في يناير 2017، إن الرئيس أوباما كان يعتزم إصدار الأمر في 2013 بشن هجمات عسكرية على النظام السوري، لكن الذي حال دون ذلك هو أن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون توجّه إلى مجلس العموم لاستصدار قرار يجيز مشاركة بريطانيا (مع فرنسا) في تنفيذ هذه الهجمات. فكانت النتيجة أن وجد أوباما نفسه ملزما هو أيضا بالسعي للحصول على موافقة الكونغرس. ومعروف أن مجلس العموم صوت بالرفض، تجنبا لتكرار الخطأ الجسيم الذي تمثل في موافقته على شن الحرب على العراق عام 2003، أما الكونغرس فلم يتح له التصويت لأن الذي وقع في الأثناء هو أن أوباما اتفق شخصيا مع بوتين على تسوية تنقذ النظام السوري مقابل إتلاف أسلحته الكيميائية.
وليس هذا الانتقاد، بل الاتهام، الأمريكي العلني لبريطانيا من معتاد الأمور. وإنما تفسيره أن كيري كان مغتاظا من المزايدة البريطانية في مجال لا ينازع أمريكا فيه منازع: الدعم اللامشروط لإسرائيل. إذ قبل ذلك بأسبوع فقط أقدم المتحدث باسم رئيسة الوزراء تيريزا ماي على انتقاد موقف كيري من إسرائيل (!) لأن أمريكا قررت، في إحدى الحالات النادرة في التاريخ الدبلوماسي المعاصر، الامتناع عن التصويت بدل أن تستخدم حق الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدين استمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. وشرح كيري الموقف آنذاك قائلا إن تنامي قوة المستوطنين السياسية سوف تجبر إسرائيل على اتخاذ قرار مصيري: «إما أن تكون يهودية أو ديمقراطية. لا يمكنها أن تكون هذا وذاك معا. وإلا فإنها لن تعيش في سلام حقيقي أبدا». كان هذا توضيحا نادرا في قوته توجهه الدولة الحامية إلى الولاية المحميّة، أي أنه بمثابة توبيخ من الوليّ إلى الطفل الذي في حضانته. لكن بدل أن يغتنم المتحدث الحكومي البريطاني هذه الفرصة «لإعانتنا بالسكوت» (كما يقول المثل الشعبي) فإنه بدّدها قائلا: «لا نرى أن من المناسب توجيه الانتقاد لتركيبة حكومة منتخبة ديمقراطيا في دولة حليفة».
وما هذه المزايدة من بريطانيا إلا اجتهاد في لزوم ما لا يلزم. تماما مثلما فعلت قبل أيام برفضها لتقرير أمنستي عن الأبارتهايد الإسرائيلي. وقد رفضت التقرير دول ثلاث: أمريكا وبريطانيا وبطبيعة الحال… ألمانيا. ذلك أن المزايدة الألمانية في مجال الدعم اللامشروط لإسرائيل ليست اجتهادا وإنما هي ضرورة، بل الأدق أنها تحولت في الأعوام الأخيرة من ضرورة لا نقاش حولها إلى عادة لا تفكير فيها. عادة تكاد تكون بافلوفية. ترسّخت فتحولت جبلّة وطبعا.
لهذا لم يكن مفاجئا أن تقدم دويتشه فيله أخيرا على فصل بعض من صحافييها العرب وتقديم آخرين للتحقيق بالتهمة المعروفة: معاداة السامية. وكان مما اكتشفناه بهذه المناسبة أن ثمة في ولاية شمال الراين ويستفاليا منصب مفوض لشؤون معاداة السامية (!) وأن التي تتولاّه وزيرة سابقة للعدل. والواقع أن عمل الصحافيين العرب في المؤسسات الغربية لا يمكن أن يخلو أحيانا من امتحان للضمير لأن هذه المؤسسات حتى إن لم تكن ناطقة بلسان حكوماتها فهي تظل معبرة عن ثقافة مجتمعاتها ومصالحها وتحيّزاتها. وقد كان هذا واضحا منذ أول يوم. ذلك أن النشرة التي دشّن بها راديو بي بي سي العربي بثّه في 3 يناير 1938 تضمنت خبرا يقول: وقع صباح اليوم إعدام عربي آخر من فلسطين شنقا في عكا بأمر من محكمة عسكرية. وكان قد اعتقل أثناء المظاهرات الأخيرة في جبال الخليل وعثر في حوزته على بندقية وبعض الذخيرة». وقد أثار الخبر استنكارا في البلاد العربية، بل إن بعض الشهود رووا أنه أبكى الملك عبد العزيز.
أما أعسر حالات امتحان الضمير فقد وقعت أثناء العدوان الثلاثي. كان ضمن العاملين في بوش هاوس في لندن آنذاك مذيعون مصريون مثل الكاتب حسين أحمد أمين، والكاتب زكي العشماوي، عميد كلية الآداب بجامعة الإسكندرية لاحقا، والممثل محمود مرسي. وكان مرسي يعمل قبل ذاك في القسم العربي بالإذاعة الفرنسية في باريس، إلا أنها قررت فصل جميع موظفيها من المصريين بعد أن أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس في 23 يوليو 1956، وأمهلتهم أسبوعا واحدا لمغادرة فرنسا! فما كادت تمضي ثلاثة أشهر على انضمام مرسي للبي بي سي حتى شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل العدوان. عندها وقع المذيعون المصريون، وكانوا سبعة، في حيرة وأزمة ضمير. ولم تثمر النقاشات الحادة بينهم موقفا موحدا. فكان أن قرر ثلاثة منهم الاستمرار في عملهم، وفضّل الرابع الالتحاق بالإذاعة التونسية، بينما استقال مرسي وأمين والعشماوي وعادوا إلى مصر.
تعليقات الزوار ( 0 )