شترك الأمم والشعوب في الحضارة المعاصرة، بقدر فهمها لروح العصر، ومساهمتها في تطوير المعرفة البشرية، فتكتسب بذلك مكانتها على المستوى العالمي. وفي نطاق التمييز بين الثقافتين العلمية والأدبية، نجد الثقافة الأولى تتطلب مواكبة المنجزات العلمية الحالية، وتوفير سبل المشاركة في تطويرها للوصول إلى العالمية. أما الثقافة الثانية فتتجسد من خلال القدرة على الانطلاق من الخصوصية الثقافية للأمة من جهة، وتمثيل روح العصر من جهة أخرى، لتكتسب بعدها العالمي.
إذا كانت الثقافة العلمية على المستوى العربي غائبة على المستوى العالمي، فإن ذلك لم يحل دون بروز أسماء عربية تفرض نفسها، لكن بجنسية البلد الذي وفّر لها سبل المشاركة في التطوير العلمي، لذلك نجد الحديث عن «العالمية» في الثقافة العربية، يقتصر بصورة كبيرة، على الرواية، وصار ينظر إليها على أنها «ديوان العرب» الجديد. ولا يتم هذا الحديث نفسه عن إبداعات فنية أخرى (السينما مثلا)، أو علوم مثل العلوم الاجتماعية والإنسانية. وعادة ما يكون ربط هذه «العالمية» بالترجمة وأهميتها لترويج الإبداع الروائي العربي، وما تُقدم عليه جائزة كتارا والبوكر في هذا السبيل، مثال على ذلك.
لكن هل نجحت الترجمة في جعل رواياتنا عالمية؟ سؤال عام نتركه للبحث والاستكشاف. لكن هذا لا يمنع من طرح أسئلة أخرى قد تمكننا من تلمس بعض عناصر الأجوبة، ففي غياب المتابعة المتواصلة من الإعلام الثقافي العربي، وعمله على إبراز أهمية هذا الإنتاج الروائي على المستوى العربي، نتساءل: كيف يمكن جعل الرواية العربية ذات مكانة على المستوى العالمي، وهي لا تلقى الاهتمام المناسب عربيا؟ وما قلناه عن الإعلام نطرحه بصدد ما يسمى النقد الروائي العربي: ما مدى إسهامه في إبراز خصوصية الرواية العربية، وفقا لتراثها التاريخي، وفي تقديمه لصورها المختلفة لتمثيل روح العصر الحديث؟ وما دور الدراسات العربية المقارنة في إبراز مكانة الرواية العربية في نطاق علاقتها بالروايات العالمية المعاصرة؟
ما نسجله بخصوص الرواية العربية المكتوبة بالعربية، يمكن أن نطرحه عن الرواية المكتوبة بإحدى اللغات الأجنبية، التي يُطلع عليها بدون الحاجة إلى الترجمة. ما نسبة «عالمية» هذه الرواية؟ أو على الأقل فرض نفسها في المجال اللغوي (الفرنسي مثلا) الذي تدور في نطاقه؟ وحين نتحدث عن بعض الروايات العربية أو المترجمة التي أثارت اهتماما ما في مجال لغوي محدد أو واسع، هل يكمن ذلك في إبداعيتها؟ أم فقط في إثارتها لقضايا تتصل بالوضع العربي؟ وما مدى استمرار الضجة حولها؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها علينا للتفكير في واقعنا الثقافي ليكون له حضور وموقع على المستوى العالمي.
لا نريد من وراء طرح هذه الأسئلة، وهذا النمط من التفكير، والنتائج التي يمكن أن تنجم عنهما، أن نفتخر بما نقدمه للعالم، ولكن نسعى من وراء ذلك إلى تجاوز كل العوائق التي تحول دون تقدمنا وتطورنا، أفرادا وجماعات. بماذا يحلم أي كاتب؟ وإلى ماذا يطمح أي باحث أو مفكر؟ إذا لم يكن من بين أهداف روائي ما أن يكتب رواية جيدة، وقابلة لأن تكون ذات مستوى عالمي، فلن يكون سوى روائي قليل الطموح، لأنه لن يفلح أبدا في كتابة رواية يستمتع بها القراء العرب أولا، وقبل غيرهم. ويمكن قول الشيء نفسه عن الباحث أو المفكر في أي اختصاص، إننا حين لا نرفع سقف طموحاتنا إلى أعلى الدرجات سنظل متقوقعين على ذواتنا، وعاجزين عن الانخراط في الحضارة المعاصرة، وعن تطوير ثقافتنا.
قرأت مرة عن مسؤول ياباني يقول: حين نفكر في فتح قسم في الجامعة للفيزياء، فإننا نتوقع من هذا القسم أن يقدم لنا من يحصل على جائزة نوبل في هذا التخصص، وإلا فلا فائدة من هذا القسم. مَن مِن وزراء البحث العلمي العرب يرفع مستوى الطموح إلى هذا الحد؟ لماذا لا يفكر مسؤولونا بهذا المنطق؟ هل يكفي أن تمر السنة الدراسية بدون مشاكل، وإضرابات لنقول إن تعليمنا سليم ويحقق المراد بنسبة «النجاح» التي نقدمها في نهاية السنة من خلال إحصاءات بلهاء؟
إن كتابة الرواية الجيدة، وأكتفي بهذا الوصف، تؤدي إلى تطوير المعرفة والدراسة الأدبيتين. هل يمكننا الحديث عن رواية عربية جيدة بدون نظرية أدبية دقيقة؟ تساءلت مرارا: لماذا لا ننتج نظريات أدبية، نسهم من خلالها في تطوير النظرية الأدبية العالمية؟ وهل يمكن أن توجد عندنا نظرية بدون إبداع حقيقي؟ تتداخل الأسئلة، وتتشابك وتتعدد وتترابط. ويبدو لي أن لعدم التفكير بالارتقاء بممارساتنا وتصوراتنا للأشياء إلى أعلى الدرجات، دخلا في ذلك. إن الاكتفاء بجعل تفكيرنا مقتصرا على ما يجري في واقعنا ومجالنا العربي البائس، يجعلنا محدودي الأفق، ونرى أننا نحقق إنجازات مهمة لأننا لا نرى كيف يشتغل الآخرون، وإلى ماذا يطمحون. وفي هذا الاكتفاء بضيق الرؤية نعفي أنفسنا من بذل أي جهد يتطلبه أي طموح جاد.
إن اللحاق بالركب العالمي رهين بالعمل على فهمنا لهذا العالم، بدل الاكتفاء بمطالبته بفهمه إيانا.
تعليقات الزوار ( 0 )