Share
  • Link copied

حين يرحل رفيق النبل والاعتدال: في وداع العالم المخلص محمد المحرصاوي

ثمة لحظات في حياة الإنسان لا تُقاس بعدد الدموع ولا ببلاغة العبارات، بل بما تُخلّفه من فراغ في القلب، وغصة في الروح، وصمتٍ لا تفسّره اللغة. هكذا كان وقْعُ نبأ رحيل الصديق والأخ ورفيق درب الفكر والعلم، الأستاذ الدكتور محمد المحرصاوي. رحل العالم الصادق، والوجه الأزهري المعتدل، والضمير الحيّ الذي ظلّ حتى آخر لحظة حاملًا لهمّ الدين والوطن، بصوت هادئ ورؤية متزنة.

لم يكن الدكتور المحرصاوي مجرد زميل في المؤتمرات واللجان، بل كان صديقًا حقيقيًا، وأنيسًا للعقل والقلب. كانت صداقتنا أكبر من الزمالة، وأعمق من الاختصاص، جمعتنا مساحات واسعة من القيم والهموم المشتركة: من فكرة الوسطية إلى رسالة السلم المجتمعي، من الاجتهاد المقاصدي إلى نصرة الدولة الوطنية، من قضية الحوار إلى همّ تجديد الفكر الديني.

في لقاءاتنا، لم يكن يشغله المنصب ولا الهيبة، بل كان يشتعل شوقًا لبناء عقل عربي إسلامي حديث، مؤسس على الاعتدال لا الإفراط، وعلى الوفاء لا الزهو، وعلى الرسالية لا التوظيف السياسي للدين. كان يؤمن أن العلم تكليفٌ لا تشريف، وأن العالم لا يصنع الهيبة فقط بما يحفظ، بل بما يُنير من معانٍ ويُلهب من وعي.

حين تولى رئاسة جامعة الأزهر، ظلّ وفيًّا لفكرته الأولى: أن العلم وظيفة في خدمة الأمة، لا سلّم لمجد شخصي. خدم الأزهر بصمت، وكان لسانًا له في المحافل الدولية، حريصًا على أن يبقى منبرًا للعقل، لا ساحةً للصخب. وكان في “رابطة الجامعات الإسلامية” صوتًا حكيمًا، يوازن بين الثوابت والتجديد، وبين التأصيل والانفتاح.

لكن عظمة هذا الرجل لم تكن في كتبه ولا مناصبه فحسب، بل في إنسانيته الجارفة. لم يكن عالمًا في برج عاجي، بل في الميدان، يفتح بيته قبل مكتبه، يستقبل الناس في الفجر، ويقضي حاجاتهم كما لو كان واحدًا منهم. كان “طبيبًا جراحًا بدرجة إنسان”، يخفف آلام الناس كما يضيء لهم دروب العلم، وكان إذا همّت البيروقراطية أن توقف نفعًا، مزّق حواجزها بقرار حاسمٍ يسبق توقيعه دمعة حنان.

وإذا كانت الأمة تفقد بوفاة العلماء كنوزًا لا تعوّض، فإن رحيل المحرصاوي كان فقدًا للعلم وللأخلاق معًا. فرحيله لم يكن فقط اختفاء جسد، بل انطفاء نور من أنوار الأزهر التي كانت تضيء بتواضع، وتعمل في صمت، وتُثمر دون صخب. وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء…”، نجد صورة هذا الرحيل؛ إذ لا تُسلب العلوم من الرفوف، بل تُسحب من الأرواح التي كانت تحملها بإخلاص.

العلماء المخلصون، أمثال المحرصاوي، هم قناديل الهداية في زمن كثرت فيه الظلمات. هم الحصن الأخير للمعنى في عالم يفيض بالشكل، وهم السدّ المنيع أمام التفريط والغلوّ، وهم القلوب التي تنبض بالعقل، والعقول التي تهتدي بالبصيرة. ولذا، فإن موت أحدهم لا يُرثى فقط، بل يُستدرك، ويُسأل: كيف نخلّد هذا النور؟ كيف نربّي على نهجه؟ كيف لا نترك فكره يتحوّل إلى نصوص منسية؟

إن الوفاء الحقيقي للدكتور محمد المحرصاوي يكون:
1. بأن نُخلّد علمه بنشره، وشرحه، وتدريسه، وتطويره.
2. وأن نُحيي روحه في التواضع والعطاء والبذل.
3. وأن نواصل مسيرته في الدفاع عن الاعتدال، وعن الأزهر، وعن الوطن.

لقد رحل محمد المحرصاوي، لكنّه ترك أثرًا لا يُمحى، وذكرى لا تُنسى، ومسارًا يلهم الأجيال. لم يمت لأنه باقٍ فينا بعلمه، وخلقه، وسيرته. خسرناه جسدًا، وربحناه قدوة. خسره الأزهر، وخسرته الدولة الوطنية، وخسره كل من آمن أن العلم رسالة.

اللهم اجزه عن الأمة خير الجزاء، واجعل مثواه الفردوس الأعلى، كما جعلت حياته رحمة وهداية.
رحمك الله يا رفيق النبل والاعتدال، وجعل ذكراك وقفًا للعلم والإنسانية لا ينضب.

Share
  • Link copied
المقال التالي