على عادتهم، يأبى الإسلاميون والقوميون و اليساريون الوطنيون إلا أن ينزلوا إلى الشارع من أجل التعبير عن دعمهم للقضية الفلسطينية. التعبير مجددا جاء من موقع ردود الفعل النفسية المتأزمة حيال ما لحق “دار الإسلام ” من إذلال من قرون خلت جراء انتصار الغرب ” الكافر ” حضاريا.
ولذلك كانت دائما مواقف كل اولئك رومانسية في الهروب البسيكولوجي الى الماضي التليذ من أجل استعارة الأسلحة لضحد قوة الخصم. وفلسطين هنا ما تزال القشة التي قصمت ظهر البعير؛ حتى إن النقاش فيها وحولها امتد قرونا قبل ميلاد الحركة الصهيونية إثر مؤثمر بال بسويسرا غروب القرن التاسع عشر.
لذلك تعتمد كل الأطاريح المدافعة على بنية نمطية للتاريخ تنطلق من بال نحو بلفور في اتجاه الإنتداب البريطاني. والحقيقة التاريخية إن سؤال الأرض ومشروعية السيادة ترجع الى زمان غابر مذ كان منطقة كنعان مسرحا للأنبياء؛ و ما قصة إبراهيم وبناء البيت سوى تجل للمقدس التيولوجي الذي قعد للفهم قبل أن يستولي الفهم الاثنو – سياسي على قاعدة التحليل. والأهم، تحليليا ، هو إن مطارحة مشكلة الشرق الأوسط، من زاوية الترابط بين المقدس المتعالي والمدنس السياسي، تقتضي حسم محددات الفهم. لذلك فالإنطلاق من مسلمة كون اليهودية أسبق من الإسلام، بالمعنى المحمدي على أقل تقدير ، يفيد رجحان كون القدس أرض لكل الديانات، تماشيا مع تراتبية موسى أولا وعيسى ثانيا ومحمد ثالتا، وقبلهم ” الإسلام الأبراهامي الذي كان أمة وسطا ، قبل أن يصبح السؤال حبيس تفاعل القوى سياسيا بخلفيات دينية وفق الأفعال و ردود الأفعال المؤطرة لقوالب التفكير حيال أزمة الإنتماء الى بوثقة ” أرض الميعاد ” التي يتعارك حولها و فيها الإخوة الأعداء من حفدة سام . و أزعم ان منهج التحليل يقتضي مبدئيا تجاوز مرحلة ردود الفعل الظرفية الجامحة التي ترفع شعارات براقة بشوارع أمة من جهلها ضحكت أمم ، أمة تنهار فيها أدنى حقوق المواطنة عبر عجز بنيوي في الحسم مع سياقات التفكير الفيودالي عموديا و فوقيا.
فالأمة العربية تتذيل ترتيب الأمم ، رغما ما يتاح لها من إمكانات هائلة من النفظ الموطد لعرى الريع لدى مجتمعات “إذا عربت خربت و إذا خربت لا تبنى ” والقياس هنا على مواقف تعجز عن فهم مغزى الحركة الإمبريالية التي تفعل فعلتها ، حتى إن وعد بلفور يندرج ضمن وحدة النظيمة المميزة لنسق الكولونيالية الفرنكو – انجليزية التي حسمت مع تركة الرجل “المريض” وفق معاهدة ” سايكس / بيكو ” في العام نفسه الذي ولد فيه وعد بلفور .
كيف لا وتجزيء المجزء و تقسيم المقسم كان هوية هذه المعاهدة التي ظلت سرية عن العالم ، وعلم بها العرب بقبول من الإمبريالية عينها، إلى أن فضح أمرها فلاديمير إيليتش اوليانوف لنين بعد عودته غذاة معاهدة بريست ليتوفيسك. كيف لا والعرب كانوا متواطئين مع أطروحة العام سام المساندة للتحالف الفرنكو – بريطاني ضد ألمانيا، لدرجة ان الولايات المتحدة الأمريكية انضمت الى الحرب الكونية الأولى في العام نفسه؛ اي عام 1917، لحظة ميلاد وعد بلفود و نجاح ثورة البلاشفة في شهر اكتوبر وانضمام الولايات المتحدة الأمريكية الى الحرب العالمية وتوقيع معاهدة سايكس – بيكو !! فيا ترى ما السر في رقم 17 الذي كان منعطفا حاسما في مسار علاقات دولية كانت فيها الدولة العتمانية رقما مهما في معادلة الشرق الأوسط قبل ان يتواطأ العرب مع الغرب من مدخل رفض سياسة التتريك بإيعاز من التاج البريطاني الأعظم الذي دعم الإنفصال العربي عن الباب العالي تمهيدا لزراعة إسرائيل بأرض الميعاد تنزيلا للمثن التيوقراطي المؤسس على وهم التفوق وفق قالب ” شعب الله المختار ” الذي كان يجب ان يجمع شتاته بأرض الميعاد في قلب أورشليم، أرض الديانات السماوية التوحيدية.
إن بول فاليري كان صادقا فعلا عندما أكد “إن التاريخ أخطر منتوج أعدته كيمياء العقل البشري ” ، لدرجة أن كل الحروب حامية الوطيس بكل بقع العالم عموما، وبالشرق الأوسط تحديدا ، سببها الرعبة الدفينة في الانتقام من التاريخ وفق عقد مضمرة في مخيال الأنظمة و في ذاكرة الدول و المؤسسة للوهم الجمعي لدى جحافل الشعوب غير القادرة على بناء مواقف علمية بعيدا عن تأثيرات الأساطير المؤسسة للبطولة الوهمية قبل أن يحل الخراب على رؤوس الجميع أفقيا و عموديا.
ولتصويب الرؤيا حري بالمسلمين أولا التخلص من النظرة المتعالية للتاريخ و التحرر من عقدة تضخم الذات بمنطق شعب الله المختار من زاوية خير أمة أخرجت للناس . فمتى يجوز لأمة تقبع في سراديب الأمية و الجهل و الريع و الطائفية و العرقية و انتشار الفقر و العجز عن تمثل الدرس الديموقراطي و عدم القدرة على الأعتراف بالمرأة رغم الشعارات البراقة .. و بالعرب ثانيا الإعتراف بالإنحطاط الوخيم الذي تعيشه أمة الضاد التي ترزح تحت نيران الحروب الأفقية المجانية على طول كل بلاد بني قحطان ؛ حيث أموال البترول تستثمر في البدخ المرضي الذي يجعل أمراء الجهل بالخليج يهدرون ثروات خيالية لتلبية حاجيات نمط الكبت التاريخي مذ كا اجدادهم يتغنون بالغلمان بعد الأطلال المخربة عن بكرة أبيها . إن الأعتراف بالهزيمة الحضارية لأمة أقرأ يشكل المدخل الأنسب للبحث الحضاري عن مدخلات لمعانقة الديموقراطية و للإنضمام الى ما راكمته الحضارة الإنسانية من تراكم خلاق لصالح المرأة و حقوق الإنسان . و لذلك فصفقة القرن بدأت منذ البداية المعطوبة حينما كانت مخططات هنري مكماهون تغزو السوق السياسية في العالم المسمى عربي، عندما كان شريف مكة حسين بن علي متوافقا مع إملاءات التاج الإمبريالي ضد وحدة الأمة على لبنات المقدس الديني الذي تمرد عليه العرب.
رغم وحدة العقيدة لصالح العرق العربي المتمرد على سياسة التتريك. إن صفقة القرن هي ما لحق الأمة من إذلال بدواعي ما سماه الكواكبي ب ” الإستبداد في طبائع العباد “، في سياق تميز بنجاح الحركة الصناعية في اتجاه الإمبريالية ؛ كأقصى مراحل الرأسمالية كما أكد لنين . وعلى كل القوميين و اليساريين والاسلاميين الخروج من كهف الإنفعالات الوجدانية الباطولوجية الملازمة للمواقف باسم العروبة والإسلام، باستهلاك غير واع للأساطير المؤسسة للحس التيولوجي المتعالي على نقيض الوعي التاريخي المدمج في نظيمة التحليل الملموس للواقع الملموس.
بمعنى أن صفقة القرن لا تبارح مكانها إلا لتؤكد لجحافل الجمهور المنساق مع الوهم الجمعي، على حد قول غوستاف لوبون ” أن الإمبريالية تحضر بسبتة و مليلية السليبتين و بالحزر الجعفرية و بثورا .. و تطال الصحراء المغربية التي نجح الوهم القومي في زرع كيان وهمي باسم العروبة عندما كان أبناء ميشل عفلق يحقدون على الأنظمة الملكية بلا مبررات تماشيا مع استبداد زوج يسار/ عسكرتريا في كنف عجز مطلق عن استلهام روح الديموقراطية كمنظومة حقوق كونية غير قابلة للتجزيء.
ولعمري إن القضية الفلسطينية يجب لزوما أن تطرح من خلال سياقات بديلة من منطلق الديموقراطية وحقوق الإنسان و ميكانيزمات التدبير العقلاني للأزمات الدولية و وفق روح القانون الدولي العام و القانون الدولي لحقوق الإنسان و ما تتيحه مستندات الشرعة الحقوقية الدولية من قواعد الحكامة الترافعية ، و من خلال حوار الحضارات وتواصل الثقافات المسنود على التنوع والغيرية على نقيض ما سوق له صامويل هنتنغتن من صدام الحضارات. وعبر امتلاك ناصية الوعي التاريخي، ومن خلال القدرة على تجاوز المنطق القبلي في فهم مشاكل الحدود السياسية، و بحسن استيعاب الدرس الديموقراطي، ومع فهم التمرين الحقوقي ؛ سننجح جميعا في الوصول الى التنمية وبذلك سنشكل نمودجا ايجابيا لدى شعوب الكون و هو الشرط المنهجي للترافع و التفاوض على القضية الفلسطنية.
وختاما أعتبر أن حق الشعب الفلسطيني في بناء دولته يبقى حقا غير قابل للضحد، لا من زاوية العرق ولا الدين، بل من منطلق وحدة المصير لدى كل شعوب الكون ، وفق قواعد الضمير الإنساني السليم و الفطرة المنتصرة لقيم السلم والسلام و التعايش و الإيخاء، بعيدا عن مختلف أشكال الغلو والتطرف المعادية للجبلة الأولى . وإني هنا اؤكد على ضرورة انتصار العالم للمصلحة الفضلى للإنسان على قاعدة القانون و حقوق الإنسان.
*أستاذ وناشط حقوقي
تعليقات الزوار ( 0 )