عندما كتبنا مقالنا السابق حول متى الحسم؟ وان الأمر يحتاج فعل مادي قاسي وذكي ! وان على المغرب ان يحمل الأمم المتحدة المسؤولية وينطلق في تنفيذ مشروعه، فقد كنا نعي ونعرف ما نقول، ومطلعين على ما يدور في الكواليس لكن لا حياة لمن تنادي.
و ما يتم تداوله اليوم حول محاولات التأثير سلبا في ملف نزاع الصحراء لتجاوز مقترح المغرب بالحكم الذاتي ليس مناورة جديدة، بل يدخل في سيرورة التدافع لتعزيز المراكز واضعاف أخرى بغية تسجيل اختراق واستصدار تنازلات.
و هو حركية وديناميكية طبيعية مادام الحل المراد ذو طبيعة سياسية. وأن الذي يشرف على الوصول الو الحل هو جهة محكومة بلعبة الحفاظ على التوازنات السياسية في انتظار حصول التوافق، او تمكن طرف من تحقيق نقلة نوعية وذكية يحسم وينهي به الأمر. ويستوي في ذلك مصدر قوته وطريقة حسمه؟ ومن أين يستمدها؟ أهي ذاتية او بفعل فاعل بما فيه تدخل المشرف لصالحه؟.
وعلى العموم، فان الريبة والشك الذي يحوم اليوم حول عمل وخلاصات وتوصيات الأمانة العامة للأمم المتحدة، بكل اجهزتها واقسامها ومكاتبها ظهر منذ تقريرها السابق حول الدراسة الدورية للحالة في الصحراء عن المدة مابين اكتوبر 2022 واكتوبر 2023 من خلال ما استهل به الفقرة الأولى من باب الملاحضات والتوصيات حول ضرورة تغيير المقاربة بسرعة.
والغريب بل إن الطامة الكبرى أن الفاعل الرسمي المغربي المؤهل للتعليق.والخبير والباحث المغربي الذي يحلل عادة حول الموضوع لم يعيروا أي اهتمام لذلك التقرير رغم خطورته وخطورة ما كان يؤسس له، والتي بدأت ملامحها وطبيعتها تنجلي الآن.
فقد راح الأول ( الفاعل الرسمي وبالتحديد وزير الخارجية)يحتفي وينوه بالتقرير والتقارير رغم انها تتضمن تسجيل رفضه الاستجابة لطلب المبعوث الشخصي لثلاث سنوات بتقديم عرض مفصل حول الحكم الذاتي بمبررات غير مقبولة تفيد التعنت وحسب. و فُسِّرَ من طرف المبعوث الشخصي أن المغرب يتهرب و لا يملك مذكرة دفاعية معدة ومفصلة، وقد فسر ايضا أن المغرب عبر فقط عن مجرد النوايا، أو أن المغرب ليس جادا !. ولا تشفع لوزير الخارجية ما يتذرع به من أن الحكومة حديثة العهد (2022) وان المغرب لا يمانع في بداية النقاش من مقترحات باقي الأطراف (2023) وأن المغرب منهمك على حشد التأييد الدولي للحكم الذاتي (2024) و أن العرض سيكون اثناء المناقشات المبرر الاعلامي الداخلي الحالي. ما دام جواب السيد الوزير واضح ولا يفيد سوى التهرب.
أما الباحث والمحلل فقد دأبوا على التفسير والتأويل والتحليل للتقارير اعتمادا على فقرات وضعت في سياق خاص تفقد معناها اذا قارناها بسابق التقارير وسابق القرارات. ومن تم فان مشكلتنا نحن المغاربة اننا نبدي احكاما خاصة وجاهزة على هوانا دون مرجعية معرفية، ونحلل دون تحمل عناء البحث عن المصدر و اجراء القراءة الموضوعية. والسبب أننا نخاطب فقط ذواتنا ونحتقر القارئ والمتلقي. وفي أحسن الأحوال اذا اطلعنا وقرأنا فاننا لا نقوم بمغازلة النصوص و مراودتها وقراءة ما بين السطور” الأليغوريا” أي العلاقة بين الدال والمدلول لاستجلاء ما يخفيه النص، لاشيء خارج النص كما قال جاك دريدا ، والكشف عليه في ظرف قياسي، كي لا ينطلي علينا الأمر، ولغاية البناء و التأسيس عليه حماية للمصالح واستقرار للمراكز وتطويرا لها.
و قد يكون ذلك ناتجا عن ضعف في امتلاكنا ناصية مناهج التحليل او لعدم تمكننا أصلا من فهم واستيعاب جوهر موضوع التحليل وعدم ضبطه والاحاطة بكل جوانبه، ونتصرف فقط بحماس وردات فعل عاطفية، وهي الطامة الكبرى. وفي هذا يستوي الرسمي مع الباحث. ونسيء من حيث لا ندري للقضية، ويبقى دفاعنا وتواصلنا مع الغير غير منتج لأنه لا يحقق نتيجة.
وقد يكون هذا هو الخلفية من التدخل الملكي في خطابه الأخير بوضع وتحديد ضابطي الكفاءة والاختصاص للمرافعة في ملف الصحراء المغربية أثناء التواصل مع الآخرين بتك الصفة وتلك المؤهلات. وهي دعوة صريحة لتنحي من لا يملك الأهلية للتواصل الفكري العلمي والمعرفي في الموضوع. فالمصلحة الفضلى للوطن تقتضي ذلك ولا يقوم أمامها اي شيء واعتبار شخصي آخر.
وبالرجوع الى موضوع النصوص ذات علاقة بالنزاع في لوائح وقرارات الأمم المتحدة وغيرها. فان الملاحظ أنها عادة تحتفظ بمعناها في عمقها و باطنها ولا تشير اليه مباشرة وبوضوح، بل تبديه عبر مراحل ومحطات حتى يتحول مكسبا راسخا ومحصنا ومن قبيل تحصيل الحاصل، و تعنونه بالتقدم المحرز.
ولأننا نحن كمغاربة أو على الأقل جزء كبير منا يكتفي بالقراءة اللفظية السطحية والمتسرعة دون تمعن ولا تأمل. فاننا لا نصل، وقد لا نفهم ما يتم التأسيس له بهدوء وتأن مدروس ومضبوط ومرتب في اللغة ومحدد في عتباته المستقبلية، وفي كيفية عرضه وطرحه باعتماد سوابق متتالية تشكل في النهاية تراكما لا يستطيع الأطراف فيما بعد نفيها أو تجاوزها. وكم من سابقة وتقدم تم تكوينه لصالحنا دون ان ننجح في الحفاظ عليه واستثماره للتغيير والحسم، لأننا لم نتفطن لصيرورة ووتيرة النكوص و التراجع عليه بدهاء و مكر اللغة كنا عليه غافلين. و يتضمن التقرير الحالي بوادر تؤسس لتراجع مستقبلي على المغرب أن يدركه سريعا لمنعه ودرئه.
وكم من باحث متمكن و جريء استبق فهم هذه الأمور واستوعب السر وكشف عنه في وقته وحينه اعتمادا على ملكاته وقدراته المنهجية في اعتماد المقاربة النسقية ، و باستعمال آليات التفكيك والتأويل واعادة البناء العلمية، واعتمادا على خبرته وتمكنه بالملف؛ في تاريخه وتطوراته ومواقف الأطراف ، واعتمادا على تخصصه في علم السياسة والدراسات الاستراتيجية والقانونية. فوجد نفسه في عاصفة من النقد من بني جلدته و ممن يفترض فيهم الفهم اكثر من غيرهم ، هكذا يبدون!، فقط لأن القراءة التي قام بها مخالفة لما ذهبوا اليه و استنبطوه،وبدت لهم غريبة وغير مطابقة.
أو فقط لأنهم لا يتحلون بالأمانة العلمية ، و يتحفظون ويخافون على قول الحقيقة خشية غضب الفاعل الرسمي. او لأن فهمهم لا يسعفهم لادراك كنه الحقيقة المستترة. مع العلم ان الخبرة المغربية يتم جمعها من طرف الأمني والاداري من هذه القصاصات المتناثرة في الاعلام ، وهي في مجملها شذرات لا تستجمع اركان قيام الخبرة العلمية. بيد أن هذا ولا ذاك لا يبرر ما جنحوا اليه ، فالوطن ومصالحه أمانة والدفاع عليه رسالة، والوطن فوق كل اعتبار ولا يتأثر بأية حسابات.
وبعد حين قريب او بعيد يفاجؤون بنفس الأفكار ينطق بها الأجنبي، على غرار ما سربته وكالة روترز حول قناعة دي ميستورا المبعوث الشخصي للأمين العام، فاضطروا لتقبل السر دون ان يعمدوا الى اجراء نقد ذاتي، بل ينطلقون في كيل السب والشتم وكأنه مرافعة علمية. والحال ان الحقيقة عندما تظهر للعيان وللعامة و متاحة للجميع ، فهي تعني ان السحر الخاص الذي صاغها صاحبها بادئ الأمر بطريقة مستترة انكشف. فيختفي دور الباحث لينتقل الى البحث في طريقة لتجاوز الأزمة، وهو ما لا نقوم به، بل نقبع حبيسي المناكفات التي لا تحدي نفعاً.
أقول بكل ابجديات الوضوح والشفافية أن من اهداف وفوائد مناهج التحليل و قواعد الفهم و المعرفة العلمية هو اتقاء الأزمات وتجنبها “بالعربية تاعرابت” تجنب الاصطدام بالحائط، اما اذا تركنا لحالنا حتى نصطدم به، فلا فرق بين الباحث الاستراتيجي وعامة الناس في تحليلاتهم في المقاهي والأسواق. بين الأمس واليوم مسافة من الوقت، لو تم استغلاله من طرف الديبلوماسي لكنا أحسن وافضل، نحن على بعد خطوات معدودة للحسم، إذا تأخرنا برهة من الوقت سنتيه مرة أخرى ، ينقصنا تحول نوعي وذكي لكسب المعركة، ومن أجل هذا يحتاج المغرب ذكاء كفاءاته وخبرائه ومفكريه.
إن استمرار المغرب في الاعتماد فقط على الأمني والاداري، لأنه لا يكلفه، هو مبرر خاطئ وغير صحيح ، وهو رعونة لأن تكاليف الأول والثاني أضعاف بمرات ومرات من تكاليف مراكز الخبرة والتفكير. وان استمرار المغرب في ذلك النهج يبطئ مسيره أكثر ويعطي الفرصة للخصوم للعودة في الملف. الأمني همه وشغله الشاغل و المرتبط بطبيعة وظيفته هو بقاء الأمر على ماهو عليه، ويصعب عليه المبادرة . والاداري محكوم بالتعقيد و البطء الناتج عن البيروقراطية. ولا يمكنهما انتاج الخبرة مهما راكموا من تجربة ومهما اجتهدوا في جمعها عبر وسائل الاعلام فلكل ميدان ابطال .
ومن تم يبقى مأسسة الذكاء المغربي داخل مجلس ملكي أو وكالة وطنية لانتاج الخبرة وتأطيرها ضرورة مستعجلة وملحة. هو وحده القادر على تحقيق النقلة النوعية القاسية والذكية من أجل نجاعة وفعالية لانهاء الأمر لصالح المغرب، وفي غياب ذلك فان النزاع سينتقل من مربع لآخر، ويتيه تفوق مركزنا وفق ما يتم التأسيس له حاليا.
وقد أعذر من أنذر !
*محامي بمكناس، خبير في القانون الدولي قضايا الهجرة ونزاع الصحراء، الرئيس العام لأكاديمية التفكير الاستراتيجي
تعليقات الزوار ( 0 )