يصنف العمل الجمعوي ضمن الحريات العامة التي يستند الحق فيها إلى المواثيق والعهود الدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي تنص في مادتها 115 على حق الفرد في حرية الاجتماع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب الذي يؤكد على حق كل إنسان في أن يكون جمعيات مع آخرين شريطة التزامه بأحكام القانون.
فمشاركة السكان والعمل الجمعوي ضمن المجتمع المدني في عملية التنمية ليست وليدة قناعة محلية فقط بل يمكن القول بأنها أصبحت تشكل قناعة عالمية سواء في الدول المتقدمة أم السائرة في طريق النمو، إذ تعتبر دراسة العطاء السوسيو تنموي للقطاع الجمعوي أو ما يسمى بالقطاع الثالث “Third sector”، من الدراسات محل الاهتمام على مستوى العالم، ومن أشهر وأبرز الإسهامات العلمية في هذا المجال المشروع الذي تبنته جامعة جونز هوبكينز”JOHNS HOPKINS” الأمريكية عبر دراسة دولية مقارنة حول الإسهام السوسيو تنموي في 12 دولة حول العالم، طالت دولا متقدمة وأخرى نامية ودولا من أوربا الشرقية، وقد مثل هذا المشروع زخما علميا هائلا يدفع ويطور البحوث في هذا الميدان، حيث تضمن كشفا علميا عن إمكانات هائلة للقطاع الخاص.
والجمعية هي مرآة المجتمع التي تعكس آماله وتحمل همومه، وإن نوع الفعل الجمعوي رهين بالمجتمع الذي يتوجه إليه، فالعمل الجمعوي لا يتحدد فقط بوجود جمعيات أو شبكات جمعوية، بل هو مؤشر على تطور المجتمع وطبيعته على مستوى مفهوم المواطنة الديمقراطية. كما يعكس صيرورة فكرية وتاريخية نحو المواطنة والديمقراطية. انطلاقا من هذا الافتراض، كان الحديث عن العمل الجمعوي بالريف يستدعي الرجوع قليلا إلى ذاكرة التاريخ، لمحاولة تأصيله.
كان العمل الجمعوي بالريف قبل الاستعمار الاسباني تمثله الزوايا ورابطات الشرفاء والأولياء، وكان العمل التعاوني التطوعي ممثل في أعراف: “تويزا” و”اذوير” و”جماعة”…وعملت الكنيسة إبان الاستعمار الاسباني على المزاوجة بين العمل الديني والدنيوي من خلال العمل الإحساني والخيري الممزوج بأساليب التبشير المسيحي الذي كانت تقوم به ما يعرف في المجتمع الكنسي ب”الأخوات”، و كن يعرفن في أوساط المجتمع الريفي ب”الرمانات”. وقد استمر عمل الأخوات في تقديم خدمات اجتماعية متعددة وبالخصوص لمرضى مستشفى محمد الخامس الذي كان يعرف ب” Spita Milita”، وهي كلمة مشتقة من التعبير الاسباني” Hospital Militar” الذي يعني “المستشفى العسكري”.
وبالرغم من التأكيد على كونية حق تأسيس الجمعيات وتكريسه في التشريعات الوطنية، إلا أن ممارسة هذا الحق تختلف من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر قد يتسع ويضيق حسب الظروف السياسية والاجتماعية لكل منطقة. وفي هذا الصدد، ظهر العمل التطوعي في شكله المقنن(الجمعية) بالريف على غرار باقي مناطق المغرب، مباشرة بعد صدور ظهير الحريات العامة في 1958، وقد ساهمت أعراف التعاون التطوعي الجماعي” تويزة” و”اذوير” و”جماعة” في تأسيس جمعيات تشتغل في ميادين مختلفة.
لكن صدور الظهير المذكور صادف مع الأحداث السياسية والأمنية التي عرفتها منطقة الريف (مابين 1958 و1959)، والتي تسببت في تمادي وزارة الداخلية في تحريف التشريع القائم بإحلال نظام الترخيص، ولم تتم الاجتماعات العمومية في الواقع إلا بترخيص من السلطات الحكومية، وبذلك تقوم بدور الرقيب على الحريات العامة، بما فيها حرية تأسيس الجمعيات.
بتعبير آخر، ارتبط العمل الجمعوي بالجو السياسي العام الذي عرفته الريف إبان الاحتقان الأمني والسياسي بين سكان المنطقة والسلطات الحكومية، حيث سادت سياسة تغليب الهاجس الأمني المنهجية التي تقوم على التشكيك تجاه أي تنظيم يستهدف تجميع قدراته المادية والفكرية. بالإضافة إلى تخلف البنية السوسيولوجية السائدة بالمغرب عموما وبالمنطقة خصوصا. فلا يمكن للفاعل الجمعوي أن يكون قادرا على تدبير الشأن العام إن لم يتربى في بيئة سوسيولوجية تؤمن بقيم الديمقراطية والمواطنة.
