شارك المقال
  • تم النسخ

حوار بين جيلين… وصراع بين عصرين

فتحت حوارا  حامي الوطيس  مع ابنائي حول رأيي في عصرهم وجيلهم فأجابوني بلسان واحد انني سكة قديمة ،من مسكوكات العهد البائد وأنني أنفخ في الرماد بدون امل في إشعال قبس من نار ، وأنني مجرد حالم بعالم رومانسي يحن الى نوسطالجيا الطفولة والشباب والكلاسيكيات  العتيقة غناء وفنا وسينما وثقافة وفكرا، انهم يستمتعون الآن بالماتريكس ،والرجل العنكبوت سبيدرمان والرجل الوطواط باتمان ، ومغني الراب سنوب دوج ،وجاي زي ، و ديدي وبريتني سبيرز ،وكاتي بيري، …. وقالوا لي ماذا نفعل بمفكريك القدامى وماذا سيفيدنا المنفلوطي أو البلوطي او العرباوي أو النفزاوي ، إن اسماءك اسماء الموتى المدفونين في القبور …. آه يا أبانا العزيز لقد ضيعت في الأهواء عمرك ، فتذكرت آسفا حزنا اغنية محمد عبد الوهاب ، أنا من ضيع في الأهواء عمره ، فتأففوا  وردوا  علي مسرعين لا تذكرنا بمغني النوم العميق ، اه يا أبانا  ما لك لا تامنا على اموالك إننا لك من الناصحين ،  لقد بددت ثروتك في كومة من الكتب والاوراق  التي لن تنفعنا في شيء ، حتى إننا لا نعرف أثمنتها ولن نجد لها بعدك من يشتريها ، كان بالإمكان أن تشتري بكل هذه الرفوف من كتب الفلاسفة المجانين وكتب التراث التي علاها الغبار ، وكتب التاريخ والأدب القديم ، وفقه الوضوء والصيام  والغسل وكيفية النوم ، كان بامكانك يا آبانا ، أن تشتري لنا بها فيلا على شاطئ البحر ، أو أن تشتري لنا بها هواتف ذكية من نوع الايفون آخر الصيحات ، أو نلبس بها ملابس من احسن الموديلات ، أو نسافر بها. ، الى تركيا او اسبانيا شتاءا وصيفا ، لقد دفنت نفسك وأصبحت تعيش عالما مغلقا  في الماضي البعيد ولعلك ستموت مثل الجاحظ حين سقطت عليه اكوام الكتب فتختنق ونصبح أيتاما في مأدبة اللئام ، أننا نعيش يا أبتاه العزيز ،عالما افتراضيا سريعا بسرعة الضوء ،عالم الميديا والميتافيرس ، حيث تستطيع أن تشتري دارا افتراضية  في لاس فيجاس أو فلوريدا   وانت في المغرب ، أو أن تشتري  لوحة بيكاسوا   وتمتلك نسخة وهمية منها ويمكن ان تبيعها أيضا  ملايين الدولارات  ويمكن  ان تستمع  بغناء ام كلثوم  وفق تقنية الهيليوم على مسرح الأولمبيا وكأنها حية امامك تمشي وتغني  ، هناك  تستطيع ان تعيش عوالم متعددة أو أن تسافر الى زمنك الماضي بدون ان تستطيع تغييره ،الا بالمحو والنسيان ، كما قال صديقك الفيلسوف  الكبير هاشمي أو أن تسافر الى زمننا الآتي ، ماذا تريدنا ان نفعل بعقادك ،او شوبنهاورك المتشائم. أو نتشه ك المهووس بالقوة ، وكيف تريدنا أن نستمتع بفيروزك وقد أصبحت عجوزا من الغابرين ، أو ببتهوفنك الأصم أو بموزارتك الطفل المراهق الرومانسي ،او بتشايكوفسيكك الروسي ويخسرو بجعه او جماله النائم الحالم  وكسارة بندقه أو نقابة خشبه أو فيفالديك الايطالي وفصوله الأربعة .

 أننا نعيش عالم السرعة لا نستطيع ان نقرا رواية أو حتى قصة قصيرة ، لأن الوقت لا يسعفنا ، فالقراءة ترهق أعيننا الصغيرة ،المرهقة المتعبة بضوء وشعاع الهواتف الذكية ،حيث نستطيع ان نتجول العالم في دقائق ، لقد اصبحنا نعرف كل شيء نعرف كل ما لم تستطع معرفته انت في عمرك الطويل ، دون ان نحفظ شيئا ، أو نستظهر قصيدة ، يكفينا السور القصار في القرآن ، فنحن ينتابنا التعب في حفظ  السور الطويلة ، كان بأمكانك ان تكون افظل لو استمتعت معنا بالحياة ، كان بإمكانك أن تركب افخم السيارات   كان بإمكانك أن تعيش الحياة  الواقعية حيث الثلج والجبال والرجال والبحر والحشرات ، هيا اركب معنا سفينة السعادة والمحبة  واللذة ، وكفاك  تجولا بين ردهات المكتبات التي هجرها الجميع ، ولم يبق فيها مهووسا بها الا انت وقلة  من المجاذيب من امثالك ، فتذكرت  حينها قول جبران خليل جبران الذي قال حقا وصدقا :(أبناءكم ليسوا لكم ،أبناءكم ابناء الحياة )  فعلا معكم  كثير من الحق يا ابنائي،  لم تكن اذواقنا ونحن شباب هي أذواق ابائنا، والتي كنا نعتبرها حينذاك أذواقا بالية ، لكنني استفقت من سباتي ودهشتي وانا الذي كنت أربيهم كي يكونوا  مثلي واعدهم كي يكونوا من طينتي وثقافتي ، وقلت لهم ان  جيلكم، جيل الضياع والتفاهة ، والاكل على الماشي الهامبورغ، بدون حب ، أو هدوء وطمأنينة ، ولكن  لا عليكم ، عيشوا عصركم  كما تريدون ولكن  عيشوه بصدق وعشق ،وبجمال وليس بقبح  عيشوه باخلاق وليس بفحش، يمكن ان تكونوا علميين ومع ذلك تتذوقون الادب ، فكثير من علماء الفيزياء والأحياء والبيولوجيين كانوا أدباء  ومفكرين وكتاب وموسيقيين ، وشعراء

كونوا اصلاء اقحاح ، شفافين ولا تكونوا. تافهين ، بسطاء ، بدون رؤية معرفية وثقافة راقية ، كونوا كما تريدون وما يوافق عصركم ، ولكن لا تنتموا الى عالم الضحالة،

 اما انا فاتركوني  مع عالمي انا حر كذلك في ان  اقبع، في ماضي الجميل ، انا حر  في  احيا. مع اصدقائي الموتى ، من سقراط وافلاطون وارسطو   وابن تيمية وابن القيم الجوزية ،والمزي  والسخاوي والعيني  وابن إياس وبدائع  زهوره ووقائع دهوره وابن حجر وفتح باريه وابن عربي وفتوحاته المكية وفصوص حكمه والسهروردي المقتول وهياكل نوره، والسهروردي وعوارف معارفه  وابن مسرة والمعري  ولزومياته وسقط زنده، ورسالة غفرانه وابي تمام  وحماسته والطبري  وتفسيره وتاريخ اممه وملوكه  وابن خلدون ،ومقدمته وعبد الرحمان بدوي وزمانه الوجودي وموسوعاته  ،  والمجاطي والحبابي ،وشخصانيته ، اتركوني مع قيس ابن الملوح مجنونا يليلاه  الذي قال

   أغرك منـي أن حبـك قاتلـي// وأنـك مهمـا تأمـري القلـب يفعـل أجارتنا إنّ الخطوب تنوب// واني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنّا غريبان هاهنا //وكل غريب للغريب نسيب

 فأن تصلينا فالقرابة بيننا //وإن تصرمينا فالغريب غريب

 اجارتنا مافات ليس يؤؤب// وماهو آت في الزّمان قريب

 وليس غريباً من تناءت دياره// ولكن من وارى التّراب غريب

اتركوني مع  عنترة بن شدّاد  وهو ينشد شعرا عن عبلة

لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم// ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا ً

عتبتُ صروفَ دهري فيكِ حتى// فَني وأَْبيكِ عُمْري في العِتابِ وَلاقيْتُ العِدى وحفِظتُ قوْماً// أضاعُوني وَلمْ يَرْعَوا جَنابي

وقوله ؛

ولقد ذكرْتُكِ والرِّماحُ نواهلٌ مني// وبيْضُ الهِنْدِ تقْطرُ منْ دمي فوددتُ تقبيل السيوفِ لأنها // لمعت كبارق ثغركِ المتبسِّم

 اتركوني مع جميل بثينة مغرما وقد سئل ماذا يعجبك في بثينة فقال إني اراها بعين لا تملكونها ولا تستطيع رؤيتها في حالة التجلي والصفاء ،

أبلغ بثينـة أني لست ناسيهـا// ما عشت حتى تجيب النّفس داعيها بانت فلا القلب يسلو من تذكّرها// يوما ولا نحن في أمـر نلاقيهـا أعد الليالي ليلة بعد ليلة أعدّ الليال/ ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا

 ألم تعلمي يا عذبـة المـاء أنني أظلّ// إذا لم أُسقَ مـاءك صاديا وودت على حبّي الحيـاة لو أنّها// يزاد لها في عمرها من حياتيا

 فما زادني الواشـون إلا صبابـة //ولا زادني النّاهون إلا تماديـا وقالـوا بـه داء عيـاء أصابـه// وقد علمت نفسي مكان دوائيا

 هي السّحـر إلا أنّ للسّحـر رقية //وإنّي لا ألفي لها الدّهـر راقيا

أحبّ من الأسماء ما وافق اسمها// وأشبهه أو كان منـه مدانيـا

وابن الفارض وتائياته وخمرياته  وما أجمله حين قال:

 ما بين شوقي واشتياقي فنيت .

وقوله سقاني جميل الحب راحة مقلتي // وكلشي محيا من عن الحسن جلت .

وقوله وما أحلى ما قال

فطوفان نوح عند نوحي كادمعي //وإيقاد نيران الخليل كلوعتي

ولولا زغيري اغرقتني ادمعي // ولولا دموعي احرقتني زفرتي

وحزني ما يعقوب بث الله //وكل بلى أيوب بعض بليتي،

 اتركوني مع جلال الدين الرومي والذي ضوخ كل اهل الاديان والذي قال لي رجلان رجل ثالثة في ارض الحقيقة والشريعة ، ورجل أخرى تدور وتطوف وتسع كل الملل والعقائد والأديان

ومن اجمل حكمه وعيون اقواله

الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه فلا ثمة انفصال أبداً.

الحب الذي لا يهتم إلا بالجمال الجسدي ليس حباً حقيقياً.

النار ليس لها دخان عندما تصبح لهبا.

مهمتك هي عدم السعي وراء الحب، بل أن تسعى وتجد كل الحواجز التي كنت قد بنيت بينك وبينه.

 وترى الكريم لمن يعاشر منصفا.. وترى اللئيم مجانب الإنصاف. استمع إلى صوت الناي كيف يبث آلام الحنين

و يقول: مُذ قُطعت من الغاب وأنا أحنُ إلى أصلي.

القلب جوهر، والقول عرَض، القول زائل والقلب هو الغرض.

 النفس من كثرة المديح تتحول إلى فرعون.

إن الأشياء الخفية تجعلها أضدادها مرئية.

 أنا أشبه أنا واحِدُنا يُشبِهُ الآخر. أيهما أصدق في الطاعة؟

من أطاع الملك في الغيب أم من أطاعه في الحضور؟.

 بدون الإيمان بالغيب تغلق على نفسك كوة الدار. بغير هذا الحُب،

 اتركوني مع صدر المتالهين،الشيرازي واسفاره الأربعة وحكمته المتعالية  وابن باجة وابن مسكويه والمحاسبي وابراهيم ابن ادهم وذي النون المصري. والنفري  ومواقفه ومخطباته ومن احسن موافقه قوله :

 كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة .

و قـال لى من عـبدنى و هو يريد وجـهى دام ، ومن عـبدنى من أجـل خـوفى فَـتَـر ، ومن عـبدنى من أجـل رغـبته انقطـع

 اتركوني مع الغزالي واحيائه ومنقذه من الضلال  وابن رشد وتهافته  وحجة الله البالغة الدهلوي والشاعر الباكستاني إقبال،  اتركوني مع هؤلاء فإنهم احبائي ، سأواصل الاعتناء بكم  وحمايتكم من غدر الايام والازمان وساعمل كالبغل من  اجلكم، لأنني احبكم واتمنى أن تكونوا احسن مني وافظل وان لا تتورطوا في كل هذا العشق الذي تورطت فيه ، اتركوا لي روحي تسبح في فضاءاتها  المحبوبة  وعشقها الابدي السرمدي الأزلي ،أنا علم  أن  إنفاقي  السفيه في شراء الكتب يسبب لكم ضررا قليلا حتما   ولكن اصبروا  قليلا مع مرض ابيكم  وولعه، وولهه ،مقابل ان يستمر  وجودي بينكم ومعكم  ما شاء الله لي الحياة ، فلا تحاسبوني  عن هوى  احبه ، انني كالسمكة في الماء أن اخرجتونها منه ماتت ، ولن  اجبركم  عل الدخول الى عالمي  أو السباحة في بحري  والخوض معي في تجربتي وقد قال أبي يزيد البسطامي بحرنا هذا لا شطآن له ، ولو علم السلاطين ما نحن فيه من لذة وسعادة لحاربوننا عليه بالسيوف ، دامت لكم الأفراح والمسرات ، فاختلافنا لا يفسد للود قضية وأنني مؤمن بقول سيدنا علي كرم الله وجهه :)خلقوا اولادكم باخلاقي غير. اخلاق زمانكم ). هكذا كانت نهاية الحوار  الصعب الشاق بين رؤيتين وجيلين

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي