شارك المقال
  • تم النسخ

عن اختلال مقاربة التحالف الدولي لمحاربة “داعش”

انقضت أكثر من أربع سنوات على دعوى هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية (داعش)”، ومع ذلك لا يزال التحالف الدولي الذي تشكل في دجنبر 2014 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية عقب سيطرة التنظيم على مساحات واسعة في العراق وسوريا، يحرص على عقد اجتماعه السنوي بانتظام، بحجة ضمان عدم عودة تنظيم “الدولة” وفرض سيطرته المكانية في مناطق عدة مرة أخرى.

وقد انعقد المؤتمر الأخير للتحالف الدولي في العاصمة السعودية الرياض في الثامن من يونيو الماضي، وبمشاركة دول التحالف التي بلغت نحو 86 دولة، ويشير استمرار عقد الاجتماعات الدورية السنوية لدول التحالف، إلى الاعتراف أن إلحاق هزيمة نهائية بتنظيم الدولة لا يزال هدفا بعيد المنال، وهو ما يؤكد اختلال مقاربة التحالف الدولي في التعامل مع تنظيم الدولة، والظاهرة الجهادية العالمية، وهو اختلال نابع من الركون إلى معالجة أعراض الظاهرة الجهادية المسلحة، من خلال الاعتماد على مقاربة القوة العسكرية الصلبة في معالجة ظاهرة أيديولوجية وحركية معقدة، تستند جاذبية أيديولوجيتها وحركيتها إلى أسباب سياسية جذرية عميقة، وفي مقدمتها متلازمة تحالف الإمبريالية العالمية والاستبدادية المحلية. فالإمبريالية الأمريكية تقوم على ضمان الهيمنة بديمومة العنف والغزو، بالتحالف مع الأنظمة الاستبدادية الضارية التي تصادر التنمية والرفاه والحقوق والحريات، وتفتقر إلى أبسط مقومات الرشد والعدالة.

إن اختلال مقاربة الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود التحالف الدولي ضد الجهادية العالمية ظاهرة للعيان، فهي مقاربة تتعامل مع ما تطلق عليه “الإرهاب” من منظورات الاستغلال والهيمنة، لضمان تحقيق مصالحها الإمبريالية في المنطقة، وهي تتعامل مع أنظمة استبدادية بائسة، وفي حقيقة الأمر فإن تعاون العراب مع اللصوص هو الوصفة المثالية لعدم الاستقرار، والسبب العميق لعدم الاستقرار وظهور وتطور الجهادية العالمية.

فالإمبريالية والاستبدادية يشكلان ضمانة مؤكدة لازدهار العنف السياسي الذي يسمى “الإرهاب”، ومنذ تشكيل التحالف الدولي ضد داعش في شتنبر 2014، قدم التحالف الدولي دعما عسكريا حاسما للأنظمة الاستبدادية والطائفية الفاسدة، وللقوات المحلية الناشطة ميدانيا، من أجل دحر تنظيم الدولة في العراق وسوريا. ومكّن هذا الدعم القوات العراقية من إعلان تحرير كامل أراضيها في دجنبر 2017، في حين أتاحت العمليات في سوريا بدعم مليشيا محلية مستبدة وفاسدة لا تتمتع بصفة دولية، وتصنف لدى بعض الدول بالإرهاب؛ الانتهاء من تحرير المناطق التي كان يحتلها تنظيم الدولة في شمال شرق سوريا في مارس 2019، ولم تتحقق منذ ذلك الوقت أي وعود بإعادة الإعمار وإعادة بناء الديمقراطية، بل ساهمت الحرب بمزيد من الفساد والاستبداد، ولم يحل الاستقرار والأمن.

يعكس البيان الختامي لاجتماع التحالف الدولي في الرياض اختلال مقاربة التعامل مع تنظيم الدولة والجهادية العالمية، فلا تزال مقاربة التحالف تصر على تجنب الحديث عن الأسباب العميقة لظهور تنظيم الدولة وشروط عودته مرة أخرى، إذ يعيد التحالف إنتاج ذات الخطاب النمطي دون إشارة إلى متلازمة الإمبريالية والاستبدادية. إذ يؤكد البيان أن: يلتزم أعضاء التحالف الدولي الـ86 بمواجهة تنظيم داعش على مختلف الجبهات، وتفكيك شبكاته ومجابهة طموحاته العالمية. وبالإضافة إلى الحملة العسكرية التي ينفذها التحالف في سوريا والعراق، يلتزم التحالف بما يلي: تدمير البنى التحتية الاقتصادية والمالية لتنظيم داعش، ومنع تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب عبر الحدود، ودعم الاستقرار واستعادة الخدمات الأساسية العامة في المناطق المحررة من داعش، ومجابهة الدعاية الإعلامية للتنظيم. وقد أعاد وزراء التحالف التأكيد أن القتال ضد داعش في العراق وسوريا لا يزال يمثل الأولوية الأولى للتحالف، وأكدوا أهمية تخصيص الموارد الكافية لدعم التحالف والشركاء الشرعيين. بالإضافة إلى ذلك، أعلن وزراء التحالف إطلاق حملة تعهد مالي من أجل الاستقرار؛ بهدف جمع 601 مليون دولار للمناطق المحررة من داعش في العراق وسوريا، وقد أعلنت ثماني دول أعضاء بالفعل عن تعهدات بأكثر من 300 مليون دولار.

فشل مقاربة التحالف الدولي في التعامل مع تنظيم الدولة والجهادية العالمية، يبدو ظاهرا من خلال صعود فروع داعش في عدة مناطق، وهو ما أكده التحالف فيما يخص أفريقيا جنوب الصحراء. فقد ناقش الوزراء ظهور فروع داعش التي تعمل في غرب أفريقيا والساحل وشرق أفريقيا ووسط وجنوب أفريقيا. وأشاد الوزراء بعمل مجموعة التركيز على أفريقيا التابعة للتحالف العالمي، وأشادوا بانعقادها في نيامي، النيجر في مارس 2023، كونه أول حدث للتحالف في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

إلى ذلك، أيد الوزراء خطة عمل مجموعة التركيز الأفريقية التي تم تبنيها في نيامي، والتي تدعو الأعضاء إلى التعاون في تحسين قدرات مكافحة الإرهاب التي يقودها المدنيون الأفارقة وقدرات الاتصال الاستراتيجي، فضلا عن ضرورة مواجهة القوات العسكرية الخبيثة والانفصالية والجهات الفاعلة غير الحكومية، التي تقوض التعاون في مكافحة الإرهاب وتزعزع الأمن الإقليمي. وفيما يتعلق بالتهديد الذي يشكله تنظيم الدولة في خراسان في المنطقة المحيطة بأفغانستان، وكذلك على المجتمع الدولي، شدد الوزراء على أهمية تركيز التحالف المكثف ومواءمة جهوده لمراقبة داعش في خراسان، ومنع قدرته على جمع الأموال والتنقل ونشر الدعاية. ويظل أعضاء التحالف ملتزمين بضمان ألا تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذا آمنا للإرهابيين.

لا يتطلب اكتشاف خلل مقاربة التحالف الدولي ضد الجهادية العالمية بيانات مكررة، فلا يزال تنظيم الدولة ينشط في العراق وسوريا. وبحسب تقديرات نشرت في تقرير لمجلس الأمن الدولي في فبراير الماضي، لدى التنظيم “ما بين 5000 إلى 7000 عضو ومؤيد ينتشرون بين العراق” وسوريا، “نحو نصفهم من المقاتلين”. وفي مارس الماضي، نبّه قائد القيادة الوسطى للجيش الأمريكي “سنتكوم” مايكل كوريلا من أن مقاتلي التنظيم المحتجزين في سوريا والعراق هم “جيش حقيقي قيد الاعتقال”. وحذّر من “أنه في حال تحريرهم، ستشكل المجموعة تهديدا كبيرا”، موضحا أنّه “ما من حلّ عسكري لمعتقلي” التنظيم.

ويحقق تنظيم الدولة نجاحا في أفريقيا وجنوب ووسط آسيا، وتشير المؤشرات كافة إلى تلك الحقيقة؛ فقد كشف تقرير مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP) بشأن الاتجاهات والأنماط العالمية الرئيسية للإرهاب، أن تنظيم الدولة (داعش) والجماعات التابعة له، تليه حركة الشباب وجيش تحرير بلوشستان وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، تعد الجماعات الإرهابية الأكثر دموية في العالم في عام 2022. وقد بقي تنظيم الدولة التنظيم الأكثر دموية على مستوى العالم للعام الثامن على التوالي، مسجلا أكبر عدد من الهجمات والوفيات من الجماعات الأخرى في عام 2022.

وفي ذات السياق، يلقي أحدث تقرير للأمم المتحدة عن تنظيم الدولة الضوء على ضرورة إحراز المزيد من التقدم في معالجة تحديات الإعادة إلى الوطن، وأساليب التمويل الجديدة، وانتشار الأسلحة، والتهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الأفريقي، من بين قضايا أخرى، حيث أصدر الأمين العام للأمم المتحدة التقرير السادس عشر الذي يغطي تهديد تنظيم الدولة للأمن الدولي، ونطاق جهود الأمم المتحدة لمساعدة الدول الأعضاء على مواجهته. ويسلط التقرير الضوء على أربع قضايا رئيسية؛ تتمثل الأولى بالاستقرار الداخلي، فعلى الرغم من أن العام الماضي شهد مقتل زعيم تنظيم الدولة أبو الحسن الهاشمي القرشي، إلا أنه سرعان ما تم استبداله بالزعيم الحالي أبو الحسين الحسيني القرشي. وبايعت الجماعات التابعة للتنظيم “الخليفة” الجديد، وبقي التنظيم مستقرا على الرغم من استنزاف قيادته.

وعلى الرغم من أن جهود التحالف أعاقت قدرة التنظيم على استخدام أساليبه التقليدية في التمويل، إلا أن الصندوق الإجمالي لتمويل الحرب التابع لتنظيم الدولة لا يزال كبيرا، بحيث يضم ما مجموعه حوالي 25 إلى 50 مليون دولار، وتُستخدم غالبية هذه الأموال لدفع رواتب المقاتلين، وإعالة أسر الذين ماتوا أو سُجنوا. بالإضافة إلى ذلك، لجأ التنظيم إلى العملات المشفرة لزيادة مرونته المالية.

ويشير التقرير إلى أن مرافق الاحتجاز التي تضم مقاتلي “داعش” الأجانب وعائلاتهم في العراق وسوريا، لا تزال عرضة لهجمات “داعش”، والديناميات الداخلية المتقلبة، والتحديات الإنسانية. ويزيد هذا الوضع من الحاجة الملحة لإعادة هؤلاء الأفراد إلى بلدانهم الأصلية متى أمكن. ولكن على الرغم من الضغوط الدولية الهادفة إلى تحقيق هذه الغاية، فقد تمت إعادة حوالي 2500 عراقي و500 فرد من 12 دولة أخرى إلى أوطانهم في عام 2022، وهو رقم صغير نسبيا عند الأخذ في الاعتبار أن ما يقدر بنحو 56000 امرأة وقاصر، ما زالوا محتجزين في مخيم الهول السوري للنازحين، ولا يزال حوالي 10 آلاف مقاتل في السجن.

إن اختلال مقاربة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة والجهادية العالمية، لا تقتصر على تجاهل الأدوار الرئيسية لتحالف الإمبريالية العالمية والاستبدادية المحلية، فهي تتجاهل التحولات الجيوسياسية الدولية، وتبدل الأولويات من حرب الإرهاب إلى الحروب والصراعات بين الدول، فقد شكلت سياسة الحرب على الإرهاب حجر الأساس في عقيدة الأمن القومي الأمريكي للتوسع والهيمنة في إطار نظام قطبي أحادي. ورغم ذلك، تنامت الجهادية العالمية وباتت أكثر خطورة وأوسع انتشارا. وفي ظل عودة التنافس بين الدول كمحدد للصراعات الجيوسياسية، سوف تتراجع أهمية الحرب على الإرهاب، واعتبار ما يسمى “الإرهاب” مجرد عنف سياسي وصراع محلي وحرب أهلية.

ولذلك، فإن الجهادية العالمية سوف تشهد ازدهارا على المدى المتوسط والمدى البعيد؛ فالتنافس والصراع بين الدول سوف يشتد بحيث لن تمتلك الدول الكبرى رفاهية ملاحقة مخاطر الجهادية العالمية في مناطق لا تتمتع بأهمية استراتيجية وجيوسياسية كبيرة. وتبدو أفغانستان مثالا جيدا في هذا الشأن، كما هو حال منطقة الصحراء والساحل في أفريقيا؛ إذ لا يبدو أن أيا من القوى المتنافسة يكترث لصعود الجهادية العالمية في هذه المناطق، بل يبدو أكثر استعدادا لقبولها والحوار معها، والبحث عن نقاط التقاء وتقاطعات مصالح أمنية أو اقتصادية.

يجب الالتفات إلى ضعف مصداقية التقارير والمؤشرات الدولية الخادعة حول “الإرهاب”، فعلى النقيض من استنتاجات تقارير الأمم المتحدة، ومؤشرات “الإرهاب” الكمية السطحية على اختلاف نسخها، يمكن القول؛ إن الجهادية العالمية تراقب عن كثب التحولات الجيوسياسية في البيئة الدولية الجديدة، وهي تتموضع داخل الثغرات وتستغل الفراغات التي تخلقها. فقد باتت الاستراتيجية المعتمدة في حرب الإرهاب تستند إلى المواجهة “عبر الأفق”، وهو ما ظهر من خلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وهو النهج الذي تبعته فرنسا بالانسحاب من مالي وإنهاء مهمة “برخان”، فالمؤشرات كافة أظهرت أنّ حرب الإرهاب في كلا البلدين كانت فاشلة، وأن احتمال تغيير الوضع والانتصار لمصلحة أمريكا وفرنسا كان أشبه بالمستحيل.

وقد أدت إرهاصات ولادة نظام دولي تعددي إلى تغيّر المقاربة الأمريكية تجاه حرب الإرهاب، حيث تخلت عن سياسة إرسال الجنود على الأرض، وتبنت استراتيجية “عبر الأفق”، وهي استراتيجية لم يثبت نجاحها، وسرعان ما ستجد الأنظمة الاستبدادية نفسها في مواجهة الجهادية العالمية دون وجود تحالف دولي.

خلاصة القول؛ إن اختلال مقاربة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة والجهادية العالمية لا يقتصر على تجاهل الأدوار الرئيسية لتحالف الإمبريالية العالمية والاستبدادية المحلية في بروز ظاهرة الإرهاب، فهي تتجاهل التحولات الجيوسياسية الدولية، وتبدل الأولويات من حرب الإرهاب إلى الحروب والصراعات بين الدول؛ فمقاربة التحالف الدولي في التعامل مع تنظيم الدولة والجهادية العالمية، لا تزال تصر على تجنب الحديث عن الأسباب العميقة لظهور تنظيم الدولة وشروط عودته مرة أخرى؛ إذ يعيد التحالف إنتاج الخطاب النمطي ذاته، دون إشارة إلى متلازمة الإمبريالية والاستبدادية.

فالجهادية العالمية تمكنت من ترسيخ أقدامها وتوسيع نفوذها، من خلال استغلال الثغرات الكامنة في صلب الاستراتيجيات الكارثية لساسة الحرب على الإرهاب في حقبة الأحادية القطبية الأمريكية، التي استخدمت “الإرهاب” ذريعة للهيمنة والسيطرة، وديمومة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. ومع إرهاصات نهاية عصر الأحادية القطبية وبداية زمن التعددية القطبية، فإن الجهادية العالمية تراقب التحولات في البيئة الدولية وصعود الصين، وإذا كان عصر الأحادية القطبية ساهم بصعود الجهادية العالمية، فإن زمن التعددية القطبية يشير إلى تمكين الجهادية العالمية في مناطق بعيدة عن حلبة التنافس والصراع الدولي، وهو ما يضع الأنظمة الاستبدادية في مواجهة مع الجهادية العالمية دون نصير من تحالف دولي على وشكك التفكك والانهيار، مع بروز أولويات أخرى.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي