بين الإسلام والمسيحية فروق كثيرة، والإسلام لاشك أعلى. لكن بينهما أيضا مسائل مشتركة أو ـ على الأقل ـ متشابهة، والسبب في ذلك واضح، إذ كلاهما صدر عن مشكاة واحدة، هو الوحي الإلهي، إنما حفظ الله تعالى بنفسه سبحانه دينه الخاتم، وأوكل حفظ الأديان السابقة إلى أهلها، ففرطوا ونسوا وحرّفوا.. وانتهى الأمر إلى أن الكتاب المقدس الوحيد الثابت نسبته إلى صاحبه هو القرآن الكريم، لاشك أنه من تلاوة النبي عليه السلام، ثم المسلم يرى أن محمدا ما كان إلا رسولا بلّغ الكتاب والرسالة، وغير المسلم يرى سوى ذلك..
والواقع أننا كنا نتمنى لو كانت أوربا وأمريكا مسيحيتين بحقّ، إذ عالم مسيحي أفضل من لا شيء. واليوم فإن أوربا ـ كما قال الأديب فاكلاف هافل، رئيس تشيكوسلوفاكيا السابق ـ هي أول حضارة ملحدة في التاريخ. صحيح أن الأكثرية الساحقة من الأوربيين يؤمنون بوجود الله، لكنهم ما عادوا يقيمون وزنا للأديان، ويتجنبون التفكير المزعج في الموت وما بعده، حتى الجانب الأخلاقي في المسيحية، وهو جانب طيب، ألغوه من حياتهم التي صارت مادية صرفة، تقوم على العمل والاستهلاك والاستغلال، لا شيء غير ذلك.
نعود إلى المشترك، ومن نماذجه التي تحضرني اليوم: فلسفة باسكال، فهذا الرياضي والفيلسوف الذي مات في شبابه كان من أعلام فرنسا بالقرن السابع عشر. بعض فكره الديني يثير الإعجاب، خاصة من خلال كتابه “أفكار”، فهو يرى أن الإنسان مخلوق بئيس، آية ذلك أنك لو نظرت في الكون وتأملت اتساعه الهائل وأجرامه الضخمة ومسافاته الضوئية.. وقارنت ذلك بالإنسان، بجسمه الضئيل الذي يتحرك فوق الأرض، وهي مجرد نقطة في بحر الكون العظيم.. وجدت أن هذه المقارنة مخيفة فعلا، وتكشف عن حدود الإنسان.
كذلك لو قارنت عمر الكون وزمان المجرات مع العمر الصغير للإنسان.. لعرفت أن وجودنا نحن مجرد لحظة عابرة في الزمن اللانهائي للوجود.
ماذا يفعل الإنسان إزاء هذه الحقائق المؤلمة: إنه يتجاهلها، ويجهد نفسه في الإعراض عنها، ويحاول تناسيها.
هل ينجح في ذلك؟ في الواقع لا ينجح، إذ الإنسان حين يقف عاريا وحيدا أمام هذه الحقائق الكبرى.. فإنه لا يتحملها، ولا يقدر على مواجهتها.. لذلك يلجأ الإنسان ـ فيما يرى باسكال ـ إلى إلهاء نفسه، وشغل عقله عن هذه المواجهة المرعبة، وذلك عن طريق الاستغراق في تلبية شهوات النفس والجسد، وبالإكثار من الحفلات والاحتفالات، وبتغطية حقيقته العارية بالزينة والتزين والبهرجة.. فهذه الدنيا التي وصفها القرآن: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد.. الآية).
إن قوة الدين تكمن في إجابته عن هذه الأسئلة، وما يفسر قدرته على الاستمرار في حياة البشرية منذ نشأتها إلى اليوم هو أنه الوحيد الذي ثبت أنه يستطيع إنقاذ الإنسان من هذه المواجهة العارية.. لذلك فحاجة البشرية إلى الدين حاجة أصيلة وعميقة يستحيل تجاوزها أو تجاهلها.
واليوم حين نرى تكالب الإنسان المعاصر على الاستهلاك والمتعة المادية.. حين نرى كثرة الطعام والشراب وتنوعهما، وعالم الموضة المجنون، وسُعار الجنس، والمبالغة في طلب الفرجة، والإدمان بأنواعه، وانهيار الأسرة، وتفشي الفردانية والأنانية .. وسائر مظاهر الأزمة التي يشير مفكرو العصر إلى أنها تعكس انتحارا بطيئا للبشرية.. حين نرى ذلك نتذكر حديث باسكال عن “بؤس الإنسان من دون الله”.
هل الإنسان أسعد حالا، وهو يقبر نفسه في هذه الأوهام كما تفعل النعامة بإخفاء رأسها في الرمل معتقدة أنها بذلك تنجو من عدوها.. كلا! ليست البشرية أفضل حالا، فالحروب اليوم أكثر عددا وأشد فتكا وتدميرا، والاضطرابات النفسية ـ والقلق المزمن أقلها ـ أكثر انتشارا، والعلم الذي كان يتوقع منه أن ينقذنا أصبح بإمكانه أن يدمرنا، ونسب الانتحار غير مسبوقة تماما في التاريخ، والذين يعيشون لوحدهم ـ ذكورا وإناثا ـ بمئات الملايين..
مسكين هذا الإنسان، يظن أنه يهرب من أسئلة الوجود بمزيد من الاستهلاك واللهو واللعب.. إنه في الواقع يهرب من الله، فالله تعالى هو من وراء هذا الكون وهذه الضخامة في الوجود وهذه الحياة وهذا الإنسان.. الله وراء كل شيء.. مسكين هذا الإنسان بكبريائه الفارغة، ألا يعرف أنه لا مهرب من الله إلا إلى الله؟
*مفكر وأستاذ جامعي
ففروا إلى الله
كلمة فرار ترتبط دائما بحرف الجر (من)، إلا في هذا الموضع فهي ترتبط بحرف الجر (إلى)، سبحان من يلجأ إليه الفارون