وخلال ثمانينيات القرن الماضي ظهرت أولى التنظيمات الجمعوية ذات طبيعة أنشطة ثقافية وتربوية بالأساس يطغى عليها الطابع الإيديولوجي والسياسي ومتأثرة بخطاب اليسار المعارض الذي كان يهدف من خلالها إلى توسيع قاعدته السياسية والترويج لمشروعه السياسي والاقتصادي المبني على الطرح الإيديولوجي الاشتراكي، من بينها: جمعية البعث الثقافي التي تم حظرها عمليا بعد أحداث 1984، والنادي السينمائي ثم جمعية الثقافة والفنون بامزورن. وفي المقابل تم تشجيع جمعيات مرتبطة بأجهزة الدولة كجمعية البحر الأبيض المتوسط، بحيث تقدم لها الدعم المادي والمعنوي من أجل تطويق أنشطة الجمعيات التي تتبع للمعارضة.
شهد المغرب منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي بداية تحول سياسي واقتصادي أدى إلى انفتاح الدولة على مختلف الهيئات المجتمعية ومحاولة استقطابها في إطار سياسة فتح الحوار مع أطراف المعارضة السياسية التي ظلت مقصية لسنين عديدة من تدبير الشأن السياسي والعمومي للبلاد. كما صاحب هذا التحول نموا كميا ملحوظا لعدد جمعيات المجتمع المدني في مختلف مناطق البلاد، بما فيها منطقة الريف.
يعرف الحقل الجمعوي بالريف نموا كبيرا في عدد الجمعيات بسبب ظروف وطنية وأخرى محلية. على المستوى الوطني، عرفت البلاد منذ 1994 انفراجا سياسيا كبيرا أدى إلى انفراج نسبي في الحريات العامة لا سيما الحق في تأسيس الجمعيات، وتولي الملك محمد السادس عرش المملكة في 1999 وتبنيه لسياسة الانفتاح على المعارضة واستيعابها، وعمل على إطلاق المبادرة الوطنية للنتمية البشرية في 2005، وحركة 20 فبراير في 2011 والإصلاح الدستوري في 29 يوليوز من نفس السنة. أما على المستوى المحلي فهناك أحداث ساهمت بشكل كبير في نمو الفعل الجمعوي بالمنطقة من قبيل ما يعرف بالمصالحة مع الريف، والزلزال الذي ضرب المنطقة في 2004.
كما عرفت جمعيات المجتمع المدني تطورا على مستوى الكم والأهداف ومجالات تدخلها، وأصبحت شريكا للدولة في تنفيذ البرامج الحكومية على المستوى المحلي بفعل تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية التي عرفتها البلاد، لكن هذا التطور لم يقابله تحسن في مردودية وأداء الجمعيات بسبب وجود عوائق بعضها داخلية تتمثل في ضعف التمويل والبنية التحتية وغياب الحكامة الجمعوية، وأخرى خارجية تتعلق بعوامل اجتماعية وسياسية وإدارية.
وانسجاما والتطورات التي تعرفها الدولة على مستوى البرامج والسياسات العمومية، ظهرت بالريف جمعيات تهتم بقضايا وملفات محددة مثل المرأة، الطفولة، ذوي الاحتياجات الخاصة، التنمية، الذاكرة الجماعية، التاريخ المحلي، التراث، تأهيل القدرات والتكوين المهني… وبدأت تشتغل على فكرة المشاريع بدلا من الأنشطة، وتنخرط في المنظمات الوطنية. كما أدى الانفتاح على المنظمات الدولية إلى ظهور جمعيات تهتم بحقوق الإنسان وتناضل من أجل تكريس طابعها الكوني على المستوى الوطني والمحلي.
يمكن القول أن التقدم التشريعي والتساهل الذي أبدته الدولة في مجال تأسيس الجمعيات ساهم بشكل كبير في تنامي عدد الجمعيات وتنوع مجالات تدخلها، لكن هذا لايمنع من وجود عوائق بنيوية تأخذ أبعادا مختلفة: اجتماعية واقتصادية وإدارية وسياسية تحد من قيمة العمل الجمعوي وتخرجه أحيانا عن أدوارها المجتمعية التي على أساسها ظهر، والمتمثلة في تكوين الفرد وتأهيل قدراته والمساهمة في تدبير الشأن العام المحلي، وتبعده عن تحقيق أهدافه التنموية.
بناء على ما سبق ذكره، فلابد من الاعتراف بصعوبة التكهن بمستقبل الجمعيات في منطقة الريف بالنظر إلى محدودية مساهمتها في صيرورة التنمية الشاملة وذلك بفعل الغياب التام لرؤية عقلانية حداثية تروم الإسهام بشكل فعلي وفعال في بناء سياسة تنموية شاملة، وطالما أن القطاع الجمعوي تواجهه معيقات ذات طبيعة بنيوية لها علاقة مباشرة ومتشابكة مع باقي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسياسية التي يعاني منها باقي شركاء المجتمع المدني من القطاع العام والخاص. وبالتالي فأن التغلب على هذه العوائق يتطلب مراجعة شاملة للمنظومة السياسية والإدارية.
طالب باحث في القانون العام
تعليقات الزوار ( 0 )