شارك المقال
  • تم النسخ

دروس العالم و المجتمع الإنساني من فيروس كورونا

في ظل ازمة وبائية يعيشها  العالم بأكمله تضع ثقلها على الانسانية جمعاء، فتمسه في جميع جوانبه الاقتصادية و السياسية والاجتماعية والنفسية والاخلاقية، في ظل سقوط العالم نحو العدم كما يقول تشومسكي في إحدى مقابلاته الصحفية، لكن ليس نهايته بالتأكيد، بلغة اخرى فالطبيعة تأخذ انفاسها من حركية الانسان و لعل انغلاق التدريجي لثقب الازون وانخفاض معدل الثلوت البيئي مؤشران لا يقلان اهمية ضمن المعادلة المناخ في ظل هذه الجائحة ، ليس دفاعا عن النظرية المالتوسية لكن ما يعيشه المناخ العالمي من استقرار اليوم  سعت اليه مجموعة من الدول في اطار اتفاقيات و معاهدات سابقا و لم تحققه رغم جهودها.

 إن إنحدار العالم اليوم ليس وليد اللحظة بل بسبب التراكمات و الازمات سريرية للنظام الاقتصادي العالمي الذي كان مهددا منذ ازمة 2008 ، في سياق انتشار فيروس كورونا cov-19 كمتغير بدأت ملامحه في شرق العالم و وصلت الى غربه بالسرعة التي توفرها العولمة من الانخراط في السوق العالمية و التبادلات التجارية و حركية نشيطة للافراد والجماعات في مختلف الدول ،هذه المحددات الاقتصادية للعولمة تفرض نموذج او نمطا ثقافيا معولما تذوب داخله كل الخصوصيات الثقافية والاجتماعية  للمجتمعات التي قد تفرض نوعا من الانغلاق الذاتي وتفادي الكارثة، مما خلق ثقافة الاستهلاك للسلع و المنتوجات التي صارت من ضروريات الحياة العصرية ، و بالتالي فإن دينامية العولمة لا تعرف حدودا هذا ما يجعلنا فعلا نلامس مقولة ان العالم اصبح قرية صغيرة توحده سوق سوسيوإقتصادية واحدة و يخضع لديناميكية التفاعل مما يؤدي إلى انتقال فيروسات و امراض أيضا بالسرعة التي يعرفها التوزيع و الحركية و التدفق الاقتصادي و الثقافي ، و بحديثنا هذا نعلم جيدا ان ليس هناك من نظام صحي في أي دولة سيقف أمام هذه الجائحة من دون الضربات المتتالية التي سيتلقاها إقتصادها الوطني ،كما يقال فإن الرأسمالية تحفر قبرها بنفسها فهي تظل جامدة امام هذه الأزمات إن لم تنتعش منها كما يحدث في الحروب،  إن تطورها في مستويات معينة افضى بإنتاج مسلسل من السياسات النيوليبرالية سحبت البساط على القطاعات الاجتماعية على رأسها الامن الصحي وجعلت من خوصصته وتفويته لمنطق السوق و الربح أولوية في اجندات المنظمات الاقتصادية  الدولية في معظم الدول سواء التي تنضبط لسياسة التقويم الهيكلي أو غيرها من الدول المتقدمة ، إلا ان فيروس كورونا المستجد اظهر فشل هذه السياسات النيوليبرالية من جهة و أهمية الامن الصحي المتعالي عن منطق السوق من جهة اخرى ، حيث لم يجعل من هذه الازمة الصحية انتعاشا الاقتصاد الرأسمالي العالمي بل بالعكس جعله يتخبط محاولا الخروج من الأزمة الصحية بأقل الأضرار ، مما يكشف لنا عن العلاقة السببية الوطيدة بين الامن الصحي و التنمية الإقتصادية  ،فاليوم تتعرض المجتمعات الانسانية الى طعنات من الوباء لم يكن له بالحسبان بعدم تحمل الحكومات المسؤولية في تدابير استباقية وجاءت الاستجابة المتأخرة للنظام الصحي بفعل دواعي تختلف من دولة لأخرى ، منها على سبيل الحصر تأخر إجراءات و تدابير الحجر الصحي ، عدم تدخل المختبرات في التجريب و اختبار اللقاح ، قلة الامكانات و الاجهزة الطبية مقارنة مع ساكنة الاجمالية  ، تلك التدابير استباقية جعلت المغرب يتجنب كوارث بهذا المعنى ، وليس تأخر معظم الدول بجملته الا إرتباطا بمنطق السلعنة و تزايد الطلب على العرض ، في خضم هذا باتت الانسانية تعيش نوعا من الارتباك و القلق الوجودي و قبل التطرق لهذا الامر لا بد للاشارة ان هناك ملامح تدل  على بروز عالم جديد في الافق على مستوى الدولي بفعل تغير موازين القوى و التحالفات و علاقات الدولية و التأثرات الجيوسياسية داخل المجتمع  الدولي على سبيل الحصر قرصنة و تعسف الدول على بعضها البعض و استيلائها على المساعدات الطبية و الصحية التي تحلق فوق نفوذها الدولي ، موقف المواطنين الايطاليين من الاتحاد الاوروبي يلوح لخروجها من منه بعد بريطانيا ، افلاس الدولة  اليونانية.

إن فرضية تفكك الاتحاد الاوروبي والتحول  من العولمة كمنظومة إلى نقيضها، رغم سلبية التأثيرات التي ستجدها بعض الدول مثل المانيا و فرنسا ،سيحدث تغيرات ملحوظة على  العلاقات الدولية الجديدة ،إلى جانب بروز الصين ليس فقط كقوة اقتصادية تنافس أمريكا و التكتلاث الاقتصادية المجاورة بل بتدخلات ومشاريع مستقبلية في مختلف بقاع العالم بهدف تقوية تحالفاتها  وفي خضم الوباء لم تكتفي عن إرسال المساعدات والأطقم الطبية للدول المتضررة من فيروس كورونا، ففي غياب التضامن الدولي الشمولي الذي لا يخضع لمنظومة موازين القوى و التحالفات، وفي غياب المنظمات المشتركة لاتخاذ تدابير مناسبة لنطاق اجتياح الوباء، يشهد العالم انغلاقاً أنانياً لكل أمة على ذاتها كما قال ادغار موران في حوار أجري معه مع مجلة “لوبس” الفرنسية ، لذا فإن العالم بأسره سيعرف تقلبات بفعل اضمحلال فكرة المصالح المشتركة بسبب وباء اظهر حقيقة المفاهيم الكونية من قبيل التعاون و التأزر بين الدول هذا ما يبرر اٍنهيار منظومة الأفكار الحداثية، في حين انها ظهرت تلك الممارسات الا من خلال علاقات ميكروسكوبية في المجتمعات من قبيل التضامن و المساعدة  بين الافراد و الجماعات و التنظيمات ، هذا الامر يجعلنا نعيد التفكير بإستمرار في ماهية الحياة التي يريدها الانسان في ظل هذه الشروط التي بات يعيشها الكيان البشري سمتها الاساسية هي الخوف ،ومن طبيعي ان تثار غريزة البقاء حيث سيسعى جاهدا للحفاظ على نوعه و يستجيب لمجموعة من التحولات في نمط العيش و العلاقات النسقية الاجتماعية في اطار ما يسمى بالحجر الصحي فنلاحظ أن التزام الافراد به رهين بمحددين أولها بروز وعي صحي بخطورة المرض و ثانيهما برتبط بتدخل الفاعليين الامنين و سن قوانين لمعاقبة المخالفين له ،كما حدث في مجتمعنا المغربي حيث تظافرت جهود الفاعل الامني و الاعلامي لفرض الحجر على الافراد و هذا ما يدل على عدم تبلور الوعي الصحي الكافي لدى جميع الفئات الاجتماعية و نسبة اعتقالات المخالفين في مدة وحيزة لا تقل عن اسبوعين مؤشر على هذا المحدد.

 إن الحجر بما انه تدبير وقائي قائم على تباعد الاجتماعي كمفهوم و ممارسة يؤجل نهاية البشرية بهذا المعنى ، فإن ما يضمه هذا المفهوم من ابعاد سيعيد النظر في نسق علائقي بين الفرد و البنية ، الذات و الموضوع في سياق اتسم فيه التفاعل الاجتماعي بالتهديد المؤقت و كمقابل لهذا ظهر ما ايقن عنه ايضا السوسيولوجي الفرنسي ادغار موران عودة التضامن الإجتماعي بين فاعلين محلين و غير رسميين لصالح الفئات الهشة و الفقيرة حيث يتوجب علينا  الاستفادة من هذا الوضع للتفكير مجدّداً في النزعة الاستهلاكية وتسمّمِنا بمنتجات من دون فائدة حقيقية، ولتخليصنا من الكمّ لصالح الكيف ، إن مرحلة بعد الوباء ستشكل ملامح عالم جديد تتعدد احتمالات تجدده إما ببروز وعي فردي بما قد يحمله المستقبل القريب من ازمات و تهديدات عالمية و سيسعى الافراد و الجماعات و الدولة لأنانية فردانية مطلقة في اطار الانغلاق الذاتي لتعبئة مختلف الموارد التي ستحتاجها اثناء الازمات ، هذا ما قد يزيد الطين بلة للمجتمع الانساني ليقطع صلته نهائيا مع القيم الكونية ، إما قد يأخذ على عاتقه اشكالا ليستفيق لحقيقة واحدة ان ما يهدد الانسانية جمعاء ليس العدو  الثقافي و الديني و الاخر المختلف عن الانا ، لكنه الاوبئة و الفقر و التهميش  فعوض البحث عن اعداء من اصل بشري يجب اعادة النظر في الانظمة العالمية و علاقتها بالسياسيات الأمن الصحي لتضمن استمرارية الوجود الانساني في اطار المصير المشترك للبشرية ،وما هذا الا درس او محاضرة تبين مدى هشاشة الاقتصاديات و البحث عن مسار جديد يتخلّى عن العقيدة النيوليبرالية، من أجل صفقة سياسية جديدة اجتماعية وبيئية*

————————————

*:المصدر: مجلة “لوبس” الفرنسية، عدد 2889، من 19 إلى 25 مارس/آذار 2020.

*طالب باحث في السوسيولوجيا

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي