إن التفكير في آليات الخروج السريع والآمن من تداعيات الأزمة الإقتصادية لجائحة كورونا قد ولًّد نقاشا سياسيا حول طبيعة الحكومة التي ينبغي أن تباشر هذه المهمة الصعبة والشاقة؛ ما بين مدافع عن الحكومة بصيغتها الحالية وما بين منادٍ بحكومة وطنية أو بحكومة تكنوقراطية. وبقدر ما أن هذا النقاش السياسي مهم جدا من زاوية إثراء النقاش العمومي بخصوص القضايا الأساسية للمجتمع المغربي، بقدر ما يثير نوع من الريبة والشك بخصوص النوايا السياسية الثاوية خلف إثارة مثل هذا النقاش؛ الذي يشكل إنتكاسة حقيقية للمكتسبات التي تم تحقيقها لحد الآن في مسيرة استكمال بناء الذات على أساس قيمة الديمقراطية. ومهما كانت دوافع هذا النقاش فإنه سوف يكون مناسبة للتعبير عن مواقف مختلف الفاعلين السياسيين وتحقيق تواصلهم مع المواطنين والمتتبعين للشأن السياسي ببلادنا بشأن هذا الموضوع، وذلك من خلال بسط المبررات الموضوعية التي ينبني كل إختيار داخل هذا الموضوع كمساهمة جدية في تشجيع مثل هذه النقاشات ببلادنا، والدعوة إلى الإقبال عنها بكل احترام وبدون تردد واستكشاف غاياتها ومراميها بدل التشكيك في نوايا الطارحين بشكل مسبق خارج منطق المحاججة السليمة على ذلك.
خلال تدبير أزمة كورونا إتضح للعيان ضعف بعض القطاعات الحكومية التي كانت غائبة عن الساحة، مقابل الحضور الدائم لقطاعات أخرى أو على الأقل يمكن القول، أن عملية التسويق لمجهود القطاعات الحكومية، أعطى صورة للرأي العام شكلت انطباعا عاما فرق بين القطاعات التي كانت نشيطة مقارنة بالكسل الذي أصاب قطاعات أخرى ومن غريب الصدف، أن الشخصيات التي تميزت بالحيوية ونُسِبت إليها الإجتهادات هي تلك التي تسمى ب “التكنوقراطية” من داخل الحكومة، سواء تلك التي تعبر عن هويتها بشكل واضح أو تلك التي تمت صباغتها بألوان الأحزاب. وهذا الأمر لم يصب في صالح الفاعل السياسي الذي يلج العمل السياسي من باب الأحزاب، بل كرَّس ذلك النزيف المستمر لمصداقية الأحزاب السياسية ولصورتها أمام الرأي العام، خاصة في الشق المتعلق بمدى قدرتها على استقطاب الكفاءات وصناعتها ومسطرة الإقتراح في مناصب المسؤولية. وبذلك تكون أزمة كورونا قد عمقت جراح الفاعل السياسي الحزبي بالرغم من كونها كانت فرصة من أجل وضع قطيعة مع النظرة الدونية التي تقلل من أهميته.
هل يمكن لهذه المبررات وغيرها أن تكون ذريعة من أجل المناداة بحكومة وحدة وطنية أو بحكومة تكنوقراط؟
مما لاشك فيه أن أيِّ ديمقراطي لا يمكن أن يقبل بتجاوز ما تم التنصيص عليه من قوانين منظمة للساحة السياسية والتي تحدد بشكل واضح طريقة تشكيل الحكومة. أما الترويج لعكس ذلك فهو ببساطة يدخل في إطار المناورات التي تحاول الإنقضاض عن السلطة بمبرر أو بدونه، وخارج منطق ما تم تحقيقه من مكتسبات ببلادنا على مستوى أشكال إنتقال السلطة، التي لا يمكن القبول بأيِّ منها خارج المنهجية الديمقراطية، وهذا ما من شأنه أن يعيد بث الحياة من جديد داخل النقاش السياسي حول القضايا الحقيقية بدل الزائفة.
مناسبة هذا النقاش ببلادنا مرتبطة أشد الإرتباط بعملية إعادة إنعاش الإقتصاد، لكن ذلك ينبغي أن يتم وفق إحترام ما تم تحقيقه من منهجية واضحة غير مشبوهة بخصوص التداول على السلطة، كما يجب التوفر على إرادة صادقة هادفة إلى إرفاق عملية إنعاش الإقتصاد بإحداث تحول نوعي في الوعي الوطني بناء على ما تم تحقيقة من إجماع وطني خلال هذه الأزمة، وبالتالي لا يصح أبدا التضحية بالسياسي من أجل الإقتصادي، لأن تكلفة ذلك على الإستقرار السياسي سوف تكون باهضة خاصة من زاوية التشكيك في صدقية ما تم التعاقد بخصوصه. إن الفهم الصحيح للعمل السياسي اليوم لا ينبغي أن يتم خارج وضوح منهجية وطريق الوصول إلى السلطة، والتي لا يمكن أن تكون مقبولة إلا وفق صناديق الإقتراع التي تنظم المنافسة بين الأحزاب السياسية، وفق ما هو متعارف عليه كونيا كمحدد للسلوك الديمقراطي. فالديمقراطية لا ينبغي أن تكون مجرد دعوى أو دعاية خالية من صدقية مضمونها، بل هي التي تجعل من الحكومة معترف لها بقانونيتها وشرعيتها، وهي التي تعطي الحق في المساءلة القانونية لها والقدرة على محاسبتها من طرف المواطنين، وبناء عليه فلا يستقيم الحديث عن الممارسة الديمقراطية خارج صناديق الإقتراع. إن دور الإنتخابات يتجلى في نقيضها فغيابها ينطوي على شيء آخر مخالف للديمقراطية تماما مهما كانت مبررات ذلك. وهذا يدعونا جميعا إلى الحرص عن الكف نهائيا عن مثل هذه الدعوات الرامية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة تكنوقراط أو أي شكل آخر خارج المنهجية المنصوص عليها قانونيا وخارج منطق نتائج صناديق الإقتراع.
لا يمكن أن نختلف بخصوص المساحة الشاسعة والأخذة في التنامي بين الأفراد العاديين والمنتخبين السياسيين الذي يحترفون السياسة، وكذلك كون الأحزاب السياسية لم تعد حاملة لإرادة وتعبير المواطنين مما جعلها غائبة عن القضايا الأساسية لهم، وهو ما يؤشر على انحدار مستوى الثقة فيها وضعف شعبيتها. لكن كل ذلك لا يعتبر بديلا عنها داخل مجتمع المؤسسات؛ السياسة المؤسساتية تمارس بالأحزاب ومن داخل الأحزاب، هذا هو المنطق المتعارف عليه اليوم، ومن يرى في نفسه كفاءة يمكن أن يفيد الوطن عليه الوصول إلى ذلك بطريقة سوية، أي أن ينخرط داخل الأحزاب ويتبث ذلك من داخلها لا أن يبحث عن تكييف ما تم التعاقد بخصوصه والمجازفة بإرث مجتمعي لتلبية رغبته في تحقيق ذلك باسم الكفاءة والمرحلة تقتضي.
من المعلوم أن الإقتصادي يطمئن أكثر في الإشتغال مع التكنوقراطي مقارنة بالسياسي، وذلك راجع للعديد من الأسباب التي تجعل من حجم المسؤولية الملقاة على السياسي أكبر بكثير من ثقلها على التكنوقراطي خاصة في العلاقة بالمواطن، وهذا يجعل من هامش المجازفة بالقرارات التي تصب في صالح جماعة الإقتصاد ضيق أمام السياسي مقارنة بالتكنوقراطي الذي لا يخشى محاسبة المواطن لأنه ليست له علاقة به؛ وهذا يجعل الإقتصادي ميال بطبعه إلى العمل بمعية التكنوقراطي أكثر من السياسي. وبحكم أن الفاعل الإقتصادي يحتاج اليوم إلى السرعة القصوى من أجل استدراك ما تمت خسارته خلال أشهر الكساد التي خلقتها أزمة كورونا، فإنه سوف يكون في حاجة ماسة إلى منفذ صارم للقرار الإقتصادي، لا يخشى من التكلفة السياسية مهما كانت لاشعبية هذه القرارات، فهو يرى أن الأسلوب الرشيد الأوحد لإدارة عجلة الإنتاج هو التعجيل بحكومة تكنوقراطية. فالتكنوقراطي غالبا ما يبني لنفسه سياجا حديديا يعيش من داخله بالعمل على تكييف نفسه معه، أي أنه يكون أكثر التزاما بتنفيذ القرارات كما هي دون حساب تكلفتها السياسية، فهو موجود لكي ينفذ القرار لا لكي يفكر في انعكاسات القرار على الفئات المتضررة منه؛ لذلك فمن أصعب الإختيارات من حيث وقعها على المواطن هي أن تكون إدارة الإقتصاد في يد التكنوقراطي بالكامل. المواطن لا يستطيع محاسبة التكنوقراطي لأن سلطته تنتفي بانتفاء حقه في إختيار الأحزاب التي تقود الحكومة- على علة تلك الأحزاب-.
إن الإستقرار السياسي ينتعش كثيرا لما نحترم قرارات وتوجيهات التمثيلية الإنتخابية، ولما نجعل من منهجية التداول على الحكومة واضحة وشفافة بالإحتكام إلى صناديق الإقتراع، ولما نعمل على تعضيد حضور الفاعل السياسي من خلال ترسانة قانونية تروم تجويد العمل الحزبي، لأنه لا مجال للتردد بخصوص تشكيل الحكومة من الأحزاب وفقا لصناديق الإقتراع. وكما تتم المناداة بإعمال الديمقراطية من أجل تشكيل الحكومة، على الأحزاب أن تطور ذاتها من خلال إعمال الديمقراطية الداخلية لأن ذلك هو السبيل الوحيد لكسر شوكة الطموح الجارف للتكنوقراط. وإذا ما أردنا البحث عن مخرجات تساعد على التعجيل بتجاوز مخلفات أزمة كوفيد 19 فلا ينبغي أن يتم ذلك بطريقة مشوهة، بل علينا الإجتهاد في صيغ وبلورة حلول تروم الدفع بما تحقق من مكتسبات إلى أبعد الحدود.
في رأي ،الفرق جد شاسع بين الاستقرار السياسي الفعلي،و بين الاستغفال السياسي،المعتمد على تقسيم الكعكة بين التكنوقراطيين و المستفدين من خلود الزعامة الدينية و السياسية و النقابية و الاعلامية ،شريطة غض النظر عن حصة الاسد الى الوارث السياسي و مربعه وحاشيته,,,و هدا الاستغفال السياسي يعتبر قنبولة موقوتة ،شاء من شاء و كره من كره,,,,