في زمنٍ تحوّل فيه الضجيج إلى قناعٍ للزيف، وصارت الحملات الممنهجة أداةً لإسكات الحقيقة، تطل علينا بعض الأبواق بنبرة اتهامية، تخلط بين الرأي والتشهير، وبين النقد والتحامل، وبين النزاهة والمؤامرة. آخر هذه الفصول ما عُرف بـ”شبكة التشهير”، التي وُرّط فيها اسم موقع صحفي مهني في محاولة مكشوفة لتلطيخ سمعته، والزجّ باسم رئيسه ضمن سرديات مشبوهة تستهدف الإثارة وتتبنّى الاتهام كمنهج.
لكن ما غُيّب عمداً أو سقط سهوًا، أن المؤسسة الصحفية المعنية أنجزت تحقيقًا استقصائيًا مهنيًا، مستندة إلى معطيات دقيقة وقرائن موضوعية، كشفت عن شبهات تتعلق بالتماس غير مشروع للإحسان العمومي، وإمكانية تهريبه أو استثماره في غير محله، إلى جانب ممارسات منسوبة لبعض المنتسبين للطريقة القادرية البودشيشية، كالسحر والشعوذة والطقوس الغيبية، وهي ممارسات تتنافى مع جوهر التصوف، وتُقوّض مصداقية الزاوية.
الموقع الصحفي التزم بالقانون، واعتمد في نشره على شهادات موثقة صادرة من داخل الزاوية نفسها، من رجال صدقوا فيما قالوا، عبّروا عن مخاوفهم من انزياح خطير، وعن شعور داخلي بأن التصوف الأصيل يُختطف تدريجيًا لحساب خطاب التقديس الأعمى والسلطة الرمزية الفارغة.
ومن المفارقات المؤلمة أن يُتهم رمز روحي أفنى حياته في خدمة الزاوية، ويُساء إليه فقط لأنه همس بكلمة عتاب أو قدّم رؤية مخالفة. الرجل معروف بإخلاصه وصدقه، ولا يُنكر فضله إلا جاحد.
وفي خضم هذا المشهد، نتوقف عند سؤال محوري: متى لجأت الزوايا في تاريخها العريق إلى القضاء للانتقام من ناقد؟ متى استعانت الزاوية بالسلطان للردّ على من ساءلها؟ المتصوفة، كما وصفهم ابن خلدون، هم قوم أعرضوا عن الدنيا وزخرفها، وأقبلوا على الزهد والعبادة. فهل يعقل أن يتحوّل منطق الزهد اليوم إلى شغف بالملاحقة والتضييق؟
قال سيدي أحمد زروق: “من جعل التصوف حِرفة فقد كفر، ومن جعله شُهرة فقد انحرف، ومن جعله طريقًا للحق فقد عرف.” فأي صنف من هؤلاء تُريد الزاوية اليوم أن تكونه؟
الزاوية البودشيشية، التي احتفظت دائمًا بمكانة خاصة في قلوب المغاربة، لم تُعرف قط بمقاضاة من انتقدها، ولا بالدخول في معارك دنيوية لحماية سمعتها، بل اشتهرت بالعفو والتسامح والحوار. وما يحدث اليوم من جرّ الصحفيين إلى ردهات المحاكم يشكل سابقة تُسيء لتاريخها، وتُضعف مكانتها الرمزية.
إن أكبر إساءة للزاوية لا تأتي من خصومها، بل من داخلها، حين تتحوّل إلى طرف في معركة ضدّ الكلمة الحرة، وتُضيّع مقامها الروحي لتغوص في صراعات دنيوية لا تليق بها. فهل من الصدق أن يُلاحق الصحفي لأنه طرح سؤالاً مشروعًا؟ وهل من الأمانة أن يُتهم لأنه حمل همّ الحقيقة وعرّى المستور؟!
لقد آثرت المؤسسة الصحفية، رغم ما تملكه من وثائق ومعطيات، أن تتحلّى بالرصانة وألا تُنشر كل ما تعرف، احترامًا لمقام الزاوية، وحرصًا على الوحدة، لكنها حين تُقابل بالصمت والإدانة، وتُتّهم في شرفها المهني، فلا خيار سوى الدفاع عن النفس والمهنة والحقيقة.
فنحن لا نبرّر المسّ بأحد دون بيّنة، لكننا نرفض أن يتحوّل الصحفي إلى متّهم لأنه نقل شهادة، أو طرح سؤالًا، أو دافع عن حق الناس في المعلومة. فالحقيقة، كالماء، مهما حاولوا حبسها… لا بد أن تتسرّب.
تعليقات الزوار ( 0 )