مقدمة
تقدم السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بشكوى مفتوحة إلى الله، ضد السيد عبد الإله ابن كيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عممت على الجمهور خاصته وعامته، فصارت بمثابة الناصح على رؤوس الملأ! أولم يقل الإمام الشافعي في هذا الشأن:
لم تعمدني بنصحك في انفرادي
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه.
ومن المفارقات أن السيد التوفيق كان له صحبة مع أهل الله الذاكرين، العاشقين الهائمين في ذات الذات الإلهية، ولأخلاق الكرام المتصوفة، وأنه يعلم حق العلم طرق الشكوى إلى الله، وطقوسها وأورادها وأذكارها التي تسبقها، بل وحتى أزمنة الاستجابة في الخلوات وكيفية التوجه بها منه إليه. وهكذا فإن هذا الأسلوب من التشكي يتماهى مع أساليب التواصل السياسي لدى التنظيمات الإسلامية، التي تفوقت في تحويل قواعد الوعظ والخطابة إلى أدوات فرجة سياسية في ساحات الخصومة الانتخابية.
ولا أدري لماذا استعمل الوزير في آخر خطابه الذي يقول إنه شكوى لله، فعل “نفثت بهذه الشكوى”، والفعل نفث في قواميس العرب يستعمل في الأمور السلبية، كرمي البصاق أو السم أو الامتلاء حقدا وغضبا وهكذا من المعاني السلبية. فهل يجوز أن يقول التوفيق أن شكواه إلى الله، الذي لا يحتاج أصلا إلى شكوى فهو اعلم بحوائج الناس منهم كما يقول الموقنون في حكم الله، وكما ينشر أهل التصوف وقد عاش التوفيق زمنا معهم، ثم يقول “نفثت بهذه الشكوى”، اللهم إلا إذا كان المقصود الخفي منذ البداية هو الشكوى إلى البشر والتشهير والرد السياسي؟! لذلك فإن هذه الشكوى ربما تدخل في خانة “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم”، ولا علاقة لها بصفة الصوفي الاشعري المالكي المعتدل، مما يجعل استعمال هذه الصيغة الماكرة، التي لها ارتباط بالمخيال الديني للمغاربة، غير ضرورية وكان الأولى تبني أسلوب رد عادي بدون هذه الغلاف الديني، الذي صار ينسجه للجماهير بشكل ميكافيلية كل من يريد أن يضفي سلطة لغوية دينية على خطابه.
سياق تبريرات الوزير التوفيق
لم يتمكن الوزير التوفيق من تبرير ما قاله في البرلمان، بأننا نحن أيضا علمانيون وإن لم تكن لنا قوانين فرنسا لسنة 1905. في خطابه لابن كيران نفى فقط أنه تحدث عن علمانية الدولة المغربية، لكنه تفادى تفسير من كان يقصد بنحن. هل كان يعني أن الشعب والمجتمع علماني، وهذه خلاصة تنقصها الدقة، أم كان يقصد الدولة، باعتبار أنه تحدث باسم الدولة، في مؤسسة منتخبة شعبيا تمثل الأمة أي البرلمان، وهل كان يوجه كلامه فقط المغاربة أم حتى لفرنسا؟ فلا الصفة التي تحدث بها ولا المناسبة التي تحدث فيها تنفي عنه أنه كان يتحدث نيابة عن الدولة، التي تسهر بشكل دقيق، على إدماج الفقه المالكي عن طريق الخطباء والوعاظ والمرشدين ومجالس العلماء، في الحياة العامة وفي سلوك المواطن المغربي، وهي ترفض أن تتحول إلى مؤسسة “فقهوت” تشبه الكهنوت الكنسي الغربي.
وفي الجانب الآخر، فإن معظم المغاربة يربطون سلوكهم بالخوف من عقاب الله، أو بالرغبة في الحصول على جزاء الله في الدنيا والآخرة، وينشرون قيم التدين في كثير من صور حياتهم، منها حملات التضامن والتصدق اليومية أو خلال الأزمات. وهناك مشهد آخر يعطي الصورة الحقيقية لقلوب المغاربة، وهو سجود لاعب كرة القدم عندما تسجيل هدف، يقول الحمد لله وفقني الله لذلك، ولا يقول بتسيد عقله أو جسده في تسديد الركلة كما هناك عند اللاعب في الغرب، الذي لا يؤمن سوى بنفسه ولايرى أن هناك أي “إله” في المستطيل الأخضر يساعده على التسديد! الفرق يكمن هنا، هو هذا الربط الوجداني بين السلوك والله وليس فقط بدين ما، فعندما يتم الفصل بين الله والسلوك، عندها نعيش علمانية عميقة وحقيقية.
تحويل الدين إلى قطاع بيروقراطي اسلامي
للمفارقة أيضا مع هذه الشكوى، فقد سبق للوزير التوفيق أن تابع قضائيا إماما بإقليم كلميم، الذي تم اعتقاله وللحكم عليه في محكمة الاستئناف بالرباط خلال صيف 2021، بثلاثة أشهر حبسا نافذا وغرامة مالية قدرها ألفي درهم. وحينها لم يرفع الوزير شكواه إلى الله، بل رفعها إلى المخزن في ملف مطلبي “نقابي” للأئمة، كان قد عرف نقاشا حقوقيا ووقفات تضامنية ومناشدات للإفراج عن الإمام. ولعل سبب هذا الاعتقال هو ما زرعه التوفيق في تدبير الشأن الديني بالمغرب، بجعله هذا “الدين” قطاعا اداريا تسلسليا على شكل بيروقراطية اسلامية، ضمنها موظفين كبار علماء وفقهاء ثم موظفين في أسفل الهرم من أئمة ومرشدون ووعاظ وعاملين، بإمكانهم ممارسة العمل النقابي طبقا لفلسفة عقد الشغل أو الوظيفة العمومية.
وبذلك فإننا نتساءل هل من العقلانية تحويل “الدين” إلى قطاع إداري تسلسلي وما يعنيه ذلك من تسلسل إداري ومساطر توظيف، وإفتاء بعد موافقة الرؤساء الإداريين، لاسيما عبر سلم إداري عبر المجالس العلمية المحلية ثم الإقليمية ثم الجهوية ثم المجلس العلمي الأعلى؟ هل من المستساغ أن يتحول الأئمة والمرشدون الدينيون إلى موظفين ينتظرون الترقيات، وقد يمارسون العمل النقابي، وبالتالي تضعف قدرتهم على الاشتباك مع تيارات إسلامية غير متوافقة مع مذهب وتوجه الدولة الديني؟ في نظرنا هذا الوضع قد يقسم العلماء والخطباء إلى فئة تنتمي “للقطاع العام” مقيدة بواجبات تحفظ كثيرة وبالتزامات مهنية وببطء بيروقراطي في التعامل مع “المستعجلات الدينية”، وفئة تنتمي “للقطاع الخاص” تنتسب إلى الجماعات الإسلامية والجمعيات الدينية، الأكثر سرعة وقربا في الإنجاز الإفتائي وغير المقيدة بأي التزامات مهنية، مما يقتضي في نظرنا أن يعاد بلورة تصور توظيف الخطباء بناء على تصور شبيه بالتدبير المفوض بناء على دفاتر تحملات واضحة ودقيقة للتعامل مع سرعات زمن الأنترنيت وتكنولوجيا التواصل الحديثة.
نفترض أن الدين هو مجال وجداني بالدرجة الأولى، وعلى أساسه يتخذ المتدين عدة علاقات وقرارات، وأن الزمن الحالي هو زمن تكنولوجيا تواصل سريعة، فهل يعقل ان ينتظر أحيانا المتدين سلما إداريا للحصول على فتوى تشبه قرارا اداريا في شكل اتخاذها، لاسيما أنه يجد نفسه أمام انفتاح تكنولوجي عبر الانترنيت على فتاوى مشرقية مثلا أو سلفية أو غيرها؟ لذلك نرى أن أحد أسباب انتشار بعض التيارات الإسلامية وانتشار الخطاب الديني غير الرسمي، هو هذه البيروقراطية التدينية، التي جاءت مصاحبة لمشاريع الإصلاح الديني الأخير، مما جعل علماء وفقهاء “القطاع العمومي”، خارج الاشتباكات الفقهية والعقدية التي تدور في مكان آخر غير المسجد وهو شبكات التواصل الاجتماعي تحديدا.
سوابق الوزير التوفيق في خلق الجدال الديني
وقد سبق أيضا للوزير التوفيق أن تسبب هذا العام 2024 في نقاش حاد حول الربا، في الدرس الذي ألقاه ضمن سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية، والذي ربط فيه تجديد الدين بإمارة المؤمنين، حيث جاء فيه: أما القضية الثالثة عشرة فتهم التعامل مع الأبناك، ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هو الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات القديمة وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك، أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وفي ما عدا ثمن الأجل ومقابل الخدمات فإن الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصاد في البلد”.
وتجذر الإشارة إلى أن السيد التوفيق لا ينتمي بحكم تكوينه، ولم يعرف عنه مناقشة الفقهاء والعلماء في قضايا فقهية أو في فتاوى شرعية، مناقشة علمية بواسطة مؤلفات مؤسسة على أسس النقاش الفقهي المتأصل، لذلك فإن خوضه في مثل هذه المواضيع والقول فيها قولا يفيد الحقيقة العلمية النهائية، قد يضعه كمشرف إداري عن قطاع تدبير جزء من مؤسسات التدين، خصما للمتكلمين والمحدثين الشرعيين المالكيين، وأيضا خصما للجماعات الإسلامية، وحليفا محتملا للتيار العلماني الذي يبشر بحرية المعتقد ويرفض التقعيد المعياري لإمارة المؤمنين.
لذلك فإن موضوع الدرس كان مرتبطا بإمارة المؤمنين بهدف دعمها وصيانتها وسط الجدالات المنتشرة حولها، لكنه يبدو لنا أن وزير الأوقاف، في مسعاه لعلمنة اللغة وإخراج مفهوم الربا من سياقه اللغوي والثقافي والديني ليجعله مجرد فائدة بنكية، فقد
أساء إلى مؤسسة إمارة المؤمنين، أكثر مما نفعها درسه الرمضاني هذا، لأنه عند حديثيه عن الربا فكأنه أفرغ الملكية والملك والحكم من إمارة المؤمنين الدينية، ووضع مكانها نظام علماني غربي لا ينطبق مع أطروحات المشروعية الدينية ومع الخصوصية المغربية.
جوانب استفادة ابن كيران بخطاب الوزير التوفيق
لا يساورني شك في أن السيد عبد الإله ابن كيران وحزبه، كان ذكيا في رده على التوفيق وأظهر أخلاق المتسامح العقلاني غير المتطرف أو العنيف، وغير محرج في تقديم الاعتذار العلني. فقد استفادا ابن كيران من تعميم السيد التوفيق شكواه إلى الله على عموم الرعية، على مستويين اثنين. من جانب حصل حزب العدالة والتنمية بقيادة السيد ابن كيران على التفاعل المطلوب والرد المأمول، من وزير الأوقاف، على دفوعاته ودفاعاته عن قدسية الاسلام في المغرب، وبالتالي يعد هذا الرد الوزاري إخراجا لحزب ابن كيران من التجاهل أو العزلة السياسية، بعد التقهقر الانتخابي لسنة 2021، فأضحى من جديد ضمن اهتمامات أهم معاقل جوهر السلطة السيادية في البلاد. وبالتالي ذاع صيت الخطيب ابن كيران في الأعلى وفي الأسفل من هرم الدولة، في دفاعه عن الدين وفي ارتباطه بالملك وبإمارة المؤمنين وبحرصه على استقرار الدولة!
في المستوى الثاني، يرشح من خطاب السيد التوفيق الذي خص ابن كيران دون غيره بالرد، أن التمثيل الديني في المغرب تتنازعه وزارة الأوقاف والجماعات الإسلامية، وبالتالي هو اقرار ضمني بوجود هذه المنافسة في التمثيل الديني. ورغم أن الرد الذي ورد عن ابن كيران على خطاب التوفيق اللوام، يمكن تصنيفه في خانة استجابات الرضوخ والدعم، على خطاب التوفيق، إلا أنه أيضا يمكن اعتباره استجابة ممانعة، لأنه لم يتنازل عما سبق من قول منسوب إليه من رفض لعلمانية الدولة المغربية، وجهره بالتصدي لكل محاولة علمنة كيفما كان مصدرها.
تحليل مضمون خطاب الوزير التوفيق
وبالعودة إلى تحليل محتوى خطاب التوفيق، أرى أنه تنطبق عليه مدرستين لتحليل السلوك الخطابي، وهما مقاربة المثلث الدرامي أو مثلث الضحية (ستيفن كاربمان)، ومدرسة المربع الأيدلوجي (تيون فان دايك) في تحليل المضمون، التي تدرس وجود نزعة ايديولوجية للهيمنة والاقصاء في مدرسة التحليل النقدي للخطاب، وتحاول كشف الإيديولوجيات الخفية في اللغة. وهي بالمناسبة نفس المدارس التي درس بها بعض السلوك التواصلي لعبد الإله ابن كيران.
تطابق نظرية المثلث الدرامي مع خطاب الوزير التوفيق
وبخصوص نظرية “المثلث الدرامي”، فهو مثلث من ثلاثة أضلاع يلعب أدواره “المنقذ، والجلاد” على مستوى واحد من المثلث ويأتي في الزاوية السفلى دور “الضحية” وحيدا.
وبإيجاز فإن المنقذ أو المساعد هو الشخص الذي يقدم نفسه كبطل لا يمكن الاستغناء عنه، وكشخص مهم ومستنير واستراتيجي ونصوح. شخص يقدم يد المساعدة للآخرين وينقذ الضحايا، وقد تكون بعض العبارات في شكوى التوفيق دالة على هذا المعنى لاسيما في الفقرات التي جاء فيها: “هكذا أيها الرئيس أقنعتُ محاوري بأن كل القيم العقلانية المتعلقة بالاجتهاد، في حرية، هي التي عليها العمل في سياقنا، سياق حرية الدين التي هي أصل في الإسلام، وإنما النعمة عندنا أن إمارة المؤمنين تحمي تلك القيم المجتمعية من جهة الدولة وتحمي الدين بتيسير العبادات كمطلب أساسي لأغلبية الناس، وهو ما يتوافق مع جوهر تلك القيم العقلانية إلى أقصى حدود الاجتهاد”؛ “ما زلت تذكر، ولا شك، أنني عشت معك أزمة رحيل الأستاذ عبد الله باها. وتذكر أنني قلت لك إن الأحوط في السياسة في بيئهن العامل فيها على النزاهة والنظافة للناس ويقنعهم بإنجازاته بدل أن يلجأ إلى تعريض الدين لضعف الإنسان بتحويله إلى شعارات لمجرد الغواية أو ما نسميه بالاستقطاب. والحالة أن الدين هو الأخلاق بكل تجلياتها ومستوياتها، ابتداءً من النوايا الصادقة، وهذا فهم فطري عند الناس. لذلك تجد بعض أهل ديننا يعجبون بأخلاق بعض أهل بلاد العلمانية. وقد كان جوابك، رداً على “النصيحة”: يظهر لي أن هذا هو ما ينبغي”.
أما الضلع الثاني من المثلث فهو الجلاد أو الظالم والشرير، الذي تعرض للتعنيف والظلم ويخفي ألمه من خلال “العنف والقسوة”، لذا فهو يكثر من ملامة الناس بسبب خوفه الدفين من أن يصير “عديم القوة، وعاجز”، مما يدفعه إلى الوقوف موقف الضحية، جاعلا من “جلده للآخرين” مجرد رد فعل لحماية نفسه.
وهناك فقرات في خطاب الوزير قد تدل على هذا المعنى في الفقرات التالية: “إنك رئيس حزب سياسي عصري، والحزب السياسي العصري مقتبس من نظام غربي علماني، وإنك منتخب على أساس تكافؤ أصوات الناخبين بغض النظر عن معتقداتهم وسيرهم، وهذا الأمر مقتبس من نظام غربي علماني…”، أو في الفقرة: “نفثت بهذه الشكوى لا لأقنعك، وأنت تعرف أنني لا أريد على المتقولين، بل القصد أن يسمعها “السميع”، وتكون أنت من الشاهدين. وعسى أن يسمعها بعض من سمعوا تشهيرك فيفهموا”. بذلك فقد عرض الوزير مخاطبه عبد الإله ابن كيران، إلى جملة من عبارات النقد واللوم والتعنيف اللفظي.
أما فيما يتعلق بالضحية، فهو ذلك المضطهد الملاحق والمتبوع. هو شخص يعيش قلقا دائما وبحاجة دائمة للبحث عمن هو أقوى منه “ليحميه”. ومما يوحي بالتطابق مع هذا التعريف هو ما جاء في الفقرات التالية: “كان عليك وقد نُقل لك ما قيل، أو سمعت كلمات “عجلى” قيلت في البرلمان، كان عليك أن تكلمني وتسألني ماذا قلتُ وما ذا أردت أن أقول..” ثم في الفقرة “يجري كل ما ذكر في سياق هذه المملكة في أمن وانسجام لأن إمارة المؤمنين تحمي كليات الدين وقطعيّاته، ولولا ذلك لعشنا العلمانية التي لا مرجع فيها سوى الأغلبية”.
ويرى صاحب هذه النظرية أن من دوافع الدخول في “مثلث الضحية”، هو الضعف في تحمل المسؤولية عن الذات، وعدم القدرة على فهم الذات، وقد يلعب الفرد الواحد الأدوار الثلاثة في آن واحد، كأن يقدم نفسه كمنقذ أو كضحية بحيث أنه تعرض للانتقاد مثلا بسبب عدم الفهم أو التواصل، فيختم هذا المثلث بإعطاء الحق لنفسه في الرد والحماية بلعب دور الجلاد.
تطابق مقاربة المربع الأيديولوجي مع خطاب الوزير التوفيق
فيما يتعلق بمقاربة المربع الأيديولوجي، فهي، كما يقول الخبراء، تهدف إلى الإخراج إلى العلن تلك العلاقة الجدلية بين اللغة والخطاب والمجتمع، وإلى وصف الممارسة النصية، بغية كشف السلطة المتخفية المخادعة خلف اختيارات لغوية مميزة تخدم أيديولوجيا معينة، من أجل السيطرة على القدرات الذهنية لدى الفئات المستهدفة. يقوم هذا المربع الإيديولوجي على أربعة مبادئ تمكن من فهم المواقف الإيديولوجية في الخطاب الذي مارسه الوزير التوفيق بغية التصدي لأي محاولة لمنافسته كمسؤول داخل الدولة في التمثيل والتفسير الديني، وبذلك، وبرفضه لحجاج ابن كيران حول علمانية الدولة، فهو ضمنيا يتناقض مع مفهوم حرية الدين والحريات التي أطلقها في خطابه.
المبدأ الأول في هذه المقاربة، هو التأكيد على الأمور الإيجابية التي تتعلق بنا، حيث جاء في خطابه: “وأنت تعرف أنني، بفضل الله، خديماً في باب تدبير الدين منذ أزيد من عقدين من الزمن”؛ “ولولا ذلك لعشنا العلمانية التي لا مرجع فيها سوى الأغلبية”، “هكذا أيها الرئيس أقنعتُ محاوري بأن كل القيم العقلانية المتعلقة بالاجتهاد، في حرية، هي التي عليها العمل في سياقنا، سياق حرية الدين التي هي أصل في الإسلام، وإنما النعمة عندنا أن إمارة المؤمنين تحمي تلك القيم المجتمعية من جهة الدولة وتحمي الدين بتيسير العبادات كمطلب أساسي لأغلبية الناس، وهو ما يتوافق مع جوهر تلك القيم العقلانية إلى أقصى حدود الاجتهاد”؛ “ما زلت تذكر، ولا شك، أنني عشت معك أزمة رحيل الأستاذ عبد الله باها. وتذكر أنني قلت لك إن الأحوط في السياسة في بيئهن العامل فيها على النزاهة والنظافة للناس ويقنعهم بإنجازاته بدل أن يلجأ إلى تعريض الدين لضعف الإنسان بتحويله إلى شعارات لمجرد الغواية أو ما نسميه بالاستقطاب…”؛ وأذكر أنني سألت في عام 2008 (انطلاقاً من نفس الاهتمام)، سألت السيد سفير ألمانيا في المغرب عن الرسم الذي تجمعه الدولة رسمياً من الناس للإنفاق على الدين، ففاجأني بأن مبلغه، بالنسبة لعام 2006، هو ثمانية مليارات ونصف مليار أورو”.
المفهوم الثاني هو التأكيد على الأمور السلبية المتعلقة بهم: “كان عليك أن تكلمني وتسألني ماذا قلتُ وما ذا أردت أن أقول، وحيث إنك لم تفعل فإنك قد استعليتَ فحاديتَ بالبهتان”؛ “إنك رئيس حزب سياسي عصري، والحزب السياسي العصري مقتبس من نظام غربي علماني، وإنك منتخب على أساس تكافؤ أصوات الناخبين بغض النظر عن معتقداتهم وسيرهم، وهذا الأمر مقتبس من نظام غربي علماني. وإنك عندما كنت رئيساً للحكومة قد اشتغلت على نصوص قوانين تخدم المصلحة العقلانية وتُعرض على تصويت البرلمان، وهذا أمر مقتبس من نظام غربي علماني…”؛ “وأنت كنت مضطراً إلى تحالف حكومي، ولا يفترض أن يكون حلفاؤك فيه على نفس الاقتناع أو الفهم للدين..”؛ “إن السياق المغربي بخلفياته التاريخية ومؤهلاته الحاضرة مبشر بإمكان بناء نموذج يحل عدداً من المشاكل الفكرية للأمة..”.
المبدأ الثالث هو إزالة التركيز على الأمور السلبية التي تتعلق بنا، وجاءت في الفقرات: “شكوت بثي إلى الله وآثرت أن تطلع عليه. بلغني أنك ذكرت كلامي في تجمع حزبي، ونسبت إليّ ما فاتك فيه التبيّن وجانبك اليقين. ذكرت ما فهم منه الناس أنني قلت إن الدولة في المغرب علمانية، وأنا لم أذكر الدولة؛ لأن الدولة دولة إمارة المؤمنين”؛ “إن الشخص الذي حاورته في الموضوع مسؤول نبيه يعرف المغرب، وهو متدين في نفس الوقت، ولكنه يعيش في نظام لا يرى الدين حاجة جوهرية للإنسان يجب أن تحميها الدولة، ولكل وجهة هو موليها”؛ “الواقع أننا نعيش في أوضاع مركبة ليست لنا لا الثقافة ولا الإرادة الصادقة للتميز بقصد فهمها، وقع هذا منذ أن دخل حرف جرنا إلى جملة نظام صنعه الغير كما صنع أسلحة الغلبة، وكان بإمكاننا لو استطعنا أن نغزوه بالأخلاق. أما عدم التميز فهو قصور في النصح السياسي الذي لا يأتينا بالتستر والنفاق”.
وأخيرا المبدأ الرابع هو إزالة التركيز على الأمور الإيجابية المتعلقة بهم، فلم يذكر التوفيق أي مزية لابن كيران أو لحزبه، وأقل هذه المزايا، أنهم أناس مغاربة ساهموا في الاستقرار السياسي للبلاد، وأن ابن كيران دافع باستمرار عن الملكية التنفيذية، وعن دور إمارة المؤمنين، ناهيك عن تشارك الذراع الدعوي لتنظيم ابن كيران وفقهاء الحزب جماعة التوحيد والاصلاح، في برامج الإرشاد والوعظ في المساجد مع وزارة التوفيق. بل لقد شكل جزء من جماعة التوحيد والاصلاح خزانا استقطبت منه وزارة الأوقاف لفائدة المجالس العلمية، بعدما وجدتهم جاهزون علما وفقها وتكوينا، ليصبحوا أئمة أو خطباء يخطبون في الناس، طبقا لخطط ودلائل وزارة الشؤون الإسلامية. وهذه جملة من مزايا حزب ابن كيران والجماعة المسندة له، والتي لم تنعكس في فقرات خطاب التوفيق، بل رسم صورة شيطانية سلبية جدا عنهم وهذا لا يستقيم مع الواقع بشكل كلي.
وبذلك فإن الوزير التوفيق طبقا لهذه الأفعال الأربعة، مارس استراتيجية العرض الذاتي الإيجابي، والعرض السلبي للآخر الذي هو ابن كيران بشكل علني وحزبه بشكل ضمني. فليس هناك أمر إيجابي جاء به بنكيران في نظر خطاب التوفيق، في حين أنه عندما يتحدث عن نفسه، فإن التوفيق يشير دائما لإيحاءات إيجابية.
اللغة والأيديولوجيا في خطاب الوزير التوفيق
من غرائب الكلام في خطاب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وهو يوظف القاموس الفقهي للرد على ابن كيران، أنه طابق الغواية بمفهوم الاستقطاب السياسي الحزبي بشكل مطلق. فجعل بذلك، وقياسا على خطابه الموجه إلى ابن كيران كل استقطاب سياسي مجرد إغراء بالفساد وسير في طريق الضلال وحياد عن الحق، فقد جاء في القرآن الكريم: “فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين”؛ “ما ضل صاحبكم وما غوى”. ولا أدري كيف أمكن للتوفيق أن يصف عمل حزب قائم على أسس شرعية وقانونية للممارسة السياسية، رفض السرية والعنف وانخرط في مشاركة سياسية واضحة، بأنه يمارس الغواية؟ فهذا يبدو أنه موقف سياسي ايديولوجي، يسيء إلى قطاع محايد حزبيا، قاطع غير خاضع لتنافس البرامج الانتخابية، وهو موقف قد يستعمل انتخابيا ويرجح كفة باقي الفاعلين الحزبيين ضد حزب العدالة والتنمية.
إمارة المؤمنين في نظر الوزير التوفيق
يبدو أن جواب التوفيق حاول تقويم أدوار إمارة المؤمنين حينما قال: “يجري كل ما ذكر في سياق هذه المملكة في أمن وانسجام لأن إمارة المؤمنين تحمي كليات الدين وقطعيّاته”، والحال أن الملك كأمير للمؤمنين ليس أمامه أي مانع لكي يتدخل حتى في جزئيات التدين، من بناء المساجد وتوزيع المصاحف، إلى الوقوف على ربط مدونة الأسرة بالحلال والحرام، وطلب الفتوى أو المشورة الدينة في الحركة الاقتصادية وانشاء الأبناك التشاركية، أو حتى في إصدار عفو على معتقلين من مرجعية إسلامية انطلاقا من صفة إمارة المؤمنين، وغيرها كثير من الأمور التي لا تدخل كلها في كليات وقطعيات الدين.
مفهوم الحرية في خطاب الوزير التوفيق
من بين المكر اللغوي الشبيه بمكر خطباء التاريخ الذي يبدو أن التوفيق استعمله، هو ترويح مصطلح الحريات الفردية، حينما خاطب ابن كيران قائلا: “وقد كان عليك كرئيس للحكومة أن تقتنع بالحريات الفردية كما ينص عليها الدستور وتحميها قواعد النظام العام”. وحسب معنى هذا الدفع، فإن ابن كيران لم يكن مؤمنا بالحريات الفردية التي جاء بها الدستور، ولا ندري من أين استنتج التوفيق هذه الخلاصة، اللهم إلا إذا كان يقصد بالحريات الفردية شيء آخر غير وارد في الدستور.
فدستور 2011 أو الدساتير التي قبله أسست وأقرت قواعد الحقوق الأساسية أو الحريات العامة بشكل صريح، سواء في شقها الفردي كحرية التنقل والتعبير وغيرها، أو الجماعي كحرية التظاهر وتأسيس الجمعيات والاحزاب والنقابات وغيرها، مع ضرورة التقيد بالقانون وبقواعد النظام العام المغربي، الذي يضم أيضا مبادئ وقواعد إسلامية وثوابت وطنية صارمة. وربما كان حريا بالتوفيق أن يستعمل مصطلح الحريات العامة أو الحقوق الإنسانية، لأنه مثلا إذا ما قمنا بالبحث عن المصطلح باللغة الفرنسية، فسنجد مصطلح les libertés individuelles، بمعنى سنجد مفهوما جد موسع، باعتبار أنه في فرنسا تضم هذه الحقوق، الحريات الجنسية وحرية استعمال الجسد واختيار العقيدة وغيرها، وكأني بالتوفيق، في هذا الصدد، يراعي أو يوجه أيضا خطابه لصديقه الوزير الفرنسي في جلد ابن كيران، من خلال البرلمان المغربي.
حرية الدين في خطاب الوزير التوفيق
يمكن اعتبار هذه الواقعة استمرار للصراع حول من يمثل الإسلام في المغرب، وحول الاشتباك الفكري مع علماء القطاع العام ومع مسؤولوه من منظور الدولة للدين، في إطار “لا إكراه في الدين”، في إطار حرية الدين التي تحدث عنها التوفيق في رده. فهل نفهم من هذا أنه يمكن للمغربي المسلم أن يرتد ويمارس عقيدة أخرى غير الإسلام، أو أن يلحد بشكل مطلق وبالتالي رفض عقد البيعة لأمير المؤمنين باعتبارها ذات نشأة دينية، وحينها قد يطالب هذا المغربي بمدونة أسرة خاصة به، أو أن يتحول المغربي داخل نفس الاعتقاد إلى شيعي مثلا؟ كيف يمكن أن يفسر لنا التوفيق مسألة حرية الدين التي تكلم بها، وهو الحارس على ضرورة التقيد بالمذهب المالكي في تصريحاته، وفي كل الوثائق المرجعية التي تنتجها وزارته، لاسيما المتعلقة بدليل الخطباء والوعاظ والأئمة والمرشدون، في ظل شهر وزراته على تثبيت المذهب المالكي، وأن الوزارة لم تسم وزارة الشؤون الدينية بل وزارة الشؤون الإسلامية؟ كيف يمكنه تبرير مفهوم حرية الدين أمام مواقف الملك وخطبه بخصوص عدم احلال ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله؟ وكيف يمكن أن تفسر اللجوء بشكل متكرر إلى المركزية في توحيد خطبة الجمعة مع وجود شرط في الخطيب أن يكون مقيما، ذلك للاطلاع على أحوال الناس والحديث معهم حسب المواضيع التي تستأثر باهتمامهم وبمشاكلهم المحلية، فأين هي الحرية في هذا الباب؟ كيف يمكن أن يفسر لنا التوفيق ماذا يقصد بالدين وبحرية (معرفا كما جاء في اللفظ القرآني باستعمال تقنية الجمع: “إن الدين عند الله الإسلام”؛ “ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون”؛ ” اليوم اكملت لكم دينكم ورضيت لكم الاسلام دينا”)، إذا لم يكن يقصد الإسلام أم كان يقصد حرية المعتقد؟ طبعا هذا لا ينفي وجود أرضية مشتركة مع باقي الديانات السماوية، ويمكن تحديدها في الإيمان بالله والعمل الصالح كما جاء في الآية، التي حددت أرضية التوافق وربما التحالف أيضا: “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله اناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه”.
ويمكن القول أن المطالبة بحرية المعتقد، إن كان فعلا يعي بعض روادها ماذا تعني فعلا، فهي رغبة في ضرب إمارة المؤمنين بشكل غير مباشر، و بالتالي التحرر من عقد البيعة ثم خلق تقسيم داخلي خطير بين المتدنيين و بين غير المؤمنين، الشيء الذي نحن في غنى عنه في هذه المرحلة، لكونه قد يدمر الإجماع المغربي و يعيده إلى منطق الطوائف الدينية و منطق صناعة أقليات و هويات دخيلة جديدة، و قد لا نستغرب يوما ما إن وجدنا الآلهة في شكل أصنام أو الأبقار أو الكهان يتجولون وسط الرباط يتبعهم متعبدوهم مطالبين باحترام طقوسهم و عباداتهم و ربما عقود “البيعة” بينهم.
الحرية لا تمارس بطريقة فوضوية أو بناء على تقليد خارجي أو انصياع لقواعد أجنبي، بحجة الحداثة والتقدم والعقلانية. فالحداثة أو العقلانية ليست نموذجا حصريا كونيا واحدا، بل لها وجوه متعددة ومتنوعة ومتقلبة من زمن لآخر، وهي ليست مرتبطة بمحاربة التقليدانية أو القيم الدينية بشكل كلي وجذري، و إنما هي امتداد للحياة داخل نمط إنتاجي تفاعلي مع السياقات الجديدة يلبي ضرورات الحاضر من دون هدم البناء كله، بل على العكس، صيانة كل ما من شأنه أن يقوي الارتباط داخل حدود الدولة العصرية بناء على هوية وطنية جامعة و صارمة.
العقلانية في خطاب الوزير التوفيق
أشار الوزير عدة مرات إلى مسألة العقلانية، وإلى المصلحة العقلانية في تبني قيم وقواعد الدولة، بدون أن يأتي على ذكر حدود واضحة أو الشروط اللازمة لتبني التفكير العقلاني، حتى لا ينزلق إلى خروج عن المشروعية الدينية. لقد ظلت مسألة التفكير العقلاني مثيرة للجدل بين الفلاسفة، فانقسمت الآراء بين توجهات عديدة مؤسسة على التأويل والاستقراء والاستنباط أو التجريب أو النظر الاكلينيكي لبناء نموذج الدولة الحداثية. وعلى هذا الأساس فقد تجادل الفلاسفة والعلماء في الغرب حول كيفية تفسير الواقع وإعادة بناءه، انقسموا إلى وضعانيين positivists وبنائيين constructivists، واختلفوا حول ماهية المعرفة العلمية للظواهر، هل هي الملاحظة لاكتشاف الحقيقة بناء على العمل الذهني العقلي للفرد، أم أن هذه المعرفة ما هي إلا تمثلات الباحث للواقع كما يراه هو وليس كما هو على حقيقته، بناء على أساليب التحقق من الفرضيات والمعطيات؟ بذلك سيصير الواقع اما واقعا موجودا وتم اكتشافه فقط، وإما أنه نتاج نشاط معرفي بناء على ذاتية الباحث وفرضياته وأدواته. وبذلك فإنه ليست كل القراءات والتفسيرات التي بنيت في الغرب، تتمتع بنفس درجة العقلانية التحليلية أو من حيث مستوى الوضوح الفكري، بل إن بعضها كان يعد قمة في النضج الفكري ومنتهى نظري وعلمي في زمن ما، إلى أن تم تفنيدها ودحضها بل وهدمها وإعادة التفكير في نماذج نظرية عقلانية جديدة.
وإلى الآن يستمر الجدل الفكري والفلسفي حول مدى دقة المسعى العقلاني في العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم التطبيقية. وهي الإشكالية التي كثرت حولها آراء الفلاسفة ابتداء من “دافيد هوم” ومروراً بـ”كارل بوبر” وتوماس كوون” و”إيمري لاكوتاس” و”باول فايرآبيند”، والتي وصلت السجالات بشأنها إلى القول بأن بلوغ الدقة العقلانية سواء في العلوم الإنسانية وحتى التطبيقية ما هي إلا مجرد وهم وأسطورة كبيرة وأنه ينبغي الانعتاق من القيود المنهجية والعلمية وفسح المجال أمام نظر أوسع بدون قيود. ذلك أن بعض التوجهات العقلانية في الفلسفة الغربية، ترى أن المعرفة ليست كتلة واحدة أي المعرفة العلمية فقط، وإنما أيضا هناك المعرفة الحدسية وهي كما يصفها الباحثون المعرفة المباشرة التي تتحصل وتتلقى فيها الذات حيثيات الموضوع كما هو، وبتعبير المصطلح الكانطي هي “الذات العارفة بوسعها الوصول إلى حقيقة ” الأشياء في ذاتها” وذلك عن طريق معرفتها معرفة مباشرة عن طريق الحدس، وهو ما يعني تلك الرؤية الكلية المباشرة للمعاني العقلية المجردة، أو ما يسميه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل (1859 – 1938) بالقدرة على إدراك الماهيات، وبذلك فإن الحدس يعد نوعا من المعرفة. ولأن العقلانية هي تمرين بشري يشمل مواضيع بشرية وانسانية، مما قد ينتح عنه تناقضات في التأويل والتفسير وفي القياس مقارنة مع سهولة الاختيار في العلوم الدقيقة كعلوم الطبيعة والرياضيات مثلا، فالطبيعة كما يقال “لا تملك لغة بشرية للتحدث ولا “تكذب”، عكس الظاهرة الإنسانية الصعبة الادراك”.
ومن بين فلاسفة المغرب الذين ناقشوا العلمانية هناك طه عبد الرحمن، الذي وإن كان قد اعتبر العقلانية تراثا نظريا ومنهجيا يونانيا، وأن الجمود عند العقل ساهم في تعطيل الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، معتبرا أن الوحدة الروحية تجاوزت حدود البرهنة العقلية. وبذلك فهو يربط الإيمان بالعقلانية، والعقل بالقلب والبرهان بالوجدان والتعبد الروحي بالتدبير والسلوك، لأنه ينطلق من منظور إسلامي ايماني يقسم الوجود إلى ظاهر وباطن، مما يضع يخضع العقل إلى حدود لا يتعداها عكس العلماني الذي لا يرى للكون سيد سوى الإنسان.
خاتمة
الإشكال المطروح حاليا، هو استمرار توظيف الاسلام كواجهة ناعمة للدولة وأيضا كمشروعيته سياسية لوجود الدولة خارج سياق المشروعية العقلانية الديمقراطية الدستورية، التي أشار إليها التوفيق، رغم أن الدستور المكتوب الذي يعتبر صورة للمشروعية العقلانية وللحداثة فإنه وضمن قواعده نجد قواعد عليا من وثيقة الدستور نفسه، وتعطي الأولوية للدستور التاريخي والعرفي الضمني. أيضا نلاحظ مواصلة استعمال الدين أيضا لتبرير مساعي اقتصادية نيو ليبرالية، كإيجاد المسوغ الفقهي للأبناك التشاركية، أو لمفهوم الربا كفائدة بنكية، مع الاستمرار في رفع شعار الاعتدال والتسامح مع الذين خارج الاعتقاد الاسلامي، وفي نفس الوقت الاستمرار في إقصاء أتباع نفس الدين الإسلامي.
وقد لاحظا جميعا، العودة إلى الخطاب الديني في الغرب والشرق وإلى إلى النقاش العمومي لديهم، خصوصا في الحرب الروسية الأوكرانية وعودة الكنسية الشرقية إلى لعب دور سياسي وعسكري، وأيضا في ربط عدد من المشاريع والأفكار والسلوكيات السياسة في أمريكا بالدين بشكل مطلق. وبالتالي ربما علينا الاستعداد بشكل جيد إلى عودة الصدامات الدينية مستقبلا، وهي نظرية أيضا انتجتها العقلانية الغربية في ضرورة الصراع الحضاري والديني مستقبلا.
*باحث في علم الاجتماع السياسي
تعليقات الزوار ( 0 )