قال السيد عبد اللطيف وهبي، وزير العدل: “هدفنا حماية النزهاء النظيفين، أما الموسّخين، إذا لم يذهبوا للسجن في الدنيا، سيذهبون لجهنم في الآخرة”.
وقد جاء كلامه هذا خلال رده على سؤال لفريق “الأصالة والمعاصرة” بجلسة الأسئلة الشفوية لمجلس النواب، يوم الإثنين الماضي، حول المسؤولية القانونية في تدبير الجماعات الترابية.
الحساب في الدنيا قبل الآخرة
وأضاف وهبي بأنه لا يفكر في الفاسدين، لأن متابعتهم مسؤولية القضاء، لكنه يفكر بالجدّي والنزيه الذي أساء التدبير.
ونقول للسيد وزير العدل هنا: متى كانت دولة الحق والقانون تُرجئ عقاب المفسدين من ناهبي مال الأمة إلى اليوم الآخر؟ أليس من سيادة القانون وسطوة الحق أن يُحاسب كل من عمل على اختلاس المال العمومي، أو شارك فيه، أو فرّط في حق من حقوق الدولة والمواطن دافع الضرائب؟
أوليست كل الدول المواطِنة تقوم بمحاسبة كل من سوّلت له نفسه التلاعب بمدخرات الأمة وتحاكمه محاكمة عادلة؟
وأحيلك هنا على نموذج حي اشتهر بمحاربة الفساد والمفسدين في الجانبين السياسي والاقتصادي، وهو دولة سنغافورة. فعلى عكس العديد من البلدان الآسيوية، نجحت سنغافورة في الحد من ظاهرة الفساد التي كانت منتشرة في البلاد، وقد تجلّى ذلك في حسن أدائها في العديد من المؤشرات القياسية، كمؤشر الشفافية، وبيئة الأعمال، والتنمية البشرية، وتقرير التنافسية الدولي.
إذ يمكن أن يُنسب هذا النجاح إلى الإرادة السياسية لحكومة حزب العمل الشعبي، وهو ما انعكس في إنشاء مكتب التحقيقات في ممارسات الفساد، الذي يُعد هيئة مستقلة عن الشرطة، يقوم بالتحقيق في وقائع الفساد في القطاعين العام والخاص، ويرأس هذا المكتب مدير يتبع رئيس الوزراء مباشرة، وكذلك سنّ قانون عائدات الجريمة سنة 1960، وتطبيق هذا القانون دون تحيز أو تمييز، ودون أي تدخل من الحكومة.
فنجاح هذه التجربة ساهم في تطوير هذا البلد خلال أكثر من 53 عامًا في ظل حكومة لي كوان يو، الذي كان رئيسًا للوزراء آنذاك.
فلا يخفى عليكم، السيد الوزير، أن الفساد يُعد أحد أخطر وأهم المعوقات والمشكلات التي تقف أمام تحقيق التنمية، حيث إنه يساعد على تآكل عوائد التنمية، ويحدّ من قدرة الدولة على تحقيق عدالة التوزيع بين أفراد المجتمع.
ولذلك، فقد أخذت الدولة الماليزية، من جهتها، على عاتقها منذ الاستقلال تنمية وتطوير الأجهزة الحكومية بما يحقق التنمية.
حيث يمثل النموذج الماليزي في التنمية بشكل عام، ومحاربة الفساد بشكل خاص، نموذجًا خالصًا قام على تفعيل منظومة القيم الروحية والأخلاقية والدينية التي يتمتع بها المجتمع الماليزي.
وقد أوضحت دراسة التجربة الماليزية في محاربة الفساد عدم وجود استراتيجية سهلة التنفيذ تستطيع من خلالها الدول علاج ذلك الخلل المجتمعي والاقتصادي، الذي يسبب تآكلاً مستمرًا يحدّ من تحقيق العدالة في جهود التنمية وفي حسن توزيع الثروات.
الفساد أصل الكساد
في حكاية سردها “الزعيم” المخلوع عبد الإله بن كيران في لقاء جمعه سابقًا بجمعية خريجي العلوم السياسية، تقول إن شخصًا تصوّر نفسه أنه حبة قمح، وكان كلما رأى ديكًا لاذ بالفرار فزعًا منه، فأخذوه إلى مستشفى المجانين حتى شُفي، لكنه خرج يومًا فباغته ديك، فلم يتمالك نفسه وهرب منه.
قال له القوم: ماذا بك؟ أنت الآن مقتنع بأنك لست حبة قمح.
فأجابهم الرجل: بالفعل، أنا مقتنع بذلك، لكن من يُقنع الديك بأنني لست حبة قمح؟
ليتصور كلٌّ منا نفسه ـ نحن ركاب الدرجة الاقتصادية من الفئتين الدنيا والمتوسطة ـ حبة قمح، والديوك تتربص بنا وتطاردنا زنقة زنقة، وبيتًا بيتًا، في كل الاتجاهات:
ديوك مافيا الأراضي والعقارات، ومنتهزو الربح السريع غير المشروع، وعشاق اقتصاد الريع، والمتهاتفون على الرواتب والمنح والامتيازات والسفريات ذات القيمة العالية من ميزانية الدولة، التي هي ميزانية الشعب، أو من ميزانيات الشركات والمؤسسات المملوكة كليًّا أو جزئيًّا للدولة، والمتملصون والمتهربون الكبار من أداء الضرائب لفائدة خزينة الدولة، والمتلاعبون بالأسعار في كل ما يهم المواطن، محتكرُو مقالع الرمال، ورخص الصيد بأعالي البحار، ومأذونيات النقل الطرقي والحضري، ولوبيات الأدوية والأبناك وشركات التأمين والقروض الكبرى، وأرباب المصحات والمدارس والجامعات الخاصة، وشركات الاتصالات والخدمات، وسماسرة تزويد سوق الاستهلاك الوطني بكافة الحاجيات الضرورية والكمالية.
لقاء عابر مع السيد وهبي
وأتذكر هنا السيد وزير العدل، لما كان محاميًا قبل سنوات عديدة لفائدة الرئيس السابق لودادية ابن خلدون السكنية بتمارة، الحسين الساف.
وكنا نحن، كأعضاء في الودادية، قد رفعنا دعوى قضائية ضد الرئيس بتهمة التصرف في مال مشترك بسوء نية، وربحناها في الابتدائي، وخسرناها في الاستئناف، ليصدر الحكم ببراءة الرئيس المتهم.
وكان السيد وهبي قد هرع إلينا نحن الأعضاء الثلاثة في باب المحكمة الابتدائية، وطلب منا التنازل عن الشكاية، وقال لي بالحرف الواحد: “اكتبوا له تنازلاً، ما دام الجميع قد سكن بمنزله، فهناك وداديات لم تصل إلى إسكان أعضائها”.
فأجبته على الفور: لا يمكننا التنازل عن الشكاية، فالأسر تعيش مآسي لا حد لها بالودادية.
وهكذا كان، خسرنا الدعوى لعدم كفاية الأدلة، رغم اقتناعنا آنذاك بسوء النية في التصرف في ذلك المال المشترك، كصفقة الخشب مثلاً، والمحسوبية والزبونية في توزيع الشقق.
المغرب ومدركات الفساد
كشف التقرير السنوي لمدركات الفساد لسنة 2024، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، عن احتلال المغرب للرتبة 99 عالميًّا، و9 عربيًّا، بـ37 نقطة، مسجلاً بذلك تراجعًا بدرجة واحدة عن 2023، و4 درجات عما كان عليه الوضع في سنة 2022.
ويعمل مؤشر مدركات الفساد على تصنيف 180 دولة ومنطقة حول العالم، حسب مستوياتها المتصورة للفساد في القطاع العام، ويدرج المعطيات ضمن مقياس يبدأ من النقطة 0، والتي تفيد أن الوضع فاسد للغاية، إلى 100، التي تعني أن الوضع نظيف جدًّا.
تعليقات الزوار ( 0 )