ظل المشهد الإسرائيلي الداخلي كتلة صمّاء، لأكثر من شهر، لا أحد خلاله تجرّأ على أن يفعل غير أن يطلق العنان للرغبة الجامحة في مزيد الانتقام من الفلسطينيين جراء ما حصل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
لا يهم في ذلك لا المباني المدنية ولا المستشفيات ولا المدارس، ولا يهم كذلك أن يكون الضحايا من النساء والأطفال، بل ولا أحد يرغب حتى في معرفة ما يجري أصلا في غزة.
في مقال تحت عنوان «الوحشية تحوّلت إلى نمط سائد في وسط الخريطة السياسية وإلى يسارها أيضا» كتب الصحافي الإسرائيلي البارز «جدعون ليفي» المعروف بآرائه الجريئة والمختلفة دائما، أن «الصحافيين الأجانب الذين يأتون إلى هنا لا يصدّقون أعينهم: (..) لا توجد أبدا ضحية اسمها غزة، وهي غائبة، ليس فقط في الخطاب الإسرائيلي العام، بل أيضا عن النشرات العامة للأخبار» ويضيف في مقالة في «هآرتس» الخميس الماضي أن «النشرات الإخبارية في التلفزيون الإسرائيلي هي الوحيدة في العالم التي لا تعرف أننا قتلنا أطفالا والإعلام الإسرائيلي هو الوحيد في العالم الذي لا يعرف أن الجيش الإسرائيلي ارتكب في هذه الحرب جريمة حرب صغيرة واحدة».
هذه الكتلة الصمّاء، التي تجمع بين الإنكار وشهوة الانتقام الأعمى، بدأت في الأيام القليلة الماضية في التصدّع قليلا، قليلا ليس إلا، لكنه تصدّع جدير بالرصد والمتابعة مع أنه غير موجود حاليا سوى في بعض المقالات الصحافية المتناثرة وبعض البرامج التلفزيونية، وليس في الطبقة السياسية أو القيادات العسكرية. أما نقطة التحوّل في هذا الاتجاه فكانت بالدرجة الأولى اتفاق الهدنة المؤقتة أكثر من أي اعتبار آخر، له علاقة بالدمار الذي أصاب غزة ولا سمعة إسرائيل في أوساط غربية عديدة عدّلت تدريجيا لهجة التأييد الأعمى الأول.
«هآرتس» التي تكاد الجريدة الوحيدة التي يمكن أن تقرأ على صفحاتها مقالات مختلفة عن السائد – ما دعا بعض الغلاة إلى طلب وقف أي دعم حكومي لها عبر الإعلانات أو الاشتراكات- نشرت الأحد الماضي مقالا للصحافية إيريس لعال تقول فيه إن المحتجزين لدى حركة «حماس» كان «بالإمكان تحريرهم قبل شهر لكن الجمهور لم يكن مستعدا لسماع ذلك» وإن الفارق الذي جعل عرض اليوم يبدو قابلا للتحقيق هو «نضج الجمهور الإسرائيلي» ليس إلا. وتخلص الكاتبة في النهاية إلى القول إنه «يتعيّن على الجمهور أن يدرك بسرعة أننا لن نخرج منتصرين من هذه الكارثة، وإن السبيل الوحيد أمامنا هو استعادة جميع المخطوفين، حتى آخر واحد بينهم، وهذا لن يكون انتصارا، لكنه سيريح النفوس قليلا».
ما كان لهذا التحوّل التدريجي، والمحدود حاليا على الصعيد الإعلامي، أن يتبدى شيئا فشيئا دون أمرين أساسيين: أولا الصمود الأسطوري لأهالي غزة رغم كل الدمار الهائل، والثاني قدرة المقاومة على إلحاق الأذى بقوات الاحتلال، حتى وإن لم يجر الاعتراف الرسمي بذلك، وكلاهما هو من فتح الطريق لإنضاج فترة الهدنة المؤقتة وعملية تبادل الأسرى والمحتجزين. هذه الهدنة التي كان الفضل فيها لما طرأ من تعديل على الكثير من المواقف الدولية بدءا من واشنطن وعديد العواصم الأوروبية التي باتت محرجة لأقصى حد وهي ترى استمرار القتل المجنون ضد النساء والأطفال العزل، قتل فضحته عدسات كاميرات التلفزيونات ونشطاء مواقع التواصل رغم أنف الإعلام الغربي المتحامل والمتعامي على كل ذلك.
حتى هذا الإعلام الغربي بدأ على خجل في النزول من شجرة الانحياز غير المعقول لإسرائيل فقد شرعت بعض الصحف وقنوات التلفزيون الأمريكية، وكذلك الغربية، في نشر روايات أخرى عما جرى حقيقة في غزة، بعيدا عن السردية السابقة التي اكتفت بإدانة ما جرى في السابع من أكتوبر وإغماض العينين وسد الأذنين عما حدث قبل ذلك من عذابات فلسطينية، وعما يحدث بعده.
وما قد يزيد في اتضاح هذا المنحنى هو تلك اللقطات المصوّرة المعبّرة للغاية التي ظهرت خلال عملية تبادل الأسرى والمحتجزين في الأيام الماضية فقد أبانت على مفارقات صارخة في كيفية تعامل كل من سلطات الاحتلال وحركة «حماس» مع من كان بحوزتهم، وكيف كانت ملامح هؤلاء وهم يودّعون مسلحي «كتائب القسّام» وما الذي قالوه بعد إطلاق سراحهم، حتى أن برامج حوارية في محطات تلفزيون إسرائيلية لم تجد مفرا من الإشادة بما سمعوه من هؤلاء عن حسن معاملة خلال الحجز من غذاء ودواء وحتى أنشطة مختلفة.
ويبقى التحدّي الأكبر أن تنتقل «عدوى» هذا التعديل في الخطاب الإعلامي، وإن كان محدودا، إلى أصحاب القرار الإسرائيليين الذين ما زالوا على لهجة التهديد بالعودة إلى الحرب بعد الهدنة. هذه العدوى قد تكون بدأت بتصريحات رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت التي قال إن إعلان الحكومة القضاء على «حماس» «أعطى توقعات غير واقعية» وأنه «بعد انتهاء العملية العسكرية يجب أن تعلن إسرائيل استعدادها البدء بمفاوضات حل الدولتين»… وتلك جولة أخرى لا تقل تعقيدا.
تعليقات الزوار ( 0 )