في بلد مثل المغرب المعروف بتدينه الشعبي العميق، وبتقديسه للطقوس الجامعة، لطالما كانت صلاة العيد لحظة صفاء جماعي، تتعالى فيها أصوات التكبير، وتُستحضر فيها الرحمة، ويعلو فيها صوت الإمام ليدعو للتآلف، لا للتأديب، وأن الإمام إذا اعتلى منبر رسول الله، تكلم بلسان القرآن لا ببيان السياسة.
فإذا بنا نستيقظ هذا العام على أحد خطباء عيد الأضحى، في فيديو منشور على أوسع نطاق في مواقع التواصل الاجتماعي، لا يخطب، بل يوبّخ، لا يعظ بلسانه، بل يعضّ بأسنانه، ولا يدعو إلى تقوى الله، بل إلى طاعة المخطط الأخضر!
فتح الرجل خطبته بتكبيرات العيد، ثم مر مباشرة إلى تصغير الشعب، ساخطا ناقما على من ضحّى هذا العام، ملوحا بالوازع الديني كعصا تأديب للفقراء، كأننا في معسكر إصلاح لا في مصلى رحمة.
لم نسمع من الخطيب كلاما عن الجود الذي ينفعل بالوجود، كما حدثنا د. أحمد التوفيق نقلا عن ابي العباس السبتي في مراكش، ولا عن فضل الشكر عند فقدان النعم، بل سردا باردا لبيان حكومي مقنع بلغة وعظية، وكأننا نسمع للأخ مصطفى بايتاس في ندوته مساء الخميس.
بصراحة، لقد بدا لي الخطيب وكأنه مصطفى بايتاس نفسه في ندوته عشية الخميس، لا خطيب عيد.
وفي لحظة، خِلت أن الخطيب سيختم الخطبة بعبارة:
“عاشت شركة أكوا، عاش برنامج فرصة، عاش المازوط، عاش الأوكسجين، وعيد مبارك من مقر حزب التجمع الوطني للأحرار”!
واااسيدي خطيب صلاة عيد الأضحى المبارك لهذا العام، اعلم، رعاك الله:
أن الشعب لم يتقاعس ولم يتجاهل، بل عجز!
وأن العيد لم يعد ترفا بل عبئا.
وأن من وقفوا أمامك في صفوف الصلاة، كانوا يقفون في صفوف طويلة بحثا عن قوت العيد.
وأن مناسبة العيد أصبحت عبئا اقتصاديا ولم تعد طقسا اجتماعيا وحسب.
وهل ننسى سيدي الخطيب أننا خرجنا من جفاف، ودخلنا في غلاء، ومررنا بزلازل لم يُزلزل فيها إيمان الناس، بل صبروا، وواسى بعضهم بعضا، حتى حين تخلت عنهم السياسات العمومية؟
لكن يبدو أن خطبتكم لم تكن منبرا للدين، بل منبرا للحزب.
وبدل أن تذكرنا بالله، أسمعتنا دروسا في تربية المواطن، وكأنك تذكر المغاربة بتصريح مستفز للزعيم التاريخي للأمن الفلاحي بالمغرب، حين قالها بعظمة لسانه من بلاد أنطونيو غرامشي، وبالضبط في دجنبر 2019، ووصلت الخطبة السياسية إلى المغرب بالدارجة المغربية العربية:
“اللِّي ما مربِّييش نْربِّيُوه!”
أما أنت، سيدي الخطيب، فاستحضرت في خطبتك الدينية هذه الرؤية التربوية الجديدة في نسخة وعظية:
“من لم يضحّ، عليه أن يتقي الله!”
وكأن التقوى تُقاس بعدد الكيلوغرامات لا بالخضوع لرب العالمين!
فقل لنا، يا هذا:
هل الأضحية شعيرة أم امتحان ولاء؟
هل اللحم فرض عين، أم مادة إلزامية في مناهج التربية الوطنية الجديدة، وفق المنهج الأخنوشي؟
وهل من خسر الرزق والحولي، خسر دينه أيضا؟
أمير المؤمنين أهاب، ولم يصدر القصر بلاغا يفيد المنع أو التحريم، بيد أنك أنت سيدي، تهدّد وتتوعد، بل وتحرم بالنصوص!
نحن نعلم أن الخطبة، في مثل هذه المناسبات، تُراجع من فوق، وتُرسل بالبريد العاجل من إدارات الأوقاف والشؤون الإسلامية، لكن من تابع الخطبة سيظن أنها مرّت من مقر الحزب الحاكم، وراجعها لغويًا في “لوطوروت” السيد مهبولة، ووقعها الناطق الرسمي باسم الحكومة!
سيدي الخطيب، لقد بدا لي وللكثير من الفيسبوكيين والفيسبوكيات الذين لما يتشبعوا بعد بالمنهج التربوي الوطني الجديد، أنك حولت العيد إلى بورصة شعائر، والخطبة إلى مداخلة برلمانية، والمصلين إلى جمهور حملة انتخابية مؤجلة.
كنا نأمل أن تقول للناس:
“العيد طمأنينة، لا استعراض، والله لا ينظر إلى عدد الأكباش، بل إلى ما في القلوب.”
لكنّك فضلت أن تنكأ الجراح، وتوزع الاتهامات يمنة ويسرة بالمجان، وكأن الفقراء هم من تسببوا في احتكار العلف، ورفع الأسعار، وتهريب القطعان!
لماذا لم تقل كلمة واحدة عن السياسات التي زرعت الجفاف في الجيوب؟ عن المخططات التي لم تحصد سوى الخيبات؟ عن مخطط فلاحي أخضر جفف الضرع والحقل؟
ألا تعلم أن من نكّل بأضاحي الناس ليس الفقر، بل الجشع؟ أن من ذبح الفرحة يوم العيد، هو من سوق الأمل، ثم باعه في أسواق الإفرنجة، وحين سُئل عن الأثمان، أجاب:
“غادي نربِّيكم!”
وها هو خطيب صلاة العيد قد استجاب للتوجيه التربوي، وبدأ بالتقريع نيابة عن الراعي الكبير صاحب الكتاب الأخضر، عفوا المخطط الأخضر.
يا خطيب الأضحى، إن لم تستطع ان تنبس بكلمة حق في من حرمنا من الأضاحي، فاصمت.
وإن لم تقدر على تضميد الجراح، فكن رحيما بالجرحى ولا تفتحها.
واعلم، سيدي، أن الأضاحي تُقرب إلى الله، وأن الفقراء يُواسون ولا يُؤنبون.
ملحوظة:
كاتب هذا المقال مواطن من المغرب الأقسى لم يربه أحد!
داخل سوق راسي
تعليقات الزوار ( 0 )