Share
  • Link copied

شعار تازة قبل غزة والوجدان المأزوم

في كل مرة يهتزّ فيها الضمير الشعبي المغربي تضامنًا مع غزة، وتضجّ الساحات بالهتاف لفلسطين، تُستدعى إلى الواجهة عبارة: “تازة قبل غزة”. شعار يُستخدم غالبًا كأداة للتشويش على موجة التضامن، وتثبيط الحراك الشعبي، وتوجيه الاهتمام نحو الداخل لا باعتباره فضاءً للنضال، بل ذريعةً للانكفاء، في عملية منهجية مستمرة ل”مخزنة” الوجدان السياسي، وسلبه طاقته الأخلاقية العابرة للحدود، وقدرته على الاحتجاج ورفض الظلم، بما يخدم سياسات التطبيع والترويض الناعم.

غير أن هناك من يردد هذا الشعار دون هذه الأغراض التضليلية، حيث يجدون فيه مخرجًا نفسيًا من مأزق داخلي بالغ القسوة: مأزق العجز والخذلان. وهؤلاء يجب تمييزهم عن غيرهم، لأنهم لا يتحركون من هاته الأجندات البئيسة، بل من وجع داخلي صامت.

ولفهم ذلك، لا بد أن نستحضر خصائص البنية النفسية التي يتردد صدى هذا الشعار بداخلها.  ولعل من أهمها، خضوعها لوطأة ما يسميه عالم النفس الأمريكي مارتن سليغمان بنظرية “العجز المكتسب”. ففي سلسلة تجارب، لاحظ سليغمان أن الكائن الحي الذي يُعرَّض مرارًا لتجارب مؤذية لا يملك وسيلة لتفاديها، مثل الصدمات الكهربائية، يتوقف لاحقًا عن محاولة الهرب حتى عندما تُصبح النجاة ممكنة، لأنه ببساطة تعلّم أن لا جدوى من المحاولة. هذه الفكرة، التي اختُبرت أولًا على الحيوانات، تم تطويرها لاحقًا لتشمل السلوك البشري. فجوهر النظرية أن الإنسان، حين يتكرر عجزه أمام القمع أو الإحباط أو الفشل، يبدأ في بناء اعتقاد داخلي راسخ بأن جهوده لا تؤتي ثمارًا، وأن الفعل لن يُغير شيئًا، حتى لو توفرت له فيما بعد كل أسباب النجاح. وبهذا يتحوّل العجز من حالة مؤقتة إلى بنية ذهنية دائمة، تَكبُت الفعل وتُفضّل الانسحاب أو الصمت. وقد أصبح هذا المفهوم لاحقًا أحد الأعمدة التفسيرية لفهم حالات الاكتئاب والسلبية الاجتماعية والعزوف عن المشاركة العامة، بما في ذلك تقاعس الأفراد عن الاحتجاج أو مقاومة الظلم، حتى حين تكون دوافعهم الأخلاقية قوية.

الفرد المغربي، كغيره من معظم أبناء الأمة العربية والإسلامية، يعيش في فضاء سياسي وحقوقي خانق، يكرّس العجز ويُنتجه بامتياز. يرى المجازر تُرتكب في غزة، ويُشاهد الأنظمة تتخاذل، فإذا كان ممن اكتسبوا العجز، فإن ذلك يُشعل شعوره الدفين بأنه مسلوب الفاعلية، فاقد الحيلة. وهو شعورٌ من شأنه أن يُقوّض توازنه النفسي الهش، ويهزّ تقديره لذاته، وجدوى أفعاله. عندها يبدأ في البحث، لا شعوريًا، عن استعادة ذلك التوازن المختل، فيلجأ إلى ما يُعرف في علم النفس بـ”آليات الدفاع الذاتي”. وهي استجابات داخلية تلقائية تُستخدم لتقليل وطأة القلق، والشعور بالذنب، والدونية، والإحباط الناتج عن الإحساس بالعجز. وقد يُختزل هذا كله في بعض خلفيات شعار: “تازة قبل غزة.”

أولى هذه الآليات هي الإنكار، ويقصد به رفض الاعتراف الكامل بفظاعة الواقع، أو التخفيف من حجم الجريمة ودرجة بشاعة الجاني، وذلك درءًا للألم الوجداني الذي قد ينهار الإنسان تحت وطأته. في هذا السياق، تتردد عبارات مثل: “الوضع معقد”، أو “كل الأطراف مذنبة”، وهي تعبيرات تخفف من ثقل الحقيقة، لكنها تُضعف القدرة على التفاعل الأخلاقي معها. أما الآلية الثانية فهي التبرير، حيث يلجأ الفرد إلى بناء أسباب عقلانية ظاهرًا لتبرير انسحابه من الموقف، أو صمته أمام المجزرة، فيقول مثلًا: “لدينا أولويات داخلية”، أو “غزة لا تعنينا الآن”. وهي جمل تُقدَّم كما لو كانت مواقف سياسية راشدة، لكنها غالبًا ما تكون ستارًا نفسيًا للهروب من الشعور بالذنب أو بالعجز. وتأتي بعد ذلك آلية الإسقاط، حيث يُحمِّل الإنسان الآخر مسؤولية ما يشعر به داخليًا، فتتحوّل مشاعر الإحباط أو القلق إلى اتهامات موجَّهة إلى الخارج أو إلى المتضامنين مع غزة أنفسهم. فنسمع عبارات من قبيل: “لماذا استفزتهم المقاومة؟” أو “العرب لا يتّفقون أصلاً” أو “ما الجدوى من مسيراتكم التضامنية؟”، وهي تفسيرات ظاهرها موضوعي، لكنها في العمق تَخلّي ذاتي عن المسؤولية. وأخيرًا، هناك آلية الانسحاب، التي تُعبّر عن الانغلاق على الذات، وتقليص أفق الانتماء والاهتمام إلى الدائرة الضيقة التي تبدو أكثر تحكمًا وأقل مخاطرة. يقول الفرد في هذه الحالة: “أهتم بما أستطيع تغييره فقط”، وهي جملة تختصر موقفًا وجدانيًا يحاول النجاة داخل حدوده الدنيا، لكنه في النهاية يسلّم بما هو قائم دون مقاومة.

من هنا، قد يُفهم شعار “تازة قبل غزة” اختلالا، لا في سلم الأولويات، بل على مستوى الوجدان المقهور الذي لم يعُد يحتمل الانفعال إزاء القضايا الكبرى. هذا الانكفاء لا ينشأ من أن القضية الفلسطينية بلا قيمة، ولا من أن تازة أكثر استحقاقًا للغضب، بل من أن الإنسان المقهور نفسيًا يُعيد ترتيب العالم بحسب طاقته النفسية، لا بحسب معيار العدالة أو الاستحقاق. فحين يشعر الفرد أن لا طائل من الاحتجاج، وأن لا أفق للفعل، يبدأ لا شعوريًا في إعادة صياغة قضاياه بما يتناسب مع قدرته على التحمل. وهكذا، تصبح “تازة” رمزًا لمجال يمكن النفاذ إليه، أو الحديث عنه دون كلفة عاطفية أو سياسية عالية. بينما تُدفع “غزة” ـ كرمز للفاجعة غير القابلة للاحتواء ـ إلى الهامش بذريعة ترتيب الأولويات.

إن تقديم شعار “تازة قبل غزة” في ثوب “الحكمة السياسية” و”الواقعية الضرورية”، وكأن الحديث عن غزة ترف نضالي في سياق وطني مثقل بالأزمات، ادعاءٌ يتهاوى أمام سؤال بسيط: هل خرج أصحاب هذا الشعار يومًا للاحتجاج من أجل تازة؟ هل حاسبوا حقًّا من ينهب خيراتها أو يهمّش أهلها؟ إن استدعاء هذه المفاهيم لا يعبّر بالضرورة عن وعي سياسي رشيد، بل قد يكون تعبيرا عن شكل من أشكال التكيّف السلبي، الذي لا يُنتج فعلًا داخليًا ولا تضامنًا خارجيًا، بل يمنح الصمت غطاءً خطابياً يُجمّل العجز ويبرّره. إنه -في بعض تفسيراته- انعكاس لحالة وجدانية مأزومة، تبحث عن النجاة أكثر مما تبحث عن موقف، هو انسحاب عاطفي مغلّف بلغة السياسة، أكثر منه تموضعًا سياسيًا حقيقيًا. بل يمكن القول إن تكرار هذا الخطاب -عند بعضهم- ليس دليلًا على غياب الضمير، بل على أنه لا يزال حيًّا، لكنه يتألم في صمت، ويبحث عن منفذ يُنقذه من الانهيار.

من هنا، لا يجب التعامل مع كل رافعي هذا الشعار بوصفهم خصومًا للحق الفلسطيني، بل أحيانا كحالات نفسية تعيش اختناقًا مزمنًا في ظل واقع عربي مأزوم، جعل حتى التضامن عبئًا ثقيلًا، لا يستطيع الجميع حمله.

لا لوم على من يشعر بالعجز، ولا ملامة على من يتألم بصمت. فهؤلاء، على الأقل، ما زالت فيهم قلوب حيّة تنبض بالوجع. لكن الخطر كل الخطر، أن يُؤطَّر الصمت كبطولة، والانكفاء كحكمة، والانفصال عن المأساة كأنه تعبير عن واقعية رشيدة. ففي هذا التزييف للوجدان لا يضيع الانفعال فحسب، بل تضيع معه ممكنات الفعل، لأن كل تبرير للعجز لا يخففه، بل يُعيد إنتاجه، ويُرسّخه في وعي الأفراد والجماعات.

لكن العجز، على قسوته، ليس قدرًا محتومًا. فكما بيّن سليغمان، الإنسان لا يُولد عاجزًا، بل يتعلّم العجز نتيجة تكرار الفشل والإحباط، لكنه قادر أيضًا على أن يتعلّم التفاؤل. والتفاؤل هنا ليس إنكارًا للواقع، بل هو قدرة على الصمود والمقاومة والإبداع رغم كل القيود.

ما نحتاجه اليوم ليس الانسحاب، بل التحرر من أوهام العجز، واستعادة الإيمان بجدوى الفعل، ولو كان رمزيًا. فالفعل السياسي لا يُقاس فقط بنتيجته الفورية، بل بقدرته أولًا على إعادة المعنى إلى الذات، وبناء شعور داخلي بالفاعلية والكرامة.

من هذا المنطلق، لا يكون الهتاف لفلسطين في مسيرة أو وقفة، أو مشاركة صورة، أو كتابة جملة، مجرد تفاصيل عابرة، بل أشكال من المقاومة الوجدانية ضد الانسحاب النفسي الجماعي، وضد تطبيع الروح مع الظلم.

ليس المطلوب منا الآن أن نغيّر موازين القوى العالمية، بل أن نبدأ من أنفسنا، برفض الخنوع، وبالعمل الجاد من أجل إسقاط الفساد والاستبداد في تازة، لأن غزة تحتاج إلى تازة قوية، حرة، حية. وكل مرة يُرفع فيها الصوت لأجل غزة، لا يُنتقص من تازة، بل تُستعاد روح الاحتجاج التي تفزع كل فاسد ومفسد في الداخل. لأن من يحتج لأجل المقهورين في فلسطين، غالبًا ما يكون هو ذاته أول الواقفين مع المقهورين في وطنه.

*باحث في العلوم السياسية

Share
  • Link copied
المقال التالي