شارك المقال
  • تم النسخ

حول سيرورة انفصال واستقلال المعرفة

شرط التقدم هو الشعور بالاستقلال، سواء على صعيد الأفراد أو المجتمعات. والتاريخ يأخذ معناه من حركته نحو الاستقلال والانفصال، ولعلّ التحولات والتغيرات الكبرى التي يمكن فهمها هي من هذا القبيل، الذي يحَقِّق التقدم والتطور، وصرنا نطلق عليها الحضارة والمدنية والعالم.

واليوم، على ما ننظر ونشاهد، بل على ما نحيا ونعيش، تحوّلنا إلى وحدة حضارية عالمية، حيث تتداخل الوحدات البشرية كافة، ليس كثقافة واحدة، بل كتنوع وتعدد يمكن إدراكها منفصلة ومستقلة عن بعضها بعضا، أي معرفتها كثقافة لها أصل ولها أصحابها وانتماؤها. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أننا نعاصر ونجايل سيرورة الانفصال والاستقلال كحقيقة واقعة يشهد على إدراكها الجميع على أنها هي التي تحقق التقدم الإنساني في كل ربوع العالم.

لم يعد التاريخ المعاصر، كما يبدو على الأقل للمؤرخين وأهل الفكر، تاريخا لوقائع وأحداث ومعارف تحدث في الزمن الحاضر، بل هو التاريخ كله بمدلوله الشامل الذي يعني مجمل التاريخ، ويعني كذلك تاريخ الإنسانية جميعها منذ القدم، لأننا أصبحنا نعرف التاريخ عبر مقاربة الانفصال والاستقلال بالحديث عن الحقائق، بما هي كذلك قائمة بذاتها لها خصائصها وملامحها بالقدر الذي تصير مستقلة تُعرف بما تنطوي عليه من هوية. الجامعات في كل بقاع العالم اليوم وبالأمس، تسعى دائما إلى مزيد من المعارف والعلوم، زيادة لا تغفل عن تحقيق الانفصال والاستقلال الذي يؤكد المعرفة والعلم عبر آلية التطبيق والتجريب أو التنظير والتأصيل. والشاهد القوي على ذلك هو المعاهد والكليات والمدارس التي تؤكد التخصص وتضبط حدود مجالاته الجديدة أو الحديثة وحتى المعارف القديمة وترسم معالمه. ولتوكيد ذلك ، يمكن أن نقدم نسق التصنيف الذي يقسم المعرفة الإنسانية إلى عشرة أقسام، على ما ضبط ذلك نظام ديوي العشريDewey أو نظام العشري العالميCDU الذي تأخذ به المكتبات الكبرى في العالم. ونظام التقسيم أو الفصل والاستقلال، هو الذي يحدد التخصص الجديد ويعطيه تعريفه الخاص به، ويظهره في الوقت ذاته في علاقته بالتخصصات الأخرى، فهو علم في علاقة مع علوم أخرى، ولو كان نوعا من التواصل، مع حالة أو وضعية الانفصال والاستقلال. ومن هنا يظهر الحقل المعرفي الجديد بعدما اكتشفته المؤسسة الجامعية، لينظم إلى معارف أخرى موجودة ضمن نظام العشري الدولي، لأن هذا النظام، أو النسق قائم على احتمالية التطور التاريخي للفرد والعلم والمجتمع والأمة والعالم.

الصورة التي يقدمها الفهرس العام للنظام الدولي العشري، هو تاريخ الإنسانية في مجمله وفي تفاصيله، بما يوفره من أرقام وإحالات ورموز ولغة توثيقية، تأخذ بآخر ما تطورت إليه العلوم، وكذلك نمط التصنيف الذي يؤكد دائما على نظرية الانفصال والاستقلال. فقد بات مؤكدا لنا، أننا نمتلك نظاما معرفيا قائما على كل العلوم وكل المعارف وكل التخصصات، مع إمكانية توسيعها، لأن الرقم المناسب للمجالات العلمية الجديدة موجود في النظام العشري العالمي، ومحفوظ فيه. أجل، فقد أدركنا اللحظة العالمية والدولية والإنسانية عبر مقاربة الانفصال والاستقلال، بالقدر الذي نحن فيه نملك الشاهد القوي على ذلك وهو التصنيف العشري العالمي كنوع من الكتاب المحفوظ، الذي لا يغادر كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها، ولو نوعا من الإحصاء، ولأنه قائم على ما سيقع لاحقا، وتلك هي خاصية التاريخ المعاصر، الذي لا يترك الزمن يمضي ولا «الماضي» أن يبقى ماضيا. فكل المجالات المعرفية وكل التخصصات العلمية والحقول الأكاديمية، بما هي قائمة، وبما هي مشاريع سوف تنجز لاحقا محفوظة، ولها مكانة في النظام العشري العالمي، على ما يوفره هذا النظام من إمكانية تجزئة الرقم إلى عشرة أرقام، تأتي ما بعد الفاصلة لكي نحصل على رقم عشري، قابل للتقسيم بدوره وهكذا دواليك. فالرقم تسعة الذي يشير إلى التاريخ يمكن أن نستل منه أرقاما عشرية إلى ما لا نهاية، لتغطي حقول التاريخ كافة، بما هو حقل قائم بذاته وبما له صلة مع تاريخه الغابر والمقبل، وبما يبطن من إمكانية العلاقة بينه وبين العلوم أو الحقول أو الفضاءات الأخرى.

الواقع، لسنا هنا في موضع تأكيد قيمة وأهمية النظام الرقمي في حياتنا العلمية والعملية، بقدر ما نحن بصدد محاولة الوقوف على حقيقة النسق، أو المنظومة التي تقدم أكثر من شاهد على عالمية حياتنا المعاصرة التي جاءت على خلفية مقاربة أو نظرية الانفصال والاستقلال، التي أخذت بها شعوب ومجتمعات وأمم العالم كافة في تاريخها الذي كنّا نطلق عليه تاريخها الخاص، لكن بعد استقرار كل هذا التاريخ في الفهرس العام للنظام المعرفي العالمي، توقف الخاص ليبدأ العام أو الشامل، أو المجمل، أي أن التاريخ هو مجمل ما صنعه البشر بناء على ما جاء أو سيأتي في النظام العشري العالمي. التراكم المعرفي والعلمي المهُول الذي ترسَّب في المكتبات ومراكز التوثيق والمعلومات في كل بلاد الدنيا، يقدم شاهداً قويا على سيرورة تاريخ البشر في ملاحقة المعارف ومحاولة الإحاطة الدائمة ليس فقط على صعيد الاطلاع عليها، بل خاصة توفير السبل إلى الحصول عليها وكيفيات ذلك والوقوف عندها والتمعن في احتمالاتها المستقبلية. وهذا ما يمكن أن يعطينا ولو صورة يقينية عن فكرة «اللوح المحفوظ» على ما جاء في القرآن الكريم الذي يتحدث بلغة المطلق، في حين في لغة البشر النسبية يمكن مقارنته باللوح الإلكتروني، الذي حفظ كل المعارف الإنسانية والطبيعية ويتوق ويتطلّع إلى ما بعد الطبيعة.

والحقيقة، قبل ما نختتم هذا المقال، جدير بنا أن نورد ما هو عليه الوضع الجديد الذي لا يحفل به الكثير من سكان الأرض في زمننا المعاصر، وهو أن الزمن المعاصر لحظة يجب أن يتقاسمها الجميع ولفائدة الجميع، لأن الجميع بصورة أو في أخرى يعرف ويدرك ويفهم ويتفاعل مع كل اللحظة التي توفرها العولمة اليوم، لأن المعلومة متاحة، يمكن الحصول عليها، وهذا نوع من التمكن من المعلومة والمعرفة المشتركة للبشرية كافة.. والذي ينقصنا في الوقت الراهن، هو معرفة السرائر والنوايا والضمائر، وما خفي على النفوس والعقول التي نجدها في اللوح المحفوظ. ولعلنا ، لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الحروب والثورات والصراعات متأتية في واقع الأمر من أن الإنسان يسعى عبثا لمعرفة ما استقر في نفوس البشر، وأنه عبثا ما يحاول أن يؤول ويفسر، وكثيرا ما يقع في خطأ في التقدير وفي الحساب.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي