Share
  • Link copied

حنفي: أنا من أحفاد الأفغاني الذي وجد الأمة محاصرة بالاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي

انفردت جريدة الزمن المغربية، التي توقفت عن الصدور، بهذا الحوار مع الراحل حسن حنفي، ونشرته يوم الجمعة 25 شتنبر 1997، أي قبل ما يقارب 34 سنة. وبمناسبة رحيله إلى دار البقاء، تعيد جريدة بناصا نشر هذا الحوار، والذي أجراه الدكتور حميد لشهب، الباحث الأكاديمي المغربي المقيم النامسا، وذلك لاستحضار روح مفكر عربي فذ، على رحم الثقافة والفكر العربيين انتظار مدة طويلة ليجود بشخصية مثله.

لا جدال في كون المفكر العربي د. حسن حنفي من أبرز المفكرين العرب المعاصرين، اذا لم يكن أبرزهم على الاطلاق، نظرا لكون أطروحاته وجدت التربة الصالحة بين شباب الجامعات العربية في زمان نحن في حاجة اليه الى الفقيه الذين يوقظنا و نحن نيام نحلم بالدمقراطية والعدل و االمساواة، ليحدثنا عن هذه الأشياء جميعا و يذكي حماسنا للمضي قدما من أجل المطالبة بها وتحقيقها. وليس من طينة أولائك الفقهاء الذين اذا ما وجدونا نتحدث عن الديمقراطية والعدل والمساواة، يأمروننا بالنوم الثقيل، وبالحمدلة، وقراءة الأسماء الحسنى لاجلاء الشيطان قبل أن ننام لنتمتع بحلم كريم نحلم بالخبز ونحن جياع، بالحرية ونحن مستبدين ومستعمرين ومقهورين، بالمساوات ونحن في الحضيض الأسفل.

حنفي هو الظاهرة الفكرية العربية على مستوى عالمي. هو المفكر الذي اختار عن طواعية أصعب طريق  أعقده للدفاع عن مقوماتنا و ثقافتنا في زمان الأخطبوط الثقافي الغربي الامبريالي الذي قد يكون قد أتى على كل خضراء ويابسة في ثقافات أخرى، والذي يهدد باستمرار ثقافتنا العربية بالابتلاع بكل الطرق وبكل الوسائل المشروعة  وغير المشروعة. فالعم سام قد أصبح يحدثنا عن الصيام، وماك دونالدس استقر في مدننا مهددا بيصارتنا وقديدنا وفولنا المدمس، ونحن نتسابق كالأطفال على “همبرغراته” وقننينات “كوكاكولاته” متناسين أن الاستعمار الجديد يمر بالبطن أحيانا.

لقد كان بامكان حنفي أن يبقى في باريس في الستينات من هذا القرن بعد انهاء دراسته الجامعية. وقد كان بامكانه أن يشغل كرسي جامعي في السوربون أو أكسفورد. لكنه كان قد فضل العودة بين بني قومه لأنه كان يحمل رسالة. وقد كان بامكانه أيضا أن يركن الى الهدوء، ويعلن هدنة مع السلطات، ويعمل موظفا حكوميا كأغلبية مثقفينا، عوض اختيار هذه المهنة العظيمة كفقيه للشعب الذي لا يفتي في “الحيض و النفاس” ولا في “الحلال والحرام” بل في الأرض، والحرية، والمساواة الخ.

حنفي المغربي الأصل، اسمه الكامل: حسن حنفي أحمد حسني المغربي و الذي شيد منزله بمصر على الطراز المغربي، يحمل في قلبه المغرب الأقصى، ويكن لأناسه كل الحب، ويقدر في علمائه اجتهادهم ومساهمتهم في بناء غد عربي أفضل. لكن هناك مغربي آخر ممن تربطه بحنفي علاقة خاصة، ألا وهو الطالب و الطالبة. فعلى الرغم من قصر المدة التي قضاها بجامعة فاس، سنتين، فانه كان الأستاذ العربي الوحيد الذي وجد الوتر الصحيح الذي عزف عليه صونفونيات ما يحب الطالب المغربي العنيد سماعه. لقد كان هناك تبادل حقيقي بين حنفي والطلبة، كان يتجاوز مدرج الجامعة لينتهي في الشارع. ولم يكن لحنفي معجبين فقط، بل كان هناك نقاد، أدهشهم برحابة صدره، وقبوله لمقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان.

الأستاذ حنفي، أو الفيلسوف الظاهرة في العالم العربي، الذي ما خاف من فقر و لا بطش و لا سجن في الدفاع عن أطروحاته الفكرية. حنفي الذي ربى الآف الطلبة العرب، و الذي لم تقف السنون زحف أفكاره، يحمل حقيبته مرة أخرى لعرض أفكاره في سويسرا و النمسا. ماذا بقي لكم قوله للغرب؟

أنا لست ظاهرة بل أنا من أحفاد الأفغاني الذي وجد الأمة محاصرة من الخارج بالاستعمار، و محاصرة من الداخل بالاستبداد؛ و هو نفسه من أحفاد علي بن أبي طالب و أبي ذر و كل فقهاء المسلمين القدماء الذين انتهوا الى السجن و التعذيب، فقهاء الشعب و المصالح العامة، و ليس فقهاء الحيض و النفاس. أنا بن جيل الهزائم المتلاحقة 1948 في فلسطين و عدوان 1956 ثم 1967 ثم عصر اسرائيل الكبرى بالرغم من أنني أنتسب كذلك الى جيل التحرر من الاستعمار و حرب أكتوبر 1972 و لكن جرح الهزيمة لم يندمل بعد.

أجوب العالم شرقا و غربا بالاضافة الى العالم العربي بعدما نشرت كتاباتي و وجد فيها الشرق و الغرب تعبيرا عن فكر جديد و رؤية جديدة لمسار العالم بالرغم من سيطرة فوكوياما و أخرين بفضل أجهزة الاعلام الغربية لترويجها لها ، و نحن نقع في فخ الشرح و التعليق و نؤجل ابداعنا المستقل و رؤيتنا الخاصة.

لا توجد رسالة خاصة للغرب الا علم الاستغراب، تحويله من كونه مصدرا للعلم كي يصبح موضوعا للعلم، و أنه يعلم الغرب أنه أيضا مدروس و ليس دارسا، موضوع و ليس ذاتا، ملاحظ و ليس دائما ملاحظا حتى تتحقق المساوات التاريخية بيننا و بين الغرب. فقد لعب كل منا دوره مرتين: الأستاذ في عصرنا الذهبي عندما ترجم الغرب عنا في عصره الوسيط، و التلميذ عندما ترجمنا عنه في عصوره الحديثة. و هو أيضا التلميذ عندما ترجم منا في عصرنا الذهبي، و الأستاذ عندما ترجمنا نحن عنه في عصوره الحديثة.

فالاسلام ليس عدوا بديلا عن الشيوعية بعد سقوطها في 1991 بل أعطى الغرب، و كان وراء عصر النهضة الغربي في القرن السادس عشر، فالتنوير ليس قاصرا عليه، و قيم العلم و العقل و الانسان موجودة في كل حضارة، الصين و الهند و بابل و أشور و فارس و مصر القديمة. يكفي التحرر من الأفكار الشائعة في الاعلام الغربي و ربطه الاسلام بالعنف و التخلف و العدوان. فالعالم يتغير ، و مسار التاريخ يتبدل. و لربما تنغلق الآن العصور الحديثة الغربية و تفتح عصورا حديثة لآسيا و العالم الاسلامي. فنحن و الغرب الآن على مفترق الطرق.

ليست لنا قنبلات ذرية لكن لنا قنبلات فكرية. و القنبلة الفكرية الحنفية هي واحدة منها. و هي قنبلة لأنها تمد باضاءاتها (أو اشعاعاتها) الى الشوارع الخلفية لمدننا القديمة و لأحياء صفيح مدننا حيث يحتدم ايقاع الجماهير الواعية بهراوة الاستبداد الغليضة. هل تستطيع العصى اصلاح ما أفسده ساستنا؟

ليست لنا قنابل ذرية و لكن كانت لدينا ثورة فكرية منذ نشأة الاسلام و عبر عصره الذهبي الأول الذي بلغ ذروته في القرن الرابع الهجري عصر البيروني و ابن سينا و التوحيدي قبل أن يقضي الغزالي عليها. ثم أصبح لنا منذ فجر النهضة العربية الحديثة في القرن الماضي تنويرا فكريا اسوة بالتنوير الغربي في القرن الثامن عشر حتى الأفغاني الثائر الذي تصور الاسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج و القهر في الداخل، لأن نموذج الدولة البديلة لديه هي الملكية المقيدة و الدستور و التعددية الحزبية و النظام البرلماني.

لذلك أحاول العودة الى الثورة الثقافية الأولى الأكثر جدرية التي قام بها الاسلام في بدايته، اعمال العقل و اعادة بناء العقائد. فلم نعد في عصر الفتنة الكبرى أيام عثمان و علي و حسين و يزيد بل في فتنة أكبر، ضياع الأرض و تهويد القدس و النيل من الحريات العامة للمواطنين، و الفقر، و التجزئة، و التبعية، و التغريب، و اللامبالات مما يقتضي اعادة بناء العلوم القديمة كلها، مثل علم الكلام و ابراز قيم الأرض و الحرية و الوحدة و الاستقلال و الرسالة في العقيدة، و التعامل مع الثقافات الحالية في الفلسفة بعد أن انقضى عصر الفلسفة اليونانية، و ابراز مقامات الثورة و الغضب و التحرر و الاحتجاج و الرفض في التصوف بدلا من مقامات الزهد و التوكل و الورع و الرضا التي كانت تكون عناصر الثورة السلبية القديمة نظرا لاستثناء أئمة آل البيت ثم استحالة الخروج على الحاكم الظالم، و التحول من الفقه الى أولوية المعاملات على العبادات، فالعبادات نعرفها و المعاملات لا نحسنها.

والثورة الثقافية الآن معركة طويلة الأمد تأخذ بعين الاعتبار ألف عام من أحادية الطرف و سيادة ثقافة السلطة على ثقافات المعارضة. كما تحي من جديد عصر النهضة منذ القرن الماضي بعد أن كنا جيلا وراء جيل، من الأفغاني الى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية في 1882، و من محمد عبد الى رشيد رضا بسبب ثورة كمال أتاتورك، ثم من رشيد رضا الى حسن البنا الى سيد قطب بسبب تعذيب الاخوان في 1954.

و مهمة المفكر الثوري أن يخرج عن نخبويته و تستره و راء العلم و الثقافة و الا يترك الجماهير لفقهاء السلطان و فقهاء الحيض و النفاس. أن يصبح مفكرا عضويا ملتحما بمصالح الناس و معاناتهم، كما كان يعمل فقهاء المسلمين قديما. فالعلماء ورثة الأنبياء و خلفاء الرسل، و ليس فقيه السلطان و مثقف السلطة، و لا هو المثقف البورجوازي الانتهازي، و فقيه الفتاوي.

قبيل حرب الخليج الثانية غنت ادارة بوش أغنية جديدة لم يتكاسل حكامنا “الأوفياء” انشادها في جلساتهم العلنية. و قد كانت أغنية بلا مضمون،و بدون كلمات حتى؛ و يتعلق الأمر بمقولة “النظام العالمي الجديد”. كيف تحللون هذه المقولة؟

نظام العالم الجديد ليس ابن اليوم  و لكن بدأ منذ خمسة قرون عندما سقط الحكم الاسلامي في الأندلس و سقوط غرناطة عام 1492 و اكتشاف ما يسمى بالعالم الجديد و كأنه لم يكن موجودا قبل. و تصدرت أوروبا العالم و بدأ الالتفاف حول العالم القديم من الرجاء الصالح الى آسيا بعد أن فشلت الحملات الصليبية الى حلب عبر البحر الأبيض المتوسط. و استمر ذلك حتى الاستعمار الأوروبي الحديث و قضاء بريطانيا على امبراطورية المغول في الهند و استلاء الغرب على معظم الدول الاسلامية حتى سقوط الرجل المريض، دولة الخلافة و تجزأتها بين القوى الاستعمارية الجديدة. و ضياع الممالك الاسلامية في أواسط أسيا تحت سيطرة روسيا القيصيرية.

و بعد الحرب العالمية الثانية، و مؤتمر يالطا، تم توزيع العالم على المعسكرين القديمين، الاشتراكي و الرأسمالي، و سمي نظام العالم القديم و كأن ما تم قبل ذلك من صدارة الغرب وريث العالم القديم كان هو العالم.

ولما سقطت النظم الاشتراكية في 1991 سمي نظام العالم الجديد و كأن شيئا جديدا قد حدث على الناس قبوله مع أنه تم الاستيلاء على العالم مرة ثانية و اغتصابه من قطب أوحد فيه هو الولايات المتحدة الأمريكية، و لا تقبل شريكا مثل أوروبا أو مناهضا مثل العالم الاسلامي أو منافسا مثل آسيا.

و بالنسبة لنا العرب و المسلمين نقف موقف المتفرج. التاريخ يصنع لنا و يطلب منا الدخول في مساره و في المكان المحدد لنا سلفا كأسواق و موارد أولية و في مقدمتها الطاقة. و من قاوم خرج عن بيت الطاعة و يكون مصيره التدمير  بعد الطعم (العراق) أو الحصار بعد الاتهام (ليبيا) أو التهديد بالتجزئة (السودان) أو الاتهام بالارهاب (ايران).

فهل يمكن لنا أن نساهم في صنع نظام العالم و تمديد مساره كما فعلنا في عصر التحرر الوطني القريب، و كما فعلنا في عصر الفتوحات القديمة، و كما كنا أثناء العدوان الصليبي؟ ان الاكتفاء بالصراخ و العويل و اتهام الآخرين لهو سلوك الحاضر الضعيف. و بدلا من أن نبقى خارج التاريخ مهمشين فيه فلماذا لا نكون في قلبه صانعين له؟ لنا رصيد من الماضي و تجاربه، و لنا امكانياتنا من الحاضر بشرية و مادية. انما هي الارادة و الاحساس بالرسالة و الثقة بالنفس وعدم الاحساس بالدونية هو ما ينقصنا؟ و الى متى؟

هناك الكثير من المفكرين الغربيين الذين استيقظوا على بشاعة ما يحاك ضدنا نحن العرب و المسلمون. و نلاحظ حركة دائبة لمنظمات غربية غير حكومية ممن تعمل لصالح القضايا العربية. ما هو الفرق بين مثل هذه الحركات و الاستشراق؟

لا يوضع الغرب كله في صندوق واحد، و لا الاستشراق كله في جانب واحد. فالغرب متعدد و متنوع، و كذلك الاستشراق تختلف مدارسه و بواعثه و اتجاهاته.

هناك منظمات غير حكومية في الغرب ناقدة للغرب و رافضة لهيمنته و هي أقرب لنا سواء من القوى التقدمية الاشتراكية أو من اليسار الجديد أو من الليبرالية الجديدة. و يمكن وضعها مع جبهة المستشرقين الغير المعادين للحضارة الاسلامية أو المشوهين لها. و كثير من هؤلاء تعاملون مع الحضارة اللاغريقية بل و يتحدثون معها، و سئموا مما انتهت اليه الحضارة الغربية من ازدواجية و عدمية الخ. بل ان البعض منهم بعد أن يكتشف الاسلام يتبناه و يؤمن به و يصبح من دعاته، مجذوبا اليه لمثاليته و روحانيته و أخلاقياته و جوانبه الاجتماعية و هي التي لم يجدها في عموم الغرب.

هذا الغرب رصيد كبير لنا. المهم ألا نفقده و ألا نعطيه نماذج من فهمنا المتخلف للاسلام أو سلوكنا المناهض له، مثل بعض المسلمين في الغرب المهاجرين اليه و عدم تمثلهم لقيم الاسلام مثل النظافة و الصدق في المعاملات و حسن معاملة النساء. و أن ندخل الى الاسلام من الباب العريض الذي يفهمه الغرب، مثل حقوق الانسان و العدالة الاجتماعية و الحرية و المساواة. كما يجب أن نناضل من أجل الحقوق التي يقيمها الغرب مثل المساواة في الحقوق و الواجبات مع أفراد المجتمع الذي يعيش فيه العرب و المسلمون، مثل التأمين الصحي و الضمان الاجتماعي و حق العمل و التأمين ضد البطالة و ليس فقط حق النقاب.

