شارك المقال
  • تم النسخ

تداعيات جائحة كورونا على بنية النظام العالمي

كان العالم قبل كورونا يرزح تحت بطش الدولة المتوحشة بقيادة قطب وحيد تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، هذا النظام الذي لا يؤمن بالأخلاقيات في العلاقات الاقتصادية ولا يهمه إلا مصالح الشركات المتعددة الجنسية العملاقة بهدف الربح بغض النظر عن تفقير الفئات الضعيفة والانعكاس السلبي للتقدم التكنولوجي على المناخ والبيئة.

لكن انتشار جائحة كورونا، وعجز الترسانة الصحية للنظام الرأسمالي الذي ترعاه العولمة، أسقط ورقة التنين الأخيرة عن النظام الرأسمالي المتوحش في طريقة إدارته لازمة كورونا.

مما يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية.

كيف يكون شكل العالم ما بعد كورونا؟ كيف تكون بنية النظام العالمي؟ ما هي التأثيرات؟ وما هي المتغيرات

قراءة في الوضع الحالي

طبعا كل هذه الأسئلة تدفعنا إلى وضع فرضيات وتوقعات مبنية على أسس موضوعية وتاريخية تحيلنا إلى نهاية العولمة الأمريكية المتوحشة، واستشراف لمرحلة جديدة ما بعد كورونا لنظام دولي ببناء جديد تكون الصين أحد ركائزه، حيث أن جل التوقعات لعالم ما بعد كورونا توحي إلى تغييرات جدرية في النظام العالمي، الذي ستفقد فيه الولايات المتحدة الأمريكية الزعامة والسيطرة، رغم أنها ستبقى اكبر قوة اقتصادية (احتياطي هائل من البترول، الذهب..)، بفعل حقائق لا يمكن تناسيها أيضا (العلوم – التكنولوجيا – التحكم في الأنترنت، Google- Twitter، سلاسل المطاعم العالمية التي توفر عليها MC Donald’s).

إلا أن الوجه الحقيقي للتاريخ الأمريكي منذ (ثيودور روزفلت) المبني على الأطماع الإمبريالية، هو الذي جعل هذا النظام الرأسمالي ينخر ويضعف واصبح فيه ما يقضي عليه، لأن مسار الهزيمة سيحدد بسبب جائحة كورونا كجزء من الأجزاء، لأنه لا يمكن أن يكون هناك تغيير مفاجئ مبني على مجرد الأوبئة، وإنما هذه الوضعية هي نتاج لمقدمات حدثت وانتهت، وذلك راجع للسياسة الرأسمالية المتوحشة للولايات المتحدة الأمريكية خصوصا في عهد دونالد ترامب)، حيث أصبح هذا الأخير بلطجي يرضي الشعبوية الأمريكية، ويتجلى ذلك في ما يقارب ل 55% ممن فقدوا الثقة في مصداقيته ,إضافة إلى استمراره في أخذ مجموعة من الأموال من السعودية، زيادة على تصاعد منسوب المصلحة الأمريكية في عهده تحت شعار (أمريكا أولا)، زيادة على انسحابه أيضا من معظم الاتفاقيات الدولية (كيوتو مثلا)، التراجع عن تمويل منظمة الصحة العالمية، التهديد بالانسحاب من منظمة التجارة  العالمية، مشاكله مع اليونسكو، العدول عن الاتفاق النووي مع إيران سنة 2018 والذي تم في سنة 2015.

كل هذا أدى إلى استشراف مرحلة جديدة ما بعد كورونا، كانت بمثابة إنذار لهذا النظام الرأسمالي المتعدد الألوان، لكي يصحح المسار ويسد الثغرات ربما لبناء نظام نيو رأسمالي جديد بلا عيوب.

فهذا التهديد الذي واجه هذا النظام الأمريكي، من طرف ثان أكبر قوة اقتصادية في العالم، وأول دولة صناعية من حيث الناتج الدولي الصناعي وهي الصين، هذه الأخيرة التي أصبحت تنافس السيطرة الأمريكية على العالم، لتصبح قوة موازية له أو على الأقل مشاركة له في إدارة العالم.

مما يجعلنا أمام عولمة ثنائية ذات اتجاهين في التفكير، تفكير اقتصادي استثماري يريد الهيمنة على الأسواق ويستثمر فيه، وتفكير عوالمي شوفيني يريد الهيمنة بواسطة الحروب والعقوبات.

وذلك لأن الصين سيطرتها ستكون ناعمة باعتبارها قوة اقتصادية ناعمة وذلك راجع إلى أن المنطلق الصيني والمرجعية تختلف عن المنطلق الأمريكي كما سبق الذكر فالنظام العالمي الجديد بتفوق صيني، ستكون له انطلاقة غير مسبوقة في تاريخ الصين، وذلك راجع طبعا إلى أمور ثقافية وحضارية مرتبطة بتاريخها.

تعتمد على مجموعة من المبادئ والأخلاقيات، كإيمان الصين بأن ازدهار المحيط سيساهم في ازدهارها، ويعمل على تشجيع المبادلات التجارية الخاصة بها، تقديم المساعدات المالية، المصرفية والمهنية، كل هذا يصب في إيمان دولة الصين بتعميم الخير وتقاسمه مع المحيط، مما ساعدها على تحقيق قفزة نوعية في تأثيث فضاء دولي حضاري وناعم، يساهم في ازدياد الانحسار الأمريكي، وهذا ما تكلم عنه (JOSEPH S.NYE.Jr) في كتابه (the future of power)  الذي دعى إلى ضرورة إعادة النظر في مستقبل العالم، لتكسير القطبية الأحادية، وتغييره بنظام بديل، يشاركه ويتقاسم معه تسيير العالم مثل الصين، التي أصبحت تحتل مكان الصدارة دون هيمنة أو قوة عسكرية.

حيث أصبحت الصين تتوفر على منظومة صناعية خاصة بها، ما يقارب نصف مليون براءة اختراع، تؤمن بالأخلاق في العلاقات الدولية (ولا أدل على ذلك المساعدات الصينية لإيطاليا التي كانت نابعة من صميم الاخلاق الدولية لزعمائها بعيدة عن المناورات السياسية التي تكون من ورائها مصالح).

زيادة على أن الصين لا تقيم الحروب، بل تقيم الأسواق.

النظام العالمي ما بعد كورونا

لعل ما أثبتته جائحة كورونا عندما كانت بدايتها في الصين (واهان)، وأعلنت على إثرها الصين توقيف صناعتها لاحتواء الفيروس (كوفيد 19)، مما أحدث تبعثرا وشرخا في الأسواق والاقتصاد العالمي، بحكم أن جميع متطلبات السوق العالمية تأتي من الصين، مما شكل ثغرة اقتصادية لم تستطع أي دولة سدها.

لكن عند البحث في سبب هذه القوة الناعمة، تتجلى في ان من يقرأ تاريخها , تاريخ الحضارة الكونفوشية، يجد مجموعة من المعتقدات والعادات المتغلغلة في العمق الصيني، يلاحظ أيضا أنها أقل الإمبراطوريات حروبا على مر التاريخ، إضافة الى الترابط العائلي القوي بين أفراد الأسر الصينية.

كل هذا ساهم في صعود الصين كقوة موازية للولايات المتحدة الأمريكية، قوة لا تريد العالم أو السيطرة عليه، بل تريد التعامل معه تجاريا، تحريك الدورة الاقتصادية العالمية، الاستثمار معه، وهو ما يتجلى من خلال مشروع مبادرة الحزام والطريق الصينية، مشروع القرن الاقتصادي في العالم، الذي يحاول أن يضع أسسا لنظام دولي جديد، تبدأ ملامحه في القارة الأسيوية، ليمتد تدريجيا ليشمل العالم كله، وعليه فسوف يتطلع العالم للقيادة الصينية من أجل تحقيق النمو والاستقرار.

إضافة إلى محاولات إقامة شراكات جيواستراتيجية مع إيران وتركيا تعرف بطريق الحرير الجديد من الشرق باتجاه أوروبا مرورا بإيران وتركيا لتكسير شوكة الولايات المتحدة الأمريكية والقضاء على نفوذها في المنطقة.

حيث اذا ما كتب لمبادرة (الحزام والطريق) النجاح فان الحركة على الطريق الاسيوي تسير بشكل انسيابي أكثر مما هي عليه الوضع الآن، وسيسير عمل قطاع الخدمات اللوجستية بشكل أسرع الأمر الذي سيمكن البلدان المنقطعة عن الأسواق العالمية من الانغماس في حركة التجارة بشكل أكبر.

لتشكل بالطبع هذه المبادرة انطلاقة عالمية صينية غير مسبوقة، ليجعل منها قوة صاعدة، مما أثار مجموعة من التساؤلات بين صناع القرار السياسي والباحثين الأكاديميين، حيث يلخصها Sean M Lynn-Jones في أربع أسئلة:

  1. كم تبلغ قدرات الصين الاقتصادية والعسكرية؟
  2. كيف ينعكس نمو قوة الصين على الاستقرار والسلام الدوليين؟
  3. ما هي نوايا الصين؟ هل تسعى الصين بقوة لأن تتحدى وتغير النظام الدولي؟
  4. كيف يجب ان تتعامل الولايات المتحدة الامريكية والدول الأخرى مع تنامي قوة الصين؟

وبغض النظر عن كل تلك التساؤلات، فإن بروز الصين في السنوات الأخيرة كقوة صاعدة على المستويين الإقليمي والدولي عززته جملة من المؤشرات منها:

  • الصين ثالث قوة فضائية ونووية بعد الولايات المتحدة وأوروبا.
  • الصين ضمن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي
  • الصين تمثل قوة عالمية أولى في جذب الاستثمار بعد (و.م.أ) والقوة الثالثة بعد (و.م.أ) واليابان الثانية في حجم الإنتاج الإجمالي.
  • تمتلك الصين موقعا استراتيجيا يربط شرق آسيا وشرق أوروبا وتتحكم بعدد من الطرق البحرية والبرية.
  • القوة العالمية الأولى في احتياطي النقدي الأجنبي الذي بلغ أكثر من  2 تريليون دولار.
  • التحالف الصيني – الروسي يخلق توازن استراتيجي في مواجهة الحلف الأطلسي في جنوب وشرق آسيا.
  • التوجه الصيني نحو المنطقة العربية.
  • جائحة كورونا التي أبانت عن أنانية الولايات (و.م.أ) وعدم قدرتها على احتواء الأزمة الصحية لا من حيث المساعدات المادية والإنسانية.

لكن رغم كل هذا يبقى السؤال الجوهري المطروح هو هل الاقتصاد قادر لوحده على قيادة العالم؟

على اعتبار أن الصين رغم قوتها الصناعية والاقتصادية، إلا أن هناك مجموعة من الحدود التي قد تكون عائقا أمام احتلال مكان الصدارة والزعامة، ذلك راجع لما سبق الذكر إلى قوة ووحدة المعتقدات والعادات المتجذرة في التاريخ الصيني، مما يجعلها تجد صعوبة في نشر اللغة الصينية مثلا، وسلاسة الاندماج في المجتمعات الدولية، من خلال التواصل، زيادة على ثقافة الطعام والأكل الصينية المختلفة، مقارنة مع التفكير العولمي الأمريكي، الذي استطاع أن ينشر جميع أنظمته عبر الأنترنيت، الاعتماد على السينما الهوليودية، لنشر فكر (العم سام)، المنتوج الأمريكي يصل إلى أبعد نقطة في العالم ,حضارية كانت أم قروية (مثلا مشروب كوكاكولا) … إلخ (سلاسل المطاعم الأمريكية الشهيرة Mc Donald’s).

كل هذا كان وراء سلاسة هضم النظام العالمي الأمريكي وتقبله من طرف الدول الرأسمالية المشاركة.

مما يدفعنا إلى التساؤل أيضا فيما مدى تمكين الصين من إقامة نظام عالمي جديد بمعزل عن السبل اللاأخلاقية التي سلكتها الرأسمالية المتوحشة؟

وخلاصة القول يبقى التحدي الأكبر أمام الصين في تحقيق نجاحها وتفوقها هو استغلال جائحة ما بعد كورونا لتتريق فتق الجروح التي أحدثتها هذا الوباء وكسب صداقة الدولة المشاركة في النظام العالمي الأحادي، لكي نقدر على مواجهة الضغوطات الأمريكية التي تسعى للحفاظ على مكانتها كقطب واحد ومهيمن في النظام الدولي بشعار (أمريكا أولا) وذلك عبر التعاون البناء مع خلفائها في العالم لاسيما روسيا.

المراجع:

The future of power ; Joseph S. NYE, Jr.

 مبادرة الحزام والطريق الصيني، مشروع القرن الاقتصادي في العالم، المركز الديموقراطي العربي، الدراسات الاستراتيجية والسياسة الاقتصادية، برلين – ألمانيا.

* باحث في القانون الدولي العام، كلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية، مكناس

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي