أين هو عبد العزيز بوتفليقة؟ الرئيس السابق الذي انطلقت الاحتجاجات ضد ترشيحه لعهدة خامسة، وانتقلت بعد ذلك طيلة 53 جمعة و52 ثلاثاء إلى مطالب تريد دولة مدنية وليست دولة جيش لتصل منذ ثلاثة أشهر إلى نسخة رابعة من الحراك تطعن في مشهد تصارعي في شرعية الرئيس تبون المعين من طرق قائد الجيش القايد صالح؟
إنه مشهد جزائرى تصارعي بين الحاكمين والشارع بات بعيدا عن مخاوف العشرية السوداء، فلا أحد يستطيع اليوم هندسة عشرية موت جديدة للجزائريين لأن مهندسي عشرية بداية التسعينيات أحدهما يوجد في السجن (الجنرال توفيق مدين) والثاني في منفى اختياري لا أحد يعرف كيف سمح له بالفرار (الجنرال خالد نزار) !!
لكن المشهد الجزائري الذي توجد فيه اليوم قوة الحراك التي غيّرت كل التوازنات القديمة يظل حاملا لغموض كبير حول ماذا جرى منذ صيف 2018 شهورا طويلة قبل انطلاق الحراك في فبراير 2019؟
هل كان عبد العزيز بوتفليقة على قيد الحياة لحظة انطلاق الحراك؟
لم يظهر أي اثر لعبد العزيز بوتفليقة منذ شهر غشت في صيف 2018، لما تم نقله إلى أحد مستشفيات سويسرا وخرجت بعدها رواية أحد أطباء المستشفى السويسري تقول أن بوتفليقة لم يعد موجودا، ليُقابَل هذا الخبر برواية مضادة من الحاكمين المتحالفين آنداك السعيد بوتفليقة والقايد صالح، رواية الممرض الجزائري الذي كان يشتغل في المستشفى السويسري وذهب لنقل بوتفليقة من مستودع الأموات ففوجئ به وهو حي ينطق.
إنها روايات كثيرة منذ ذلك التاريخ بدأت تتناسل، لكن الثابت أن عبد العزيز بوتفليقة لم يظهر له أثر منذ صيف 2018 وأن نقل بوتفليقة لإجراء فحوصات طبية مع انطلاق الحراك في فبراير 2019 وعودته في تغطية نقلها التلفزيون العمومي الجزائري لم تكن سوى مسرحية، فالذي كان في مقدمة السيارة يرفع يده ليحيي الجزائريين في صورة تلتقط من بعيد هو الناصر بوتفليقة وليس عبدالعزيز، كما أن صور عبد العزيز بوتفليقة بعد ذلك وهو يستقبل قائد الجيش ومسؤولين آخرين هي صور مركبة تعود لبوتفليقة في سنة 2016 بأحد المستشفيات السويسرية.
والمثير هو اختفاء بوتفليقة من المشهد الجزائري بطريقة نهائية بمجرد دفعه إلى الاستقالة واعتقال شقيقه السعيد بوتفليقة، فكيف لرئيس كان يُنقل باستمرار إلى باريس وسويسرا أن تنقطع أخباره؟
هل معنى هذا أن أحواله الصحية تحسنت بطريقة مفاجئة؟ لذلك يبدو أن شهادة السعيد بوتفليقة في المحكمة العسكرية السرية التي تقول أن القايد صالح احتجز بوتفليقة وأنه كان الحاكم الفعلي للجزائر منذ 2015 قد يكون قد وقع تحريفها لأن السعيد بوتفليقة قد يكون صرح أمام المحكمة العسكرية بما هو أخطر من ذلك يفيد أن عبد العزيز بوتفليقة لم يعد موجودا منذ 2018 وأن دور السعيد بأنه كان مستشارا لـ”الرئيس” الذي تولى الحكم محل عبد العزيز بوتفليقة الذي هو القايد صالح قائد الجيش، وهذا يشرح أمورا كثيرة منها حادث الصراع الذي وقع بين الأربعة القايد صالح وتوفيق والسعيد وطرطاق، وظاهرة خطابات القايد صالح إلى الجزائريين، وحادث الموت الغامض للقايد صالح نفسه بعد التعيين الانتخابي للرئيس الجديد عبد المجيد تبون.
ولهذا يبدو واضحا، والأقرب اليوم إلى الصواب، أن عبد العزيز بوتفليقة لم يكن موجودا، وأن ضغط الحراك دفع الحاكمين إلى الصراع لينتهي الأمر بسجن السعيد بوتفليقة ومدين وطرطاق ومحاكمتهم في محكمة عسكرية بطريقة سرية، فالقضية تتجاوز صراعا حول أختام الرئاسة إلى خوف من فضيحة حكم الجزائريين طيلة سنة برئيس قد يكون مات حُملت صوره ونقلت رسائل عنه واتخذت قرارات باسمه وهو غير موجود.
وقد يكون هذا الحدث الأخطر في تاريخ الدول الحديث، ذلك لأن كل المؤشرات كانت تدل على أن قادة الجيش في الجزائر كان من الممكن أن يستمروا في حكم الجزائريين لسنوات طويلة ببوتفليقة غير الموجود، لكن خروج الحراك فاجأ الجيش، كما فاجأ أيضا محيط بوتفليقة !.
الجيش صنع دولة ولازال يتمسك بها.. وتبون نسخة ثانية من بوتفليقة
واليوم، بعد مرور سنة على الحراك الشعبي، فلاشيء تغير في الجزائر، ذلك أن الجيش يستمر في الحكم برئيس مدني معين من طرف قائد الجيش السابق القايد صالح الذي رحل وقام تبون بتسليم كل السلطات لخليفته بالنيابة الجنرال سعيد شنقريحة رجل الحرب، لكن داخل المجلس العسكري الذي حكم به القايد صالح الجزائري قبل موته الغامض يعرف انقسامات كبيرة نتيجة انهيار مشروعية الجيش التي استنفذها خروج القايد صالح من الثكنات لمخاطبة الجزائريين في أزيد من 69 مناسبة زار فيها أحد الثكنات أو المناطق العسكرية، فالقايد صالح استنفذ المشروعية وبات الجيش منقسما ولا يوجد إجماع حول شنقريحة لذلك احتفظ بمنصب بالنيابة، رغم أن تبون سلمه كامل السلطات بما فيها سلطة إعلان الحرب دون الرجوع للرئيس، وبات الصراع في الجزائر متعددا ومتشابكا من الدعوة للانتقال إلى دولة مدنية إلى ضرورة الإنهاء مع ورثة بوتفليقة، إلى مؤشرين خطيرين سيكون لهما أثر كبير على ماهو قادم في الجزائر:
الأول: قضية الدولة الأمة في الجزائر التي فشل الجيش في بنائها وتوجد اليوم في أحد أخطر مراحلها، فالخطاب المناطقي والاتهامات الانتقائية لجغرافية الاحتجاجات وقضية العلم، فتحت بابا خطيرا ستدخل منه القوى الكبرى التي يستقبلها تبون ويعتقد أنها جاءت للجزائر كـ”قوة”، فالأمر يتعلق ببداية هندسة تقسيم قادم إلى الجزائر بعد نهاية مسلسل ليبيا، وسيكون المدخل هو عدم قدرة الجيش على بناء دولة أمة تجمع الجزائريين، واستمراره في صناعة رؤساء مدنيين على مقاس المجلس العسكري دون الاستجابة الجزئية لمطالب الحراك.
الثاني: يتعلق بالطعن الجاري في شرعية تبون، فالأصوات ترتفع يوميا ونسخة حراك رابع تولد في مشهد يذكر بما يجري في بعض الدول الافريقية التي عاشت احداثا دموية وانقلابات، نتيجة الصراع حول شرعية انتخابية لرؤسائها وستزداد الخطورة مع محاولة الرئيس تبون صناعة دستور على مقاسه ومقاس الجيش.
وبعد سنة من الحراك الشعبي، باتت الجزائر تحتضن أحد أقدم الحراكات في العالم الحديث، ولا يبدو أنه سيتوقف، فلا الرئيس قادر على القيام بإصلاحات، ولا الجيش يريد التنازل لبناء دولة مدنية، ولا الحراك سيتراجع. مشهد معقد قد ينتهي بطريقة دموية داخل مؤسسة الجيش، فالتغيير قد يأتي من الجيل الجديد من ضباط الجيش المتعددو الولاء الدولي، أو أن المشهد قد يزداد تعقيدا بتخلص الجيش من تبون بعد تزايد ارتفاع حجم الطاعنين في شرعية انتخابه من الشارع، عب دالمجيد تبون الذي يبدو أنه لا يفهم جيدا ما يجري حوله، فالرجل المطعون في شرعيته الذي يريد الاحتفال بعيد وطني يوم انطلاق الاحتجاج لا يدرك خطورة ما يجري، فالشارع ينظر له من نافذة أنه أحد ورثة بوتفليقة وجيء به من طرف القايد صالح، الرجلان معا اللذان اختفيا وهما مسؤولان عن مايجري اليوم، أحدهما الذي هو القايد صالح مات في توقيت غامض، والثاني الذي هو عبد العزيز بوتفليقة تدل كل المؤشرات أنه لم يعد موجودا منذ سنة 2018 وقد يخرج تبون بعد “عيد الإحتجاج“ إلى الإعلان عن موت بوتفليقة الذي اختفى منذ سنة 2018 !!
*رئيس المركز الأطلسي للدراسات الاستراتيجية والتحليل الأمني، الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )