شارك المقال
  • تم النسخ

شهداء كوميرة

ربما لا يعرف كثير من أبناء الألفية الثالثة سبب نزول عبارة “شهداء كوميرة” التي أطلقها وزير الداخلية القوي في سنوات الرصاص، وتحت قبة البرلمان وعلى مرأى ومسمع من مشاهدي التلفزة ومستمعي الإذاعة، في سخرية واضحة من ضحايا الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 20 يونيو 1981، وتطلب إخمادها إطلاق الرصاص الحي.

لكن هذه العبارة الساخرة، كانت معبرة جدا عن حقيقة ما وقع في تلك الأيام العصيبة، خاصة في العاصمة الاقتصادية التي كانت أيضا عاصمة النشاط السياسي والنضال النقابي.

لا تهم أعداد الضحايا ولا كيف تم دفنهم، خاصة بعدما تولت هيئة “الإنصاف والمصالحة” الكشف عن بعض تفاصيل تلك الوقائع التي تقشعر لها الأبدان، لكن المهم هنا هو محركاتها و”أسباب نزولها”.

يرجح بعض دارسي تلك المرحلة أن الزيادات الصاروخية في أسعار المواد الأساسية كانت سببا مباشرا في انفجار الوضع.

وفي التفاصيل، فإن الحكومة يومها قررت زيادات طالت الدقيق بـ 40%، والسكر بـ 50%، والزيت بـ 28%، والحليب بـ 14%، والزبدة بـ 76%.. في لحظة عرفت انهيار القدرة الشرائية للمواطن، فضلا عن استشراء الفساد في كل الاتجاهات..

الداعي للتذكير بهذه الوقائع التاريخية المنسية، يتمثل في أن كثيرا من شروطها “الصغرى والكبرى” توفرت حاليا، ما يبرر التساؤل حول كيفية تعامل الحكومة مع انتفاضة قد تنفجر في أية لحظة؟ وهل هناك وزير يملك من الشجاعة ما يكفي لتكرار مقولة وممارسات إدريس البصري؟

ما يبرر طرح هذا السؤال، هو أن انتفاضة “كوميرة” حدثت في زمن كانت فيه الهجرة نحو أوروبا مفتوحة ولا تحتاج إلى تأشيرات، بل كانت العقبة الوحيدة يومها هي الحصول على جواز السفر، وهو أمر كان ممكنا أيضا إذا تم سلك “المسطرة” الصحيحة.

وهذا علما أن التفكير في الهجرة كان يراود في الغالب أبناء الهوامش والعالم القروي، الذين كانوا يدركون مسبقا أن الضفة الأخرى للمتوسط ليست “فردوسا”، بل فقط جحيما أقل اضطراما من “جحيم” الوطن.

كما أن فصول هذه الانتفاضة والمجزرة التي أعقبتها، جرت في وقت كان فيه المغرب يتوفر على طبقة وسطى فعلية، تعيش في رفاهية، وقادرة على توفير كثير من الكماليات فأحرى الضروريات.

بينما اليوم، نلاحظ أن الهجرة أصبحت حلم حتى أصحاب الدخول العالية، حيث نسمع عن نزيف الأدمغة من أطباء ومهندسين، بل وحتى رجال أعمال عكسوا المثل القديم “زوان بلادي ولا قمح البلدان”، إلى شيء من قبيل “زوان البلدان ولا قمح بلادي”.

والأهم أكثر أن الهجرة لم تعد أمرا هينا، بل أصبح الراغبون فيها مضطرين لخوض معارك حقيقية للحصول على التأشيرات، والأخطر هنا أن هؤلاء يسعون لرحلة ذهاب لا إياب بعده، فهم لا يتطلعون فقط لتحسين أوضاعهم المادية، بل يريدون تهريب أولادهم قبل غرق المركب بمن فيه.

فالمبرر الأهم هنا الذي يمكن أن يفسر هذه الظاهرة، هو الخوف من المستقبل، ومحاولة البحث في المهجر/المنفى، عن “الاستقرار” النفسي والمادي المفقود في “الوطن”.

أضف إلى ذلك، أنه تم القضاء نهائيا على “الطبقة الوسطى”، التي كانت تمثل فئة عريضة تضمن نوعا من “السلم الاجتماعي” بفضل الأمل الذي كانت تبعثه في قلوب الطبقات الأدنى، لأن الفوارق لم تكن كبيرة جدا، بينما صار البلد اليوم مقسما بن قاعدة عريضة لا تلك حتى حق الحلم في تغيير واقعها والترقي اجتماعيا ولو إلى الحد الأدنى من مستلزمات العيش “الكريم”، وبين قلة قليلة جدا تعيش في عوالم ألف ليلة وليلة، بل تتضاعف ثرواتها حتى حين يخيم الإفلاس على البلاد.

ويمكن أن نضيف عوامل أخرى سيكون لها تأثيرها في حالة أي انفجار اجتماعي محتمل، لا قدر الله، نقتصر -من باب الاختصار- على اثنين منها:

أولهما ثورة المعلوميات التي حرمت “الحكومة” من احتكار المعلومة، والسيطرة على وسائل الإعلام.

ففي الماضي كانت التلفزة العمومية والإذاعة الوطنية هما المصدر الوحيد للخبر بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب، بشكل لا تستطيع مواجهته لا صحف المعارضة التي كانت تعاني أصلا من التضييق ومحدودي الانتشار، ولا إذاعة فرنسا الدولية التي لم تكن تتابعها سوى النخبة.. في زمن كان فيه التوفر على “الترانزيستور” من علامات “التبرجز”.

فكيف الحال اليوم وقد أصبح حتى المواطن المقيم في أقصى الهامش يحمل العالم كله في جيبه، ويستطيع متابعة أخبار الكرة الأرضية لحظة وقوعها، بالصوت والصورة، عبر هاتفه النقال؟

وثانيهما، أن مغرب 2022، ليس هو مغرب 1981، والعالم كذلك.

ففي زمن انتفاضة الجياع في ذلك الزمن، كانت ظروف الحرب الباردة تجعل الدول الغربية تغض الطرف عن كثير من الخروقات الفادحة لحقوق الإنسان دعما لـ”حليف” هنا أو هناك، كما لم يكن مشكل الهجرة السرية يحظى بكل هذه الأولوية لدى جيراننا في الشمال.

كما أن مسؤولي ذلك الزمن، تخرجوا وعملوا لعقود وفق منطق “القمع” اللامحدود، والبطش بلا سقف، دون خوف من أية تبعات، ودون اعتبار للمنظمات الحقوقية الدولية، إلى درجة أن هناك روايات تقول إن بعض “شهداء كوميرة” دفنوا في مقابر جماعية وهم جرحى أحياء..

فهل هناك اليوم “رجل دولة” دموي بهذا الشكل؟ يستطيع أن يواجه حتى المخربين بإطلاق الرصاص الحي؟

ويمكن أن نضيف إلى هذين العاملين، مؤشرا لا يقل أهمية يتمثل في أن نقابة الكونفدرالية كانت يومها محرك الاحتجاجات.

وحين نذكر هذه النقابة تحديدا، نستحضر تلقائيا كيف أنها كانت قوة ضاربة، نجحت في اختراق جميع شرائح المجتمع وقطاعاته المهنية والعمالية، بدليل إضرابات التعليم والسكك الحديدية الشهيرة نهاية السبعينيات.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يمثل يومها الواجهة السياسية لنقابة الأموي، وكانت صفوفه الأمامية حكرا على مناضلين فعليين، يتسابقون على السجون والمنافي وليس المناصب.

فكيف ستتطور الأمور اليوم، ونحن نرى قحطا فعليا في الساحتين النقابية والحزبية؟

لقد كان إدريس البصري في زمن “التزوير العام والمباشر” للانتخابات، يعمل على “إنجاح” كثير من رموز المعارضة، الذين كانوا يسيطرون فعلا على “الجو” في مجلس النواب، ويستغلون لحظات البث القليلة على شاشة التلفزة لتوجيه انتقادات جريئة للحكومة.. تبعث على الأقل نوعا من الأمل في تغيير محتمل..

بينما اليوم، وبعدما تجاوزنا المائة يوم الأولى من عمر مجالس وبرلمان وحكومة 8 شتنبر، نكتشف في كل لحظة أن الأمور أسندت فعلا إلى غير أهلها، وأن بعض المنتخبين هم “كوارث” فعلية، لا علاقة لهم بالسياسة لا من قريب ولا من بعيد… ولا يحتاج هذا الواقع إلى تفصيل.. بما أن مواقع التواصل الاجتماعي تضج بمشاهد العبث الذي لم يسلم منه لا مجلس  قروي أو بلدي، ولا حتى مجلسا البرلمان..

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي