شارك المقال
  • تم النسخ

دوافع طوفان الأقصى على مشرحة علم الاجتماع السياسي

يمكن القول إن عدة عوامل أساسية دفعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى إطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الجاري، وهو ما يمكن فهمه عندما نرى علماء الاجتماع السياسي يتحدّثون إن النشطاء، في لحظات الانغلاق السياسي وانعدام الفرص السياسية، لا يكفّون عن سعيهم إلى تعبئة الجمهور المحيط بهم والمتفق مع هويتهم، وكذا أنصارهم؛ وتقوم هذه التعبئة ليس على حساب الفرص الممكنة، أو حسابات التكاليف والخسائر المتوقّعة أو المنافع المحتملة؛ بل وفقاً لتقدير التهديدات والمخاطر الجمعية التي تحيط بهم وبقومهم. 

وكان شارلز تيلي، على سبيل المثال، يتحدث عن  أهمية الإدراك أو التقدير perception، حيث أفاد أن الناس يكونون أكثرَ قبولاً واستجابةً للتعبئة إذا أدركوا perceive أن ثَمّة تهديداً يواجه حياتهم ومستقبلهم، وهو الأمر الذي طوّرهُ شارلز كورزمان، عندما تحدّث عن أهمية “الفهم الذاتي” self-understanding في مواجهة المواقف الموضوعية، ذلك الفهم الذي قد لا يتفق مع المراقبين للموقف من غير المُعَرّضين للمخاطر، تلك المخاطر التي تفرض سطوتها على نمط الحياة اليومية وتزيدها تعقيداً واضطراباً. وقد كان ذلك الشعور المتنامي بالخطر والتهديد واضحاً لدى قادة “حماس” في تصريح نائب رئيس مكتبها السياسي، صالح العاروري، قبل شهر من انطلاق عملية طوفان الأقصى، “عندما لا نواجه الاستيطان الآن – وهم 850 ألفا في الضفة الغربية – سنواجههم بعد سنتين وهم مليونا مستوطن”، فالتهديد الرئيسي كان ديموغرافياً لتغيير التضاريس الاجتماعية والشخصية السكانية للمجتمع، وهو تهديدٌ مقلق، ويمثل خطراً جمعياً داهماً لا ينتظر. ووفقاً لوكالة غوث وتشغيل اللاجين (أونروا)، زادت خطط الاستيطان والعطاءات الاستثمارية لتشييد وحدات سكنية كثيراً في العام 2022 عنها في العام 2021، فقد جرى تشييد 28.208 وحدات سكنية في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، وبما يمثّل زيادة قدرها 30% عن العام السابق.

وإذا كان الخطر الاستيطاني المتسارع والداهم من أبرز دوافع عملية طوفان الأقصى؛ خصوصا مع التصريحات الإسرائيلية العدوانية والإقصائية للشعب الفلسطيني وحقوقه، فإن قضيتي القدس والمسجد الأقصى تشغلان مكانة رئيسية ورمزية عند المقاومة الفلسطينية على طول تاريخ مقاومتها وامتداده، بل قد يجد الصراع العربي الإسرائيلي جانباً كبيراً من حيويته في مسألتي القدس والمسجد الأقصى، واللذان يمثلان نقاط المواجهة الرئيسية مع الاحتلال الرئيسي منذ العام 1967، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) قد اشتعلت في سبتمبر/ أيلول من العام 2000 عقب فشل مفاوضات كامب ديفيد، والتي جمعت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك؛ فقد كان لرفض عرفات تقديم أية تنازلات تخصّ القدس سبباً في ذلك الفشل، واندلعت عقبها الانتفاضة الثانية التي راح فيها ما يزيد عن أربعة آلاف شهيد وعشرات آلاف من الجرحى. ومن ثم، يمثل الصراع على القدس جوهر المسألة الفلسطينية، وما زالت إسرائيل تحرص على اطراد عملية الاستيطان في القدس الشرقية تحديداً، والتي بلغت معدّلاتٍ غير مسبوقة؛ فقد بلغت جملة تلك الوحدات الاستيطانية 22.586 وحدة في القدس الشرقية وحدها، بينما بلغت 4.427 وحدة فقط في الضفة الغربية للعام 2022، ولا تكفّ الحكومة اليمينية الإسرائيلية عن استغلال أية فرصة للسماح بانتهاك حرمة المسجد الأقصى إلا وفعلتها، وهو ما كان واضحاً في تصريح القائِد العام لكتائب عز الدين القسّام، محمد الضيف، في معرض حيثيات عملية طوفان الأقصى ودوافعها أن العملية كانت ردًّا على “الانتهاكات الإسرائيلية في باحات المَسْجِدِ الأقصى المُبَارك واعتداء المُستوطنين الإسرائيليين على المُواطنين الفلسطينيين في القُدس والضّفّة والدّاخل المُحتَل”، فالاعتداءات والانتهاكات والاعتقالات لم تتوقف يوما متوازيةً مع مجهودات حثيثة لتغيير الخريطة السكانية، والتشجيع غير المسبوق للهجرة اليهودية (عاليا Aliyah)، فوفقاً للوكالة اليهودية فإن 70000 مهاجر من 95 دولة قد هاجروا إلى فلسطين المحتلة في العام 2022 فقط، وهو العدد الأضخم خلال الـ23 عاماً الماضية، أغلبهم من روسيا وأوكرانيا، هذا في الوقت الذي يُمنع فيه فلسطينيو الشتات من مجرّد زيارة بلادهم، ويُمنع فلسطينيو قطاع غزّة من الانتقال إلى أي مكان، ويتم حجزهم في مساحة مكانية لا تتجاوز 365 كم. ووفقاً لتقرير صادر عن مجلس العلاقات الدولية فلسطين، فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها سكّان القطاع غاية في السوء؛ حيث يعتمد 80% منهم على المساعدات الدولية، في وقتٍ تجاوزت فيه معدّلات الفقر حاجز الـ 64% علاوة على ظهور أجيال شابّة تعاني أمراضاً واضطرابات نفسية نتيجة الحصار، وغلق القطاع وعزله عن العالم بدون أمل أو أفق. وقد ساهمت تلك العوامل في تقديم خطابٍ للتعبئة، يقوم على خطر المظالم الجمعية، وتنامي الممارسات العنصرية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، والتي يتجاهلها الاحتلال والمجتمع الدولي، ومن ثم تتراكم لتغيّر الحقائق على الأرض، وتزيد من استبعاد الحق الفلسطيني.

ويمكن القول إن تضافر هذه العوامل وَافَقَ ظروفاً دولية ملائمة، وفّرت تقنيات غير تقليدية للتسليح، تستطيع دحر جيوشٍ نظامية تقليدية محترفة، الأمر الذي دفع بشدة إلى امتلاك زمام المبادرة للمرّة الأولى؛ خصوصا مع نجاح حركة حماس في بناء تحالفاتٍ إقليميةٍ، مكّنتها من امتلاك أسلحةٍ نوعية، مثل التي ظهرت بشكل أوضح خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، وامتلكها الأوكرانيون وكان لها أكبر الأثر في تكبيد الروس خسائر هائلة. ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، كان الجيش الروسي، بعد تسعة أشهر من الغزو الروسي، قد خسر ما يقارب 40% من دبّاباته، بل وما يقارب نصف دبابات نوعية كانت تستخدم في القتال. ووفقاً للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، طرحت الحرب الروسية الأوكرانية تصوراً جديداً لاستخدام الأسلحة التكنولوجية، حيث أصبح الصراع الروسي – الأوكراني ساحة اختبار للأنظمة العسكرية الجديدة، ويقوم بشكل أساسي على الابتكار، والدور الهائل للشركات التقنية الخاصة في تقديم تلك التقنيات. وبحسب المجلس، لم يحدث من قبل نشر هذا العدد الكبير من الطائرات بدون طيّار في مواجهة عسكرية، حيث اعتبرت تلك الحرب الأولى من نوعها التي يُستخدم فيها هذا الكم من المُسيّرات، أو الطائرات بدون طيار، وقد استُخدمت البرامج التي غالبًا ما تكون مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحسين الأنظمة القديمة.

وكانت التجربة الأوكرانية في استخدام تلك المُسيّرات قد أسفرت عن نجاح فكرة إنشاء جيشٍ من المُسيرات بدون طيّار، حيث نجحت الحكومة الأوكرانية في مقاومة الجيش الروسي الجرّار بتدريب عشرة آلاف من المدنيين والعسكريين من مُسيّري الطائرات بدون طيّار. ويمكن القول إن الحرب التقنية الروسية الأوكرانية كانت ملهمةً لحركة حماس، وقد قال صالح العاروري قبل عملية طوفان الأقصى “حرب أوكرانيا غيّرت في المعادلات، وأصبح هناك أسلحة ذكية، أسلحة دقيقة، حروب سايبر”.

وفي ضوء ذلك، يكشف التحليل السوسيو سياسي لعملية طوفان الأقصى، بوضوح، عن تغير في قدرات حركة حماس، بالرغم من القوة الجبّارة التي تملكها إسرائيل، فقد نجح المقاومون في تعبئة قطاعات اجتماعية واسعة، داخل غزّة وخارجها، عبر اقتناعهم بإدراكٍ جديدٍ لفرص التحوّل والتغيير، وأن المبادرة والمقاومة يمكنهما أن يفعلا المستحيل بلا شروطٍ بنائيةٍ وتغير في موازين القوى، أو فرص لم تنضُج بعد. ومن ثَم أدركت الحركة أن لا معنى للانتظار؛ طالما التهديد الصهيوني يتنامى ويتزايد بلا توقّف، فتلك الأفعال يُطلَق عليها الخيارات الاستراتيجية للحركة، حيث تتّسق أفعالها مع خطابها، ولا ترغب، أبداً، في التخلي عنها، خصوصا في لحظات الجنون كما يسمّيها علماء الثورة، أو تلك اللحظات التي تتّخذ الحركة فيها قراراتٍ قد تكون غير متوافقة مع الوقائع والإمكانات المتاحة، أملاً منها في توسيع مساحة التعبئة، وفتح مزيد من الفرص السياسية والاستراتيجية وتحريك الواقع وجلب أنصار جدد، وبما يغيّر من موازين القوة. وهو ما ترفضه إسرائيل برفض الاعتراف بقوة المقاومة، وتصوّرها إمكانية القضاء عليها بمعاونة الأطراف الدولية المؤيدة لإسرائيل، حتى تتجنّب أي استحقاقٍ سياسي، أو تقديم أي تنازلاتٍ تنال من استراتيجية الهيمنة وتغيير تضاريس المكان والسكان.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي