Share
  • Link copied

رثاء روحٍ طاهرة: إلى روح والدي الحاج الحمليلي بوجمعة

في مساء يوم جمعةٍ مبارك، وبين زخات مطرٍ خفيف تساقطت فوق سماء مدينة وجدة، المدينة التي طالما عرفت بجفافها وقيظها، رحل والدي الكريم إلى جوار ربه. رحل وقد انفتحت أبواب السماء بدموعها، وكأنها تشاركنا حزن الفقد، وتهدهد قلوبنا المنكسرة برحمة من عند الله. ولم تكن السماء وحدها من بكت، بل خرج مئات الأحبة، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، ليشيّعوا هذا الرجل الطيب إلى مثواه الأخير، في جنازة مهيبةٍ لم ترَ المدينة مثلها منذ زمن.

كان والدي، الحاج الحمليلي بوجمعة، من الجيل الذي حمل غربته على كتفيه، وديانته في قلبه، وأخلاقه في جيبه. هاجر إلى فرنسا منذ أواخر الستينيات، كما هاجر كثير من رجال المغرب، طلبًا للرزق الحلال، وبحثًا عن الكفاف والعفاف. لكنه لم يذُب كما ذاب غيره، بل ظل صلبًا في دينه، مستقيمًا في سلوكه، متمسكًا بصلاة الجماعة، صائمًا لله، بارًا بوالديه، رؤوفًا بأهله، عطوفًا على أبنائه، محبًا لزوجته، مثالًا للرجل الذي لم تفسده الغربة، بل زكّته.

كان بيته في الغربة بيتًا للمغاربة، ومجلسه مجلس محبة، لا يُغلق بابه في وجه سائل، ولا يُقفل هاتفه عن قريبٍ أو بعيد. كانت له هيبة في القلب، لكن تلك الهيبة كانت ممتزجة ببشاشة وحنو، حتى أحبّه الناس كبارًا وصغارًا، وألِفوه، ووجدوا فيه الأخ، والصديق، والوالد، والسند.

ورغم متاعب الحياة، وصعوبة الاغتراب، لم ينسَ واجب الحج، ذلك الركن الركين من دينه، فحججتُ معه، وكانت من أعظم بركات حياتي. رأيته هناك، في المشاعر المقدسة، يطوف كالعاشق، ويقف بعرفة كالمتبتل، ويبيت في منى كالمخلص، ولم يترك لحظة إلا ملأها بذكر الله وتلاوة القرآن. كان كأنه في دياره، بل كأنه خُلِق لتلك اللحظات، فالحج زاد روحه إيمانًا، وأضاء وجهه نورًا.

وكان أكثر ما يفرحه أن يزوّج الشباب، لا يهنأ إن سمع بعزوبة رجل أو امرأة إلا وسعى ليجعل الفرح يطرق بابهم. ما من مناسبة إلا وكان أول المبادرين، يسعى في الصلح، وفي تزويج من استطاع، حتى عُرف بذلك، وكأنه إمام من أئمة الخير في زمن الهرج.

وفي عامه الأخير، تبدّلت أحواله، وأشرقت روحه ببريق العارفين. صار الليل جليسه، والقرآن أنيسه، والدمع حليفه، لا يمرّ عليه ليل إلا وهو قائم بين يدي ربه. لم يكن ينتظر شفاء، ولا يطلب زيادة في عمر، بل كان راضيًا، شاكرًا، مستعدًا. كأنه يعلم أن الرحيل قريب، فزين أيامه الأخيرة بالطاعة، وودّع الدنيا بسكينة المحبين، ورضا الأولياء، وابتسامة من أدرك ما عند الله.

مات والدي الحاج الحمليلي، لكن لم تمت سيرته، ولا خبت أنواره. ترك لنا من الذكرى ما يغمرنا دفئًا، ومن الدعاء ما نأمل أن يصل إليه نورًا ورحمة. علمنا أن الرجولة ليست بالصوت العالي، بل بالفعل الهادئ. وأن الدين ليس مظهرًا يُلبس، بل سلوك يُعاش. وأن الكرامة لا تكون بكثرة المال، بل بالثبات على القيم. هذا هو إرثه، وهذه هي وصيته غير المنطوقة، لكنها المغروسة فينا ما حيينا.

ولك يا أبي، يا من ربيتني وأكرمتني، ويا من كنت ظلي وسندي، أقول:

وَدَّعْتُكَ القلبَ في كَفِّي يُودِّعُهُ
وَدَمْعُ عَيْني على الخَدَّيْنِ يَنسَكِبُ
يا مَن مَضَى وبَقَتْ فِينَا مآثِرُهُ
طِيبُ الخِصَالِ كَمَا العِطْرِ إذا انْسَكَبُوا
قُمْ يا نَسيمَ الرُّبى، بَلِّغْ سَلامَ رُوحٍ
بِالذِّكرِ عاشتْ، وفي الرِّضَا انكِتَبُوا
يا حاجَّ بيتِ اللهِ، نومُكَ جَنَّةٌ
ورَوْضُ قبرِكَ رَوحٌ فيهِ نَرتَقِبُ
سَتَبقَى يا أبي نُورًا بِمُقْلَتِنَا
تَحيا بحبِّكَ أيامٌ وتَغتَرِبُ.

اللهم ارحم والدي رحمةً واسعة، واغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وارفعه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. واجعل قبره روضة من رياض الجنة، وثبته عند السؤال، واجعل لنا فيه شفيعًا يوم نلقاك.

Share
  • Link copied
المقال التالي