أما ممارسة العنف في المجتمعات الأوروبية من طرف العرب و المسلمين استئنافا لمعاركنا في الأوطان، و قتل الأبرياء هنا و هناك فهو ضار بالعرب و بالمسلمين و بأصدقائهم، و يشوه صورة الاسلام و يؤكد ما يشاع عنه في أجهزة الاعلام من ارتباطه بالعنف و غياب الديمقراطية و الحرية فيه. و لانحاولنا نفي ذلك لأن الواقع الفعلي و سلوك بعض الجماعات المهاجرة تؤكده. لذلك فان الحوار مع النفس سابق من الحوار مع الآخر، و قبول التعاون فيما بيننا يسبق التعاون مع أصدقائنا في الغرب، و نحن نخفف أحيانا في الحوار مع الغرب لأننا نخفف في الحوار مع أنفسنا، و فاقد الشيىء لا يعطيه.

ترجمتم الكثير من الأعمال لفلاسفة أوروبيين في اطار ما سميتموه بحركة التأثير و التأثر. ما هو دور الترجمة في معرفة الآخر؟

إن ترجمتي عن الفلسفة الأوروبية لم تكن في اطار الأثر و التأثر، و هو المنهج المفضل عند الاستشراق القديم في القرن التاسع عشر و الذي ينكر على الحضارة المدروسة و خاصة الاسلامية ابداعها الخارجي و يجعلها مجرد نقل لحضارات الآخرين خاصة اليونان و تفريغها من مضمونها و حصر دورها على مجرد ناقل، بل و ناقل غير أمين لحضارة اليونان الى حضارة الغرب الحديث.

انما في استعمال أسلوب الترجمة هو أولا نقل ثقافة الغرب الحديث و اعادة بنائها و تمثلها داخل الحضارة الاسلامية لتطويرها، فكما نقل القدماء من الحضارة اليونانية بتجاوز الثنائية الثقافية بين الموروث و الوافد و شق الثقافة الوطنية شقين: قديمة و معاصرة، كما فضل الفلاسفة القدماء التعبير بلغة الجديد عن مضمون القديم، فالله هو العلة الأولى و المحرك الأول و الغاية القصوى و الصورة المحضة كما قال القدماء مستعملين ألفاظ اليونان، و هو المطلق و اللانهائي و الكمال و التاريخ و التقدم و الحرية كما يستعمله المثاليون، و هو الأرض و الخبز كما يقول المحتاجون و المحتلون.

كما أن السبب هو استعمال بعض آليات التخفي، و التعبير عما في النفس بلسان الآخرين حماية للكاتب و تأثيرا في الناس. فاختيار النص و ترجمته تأليف غير مباشر. فاذا كنا نعيش في جو من القهر و الاستبداد فان ترجمة نص يدافع عن الحريات لسبينوزا و نقد كل أشكال القهر مثل  التيوقراطية اليهودية دفاعا عن الحرية كما فعل في “رسالة في اللاهوت و السياسة” و دفاعا عن الديمقراطية التي تقوم على العقد الاجتماعي تقدم خيرا كبيرا. فاذا انزعجت السلطات السياسية كان من السهل القول بأن ناقد الكفر ليس بكافر، و اذا ما كان الجو العام هو القهر الديني و احتقار عقل الانسان  و انكار حرية ارادته و الارهاب بالشعائر و العقائد و المؤسسات فان ترجمة لسنج “تربية الجنس البشري” يساعد على اعلان استقلال العقل و حرية الارادة دفاعا عن دين الفطرة. و اذا كان الناس يتصورون الله شيئا خارج النفس و يقعون في التجسيم و التشبيه فان “نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، أوغوسطين و أنسليم و توماس الأكويني” يهدف الى تأكيد الله داخل النفس كصوت للتغيير و معلم داخلي، و أن العقل يستنبط الايمان ثم ينتهي الى التنزيه. و اذا كنا نشعر بأن الغرب في عصوره الحديثة قد أوشك على النهاية فان ترجمة “تعالي الأنا موجود” لجون بول سارتر تبين نقطة البداية في الكوجيطو الديكارتي، و نقطة النهاية في الأنا موجود عند سارتر. فالترجمة تهدف الى الحديث غير المباشر عن طريق الآخرين.

نعرف الكثير عن العالم الفرنكفوني و العالم الأنجلوساكسوني، و من خلال هذين النموذجين نعمم أحكامنا، و أحكامنا المسبقة على الغرب. و معلوم أن الغرب لا يقتصر فقط على هذين الجناحين، بل أن هناك أجنحة أخرى من أهمها الجناح الجرماني الذي يضم أربعة دول (ألمانيا، النمسا، سويسرا و امارة الليكتنشطاين)، أي أكثر من  100 مليون نسمة. ماهي خاصية الجناح الجرماني في نظركم؟ و كيف يمكن الاستفادة منه على الصعيد الفكري خاصة؟

صحيح أن الذي غلب على العالم العربي الاسلامي هي الثقافة الفرنسية و الانجليزية نظرا لاستعمار فرنسا و أنجلترا معظم أرجاء الوطن العربي، في حين أن ألمانيا لم يكن لها هذا التاريخ الاستعماري معنا. فكانت اللغتان الرئيسيتان الأجنبيتان هما الفرنسية في شمال افريقيا و الشام و الانجليزية في مصر و العراق و شبه الجزيرة العربية. بل ان ألمانيا لم يكن لها تاريخ استعماري طويل و متسع على الاطلاق باستثناء جزء ضئيل من افريقيا و لمدة قصيرة. و مع ذلك انتشرت الثقافة الألمانية في العالم العربي لأنه وجد فيها حاجته و ضالته من أجل التخلص من الاستعمار. و قد وضح هذا عند عبد الرحمان بدوي في تعريفه بالثقافة الألمانية و الأدب الألماني لأنهما مملوءان بالاعتزاز بالروح و النهضة القومية و نزعة مثالية و هو ما يحتاجه العرب في نهضتهم الحديثة. فألف في نيتشه دعوة الارادة و القوة و خلق السوبرمان العربي الجديد، و ألف في شينجلر تعبيرا عن روح الحضارة العربية. و كتب في شبنهاور احساسا بالحياة بالرغم من تشاؤمه الا أن العالم لديه ارادة و امتثال. و ألف في المثالية الألمانية عند كانط و هيجيل و شلنج. و ترجم من الروائع أعمال جوتيه و شيلر و غيرهم من الأدباء الألمان.

ووجد حزب البعث في القومية الألمانية نموذجا يبني عليه القومية العربية، و أصبح فيتسه تقريبا أحد المصلحين العرب. و ازدهرت الرسائل في فلسفة التاريخ عند هردر و كانط و الجمال عند شوبنهاور و هيجل و ماركس و اليسار الهيجيلي. كما ازدهرت الظاهريات عند هوسرل و فلسفة الوجود عند هايدجر و ياسبرز. فالرومانسية و الوجودية و المثالية الألمانية أصبحت أحد المكونات الرئيسية للثقافة العربية.

و الأهم من ذلك هو الألفة العامة بين الروح العربية و الروح الأمانية التي دفعت بدوي لترجمة كتاب شيدر “روح الحضارة العربية” و هي نفسها روح الحضارة الاسلامية. و قد دفع ذلك الى تعاطف العرب مع دول المحور رفضا لاحتلال الحلفاء دول العرب، و التعاون بين العلماء الألمان و العلماء العرب، و حجم الجالية العربية الاسلامية في ألمانيا، و تعاظم دور المسلمين الألمان، و عشق العرب للوحدة الألمانية. فالروح لا تتجلى فقط في اللغة.

من الأسئلة التي لم تطرح على د. حنفي الى الآن هو كيف يرى الى قضية المرأة في العالم العربي، المرأة أولا كزوجة، و كأخت، و كأم، و كابنة، و كزميلة؟

لا يوجد شيىء اسمه قضية المرأة في العالم العربي بمعزل عن قضية الرجل. هناك تأثير الحركة النسائية في الغرب كجزء من قضية التغريب العامة و السؤال عن الدين و العلمانية، و الدين و العلم، و الدين و الفلسفة الى آخر هذه الثنائيات المتعارضة في الثقافة الغربية، و قد لا تكون كذلك في ثقافات أخرى.

و قد يستطيع الغرب أن يطرح هذا السؤال عن المرأة نظرا لأن مجتمعاته قد استقرت من حيث شكل الحكم الديمقراطي و حاجات الناس قد اشبعت من حيث التنمية الاقتصادية، و لم يقع تحت الاحتلال كما وقعنا. و لما سيطرت الفلسفة الفردية كتيار عام على الفكر الغربي، و نظرا لعدم المساوات بين الرجل و المرأة في الوظائف العامة، و المساوات في الأجور، نشأت قضية المرأة في هذا الاطار الفردي و كان الرجل هو العدو.

أما بالنسبة لنا فان الرجل و المرأة كليهما مقهوران، لهما عدو مشترك، و هو القاهر.يصارعان معا باسم الانسان و حقوقه، وباسم المواطن و حقوقه ضد القاهر المشترك: التقاليد القديمة و الحاكم المستبد. ليس الرجل عدو للمرأة و ليست المرأة عدوة للرجل و لكنهما معا، يدا في يد، عدو القاهر المستبد، العدو المشترك لهما: التخلف و التبعية و ضياع الحقوق.

أما ما ينسب الى الشريعة من اتهامات ضد حقوق المرأة و مساواتها بالرجل فانه اتهام للعلماء الذين لم يفهموا روح الاسلام التي تقر بالمساوات بينهما تدريجيا حتى يتغير الواقع دون رد فعل سلبي. كانت الأنثى تدفن حية لأن وجودها عورة، فسواها الاسلام في حق الحياة. لم يكن لها حق الملكية فأعطاها الاسلام الحق. لم يكن لها حق الميراث فأعطاها الاسلام نصف الحق اتجاها نحو المساواة الكاملة اما بالوصية أو تدريجيا حتى يتعود الناس، كما هو الحال في التشريع الشيعي. لم يكن هناك حد أعلى للزوجات فوضع الاسلام حدا أعلى،و و في الحالات الاستثنائية مع المساوات بين الزوجات و هو ما يستحيل. و أعطاها العصمة في يدها. و لم يكن لها حق الشهادة فشاركها الاسلام تدريجيا حتى تكون مساوية للرجل. و جعل لها امامة الصلاة للنساء، و امامة المسلمين عند بعض الفرق. فالعيب فينا لأننا لا نحبد الاجتهاد و نترك القدماء يجتهدون وحدهم، و العصر قد تغير.

في العدد 62 من “الموقف العربي” حاوركم الأخ محمد يوسف، و من بين المسائل المهمة التي تطرقتم لها كان هناك مشكل الوحدة العربية. هل تعتقدون أن الحكام العرب الحاليون يمكنهم التوصل الى حد أدنى من المبادىء الذي يمكن من تأسيس وحدة فعلية، و ليس وحدة كلامية ورقية؟

الوحدة العربية كانت حلما في الستينات و لم تكن واقعا. حاولنا تحويلها الى واقع فعلي عن طريق اتفاق الرؤساء و هياكل المؤسسات اثباتا لمحور صفر محور، و دفاعا عن نظام سياسي دون آخر. و سرعان ما انقرضت و لم تدم معظم المحاولات أكثر من ثلاثة سنوات في الوحدة المصرية السورية 1958-1961. ثم حدث رد الفعل على هذه الوحدة خاصة بعد حرب الخليج الثانية، و اتجه العالم العربي نحو القطرية بعد أن كفر بالوحدة. و كان صلح مصر مع اسرائيل قد قوى هذه النزعة القطرية، كل قطر يقرر سياسته طبقا لمصلحته، فالمصلحة القطرية تأتي قبل المصلحة العربية.

و قد كان هذا الطريق للوحدة عن طريق القمة أو عن طريق الدولة متفقا مع الثقافة العربية الموروثة التي تعطي القمة الأولوية على القاعدة، و المركز على المحيط. و بالرغم من الثورات العربية الأخيرة، و حركات الاستقلال الوطني الا أن الثقافة التقليدية لم تتغير كثيرا. و لما انحسر المد الثوري العربي، و فرطت الدول في استقلالها الوطني ظهرت الثقافة التقليدية و تجند الناس في الجماعات الاسلامية. ليست القضية اذن هي قضية الخطاب، بل الخطاب ضحية الثقافة التقليدية، و الشعوب ضحايا الخطاب لأن الوحدة كانت مطلبا للخطاب دفاعا عن نظمهم السياسية بصرف النظر عن مصلحة الشعوب.

ان الخطر المشترك الذي قد يشعر به العالم العربي من وجود اسرائيل الكبرى و رغبتها في السيطرة على الأسواق العربية و العملة العربية و رأس المال  العربي قد لا يؤدي أيضا الى الوحدة العربية لأن كل نظام عربي يود الهرولة للحاق بالغنم و المكسب القادم ، و لو كان مجتهدا من قبل عن طريق استثمار رؤوس الأموال العربية في الغرب و في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم الحماية لهذه الأنظمة. فالمال فوق الأمة، و أمريكا فوق الحكومة.

انما الذي ينجح في تحقيق الوحدة، لا هي الوحدة السياسية، و لا هي الوحدة الاقتصادية بل هي وحدة وزراء الداخلية العرب الذين يجتمعون دوريا لتبادل المعلومات و لتنسيق الجهود للقضاء على المعارضة الرئيسية في الوطن العربي، اسلامية و غيرها، تحقيقا لأمن الأنظمة القائمة ضد مصالح الشعوب.

ان ما يحدث حاليا من التنسيق بينها الى الحد الأدنى على المطالب العربية بعد مؤتمر القمة الأخير احساسا بالخطر المشترك، و تشكيل لجان التعاون و التنسيق بين مصر و بعض الدول العربية، قد يكون هو الطريق الصحيح و ان لم تتغير ثقافة القمة.

هل لا تعتقدون أن الوحدة العربية يجب أن تكون بدبهية لا يجب حصرها في الزمن و عدد السنوات، بل أنها ستتحقق ميكانيكيا عندما تكتمل الشروط الذاتية و الموضوعية لذلك؟ أليس من الأفضل أن نركز الجهود حاليا على أن يبني كل بلد عربي وحدته الداخلية كتمهيد لوحدة أشمل؟

الوحدة العربية قائمة على مستوى اللغة و الثقافة و الوجدان و النضال المشترك كما يتضح ذلك في حجم الابداع العربي و المؤتمرات العربية، و تكثل العرب المهاجرين في الخارج. كما تظهر في ساعة الحرج و الخطر و الأزمات مثل عدوان 1965 على مصر و تفجير العرب لأنابيب النفط، و عدوان 1967 و وقفة العرب بجانب مصر، لا صلح و لا مفاوضات و لا اعتراف باسرائيل، و نصر أكتوبر 1972 بالحظر البترولي، و اجماع العرب على الحقوق المشروعة لشعب فلسطين.

انما القضية هي كيف يمكن التحول من الوجدان الى الواقع، و من المبدأ الى الوطن دون الارتباط بمصالح الأنظمة العربية أو بالخطر الخارجي عظم أو قل؟ من اسرائيل الكبرى أو من العالم ذي القطب الواحد؟ فاسرائيل الكبرى تريد أن تصبح الوريث الشرعي للقومية العربية، و أمريكا تريد أن تسيطر على الأسواق العربية و مصادر الطاقة و تقضي على مظاهر المقاومة فيه سواء أكانت اسلامية أو قومية. هل يمكن البداية بالمقومات الداخلية تدريجيا كما قامت الوحدة الأوروبية و مازالت ابتداء من السوق الأوروبية المشتركة، و دون النظر أو حتى توقع الوحدة السياسية الشاملة التي تكشف كما هو الحال في العالم العربي عن النزعة في السيطرة من الزعيم الأوحد على باقي الزعماء الصغار؟ ألا يمكن التعلم من تجزئة الوطن العربي ثم القضاء عليها قطرا قطرا بحصار العراق و ليبيا، و تهديد السودان، و الحرب الأهلية في لبنان، و الاقتتال في الجزائر، و عزل مصر؟

ان البداية لتحقيق الوحدة الموضوعية هو فتح الحدود للزيارات دون تأشيرات دخول. فليس من المعقول أن يكون العرب أقل من الأوروبيين الذين حاربوا بعضهم البعض على أكثر من ثلاثة قرون، بين فرنسا و أنجلترا، فرنسا و ألمانيا، النمسا و باقي أوروبا، ألمانيا و باقي العالم. ثم التبادل التجاري الحر فالحسن أخ الحسين. فليس من المعقول أن يكون حجم التبادل العربي العربي أقل من 10 % من تجارة العرب؟ و ما المانع في ربط العالم العربي بشبكة أوسع من الاتصالات السلكية و اللاسلكية و الطرق السريعة و الموانىء و الطائرات، استعدادا للوحدة بعد التمهيد لها بالأبنية التحتية؟

Share
  • Link copied
المقال التالي