في وقت يسعى فيه الاتحاد الأوروبي إلى إعادة رسم علاقاته الثنائية مع جيرانه في الضفة الجنوبية للمتوسط على أسس مصلحية مباشرة، تكشف أزمة العلاقات المغربية الجزائرية عن خلل جوهري في السياسة الخارجية الأوروبية تجاه شمال إفريقيا.
فالتعامل الأوروبي مع النزاع بين البلدين الشقيقين — المغرب والجزائر — بمنطق التجاهل أو “إدارة الأزمة” بدلاً من “حلها”، أصبح يُكلّف أوروبا ثمناً باهظاً، سواء من حيث الأمن أو الطاقة أو الهجرة، حسب تقرير حديث.
أزمة الجوار المغاربي… والعين الأوروبية الغائبة
ومنذ أن قرّرت الجزائر في غشت 2021 قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، شهدت المنطقة المغاربية مزيداً من التوتر، وسط تصعيد مستمر في الخطاب الإعلامي والسياسي، خصوصاً حول ملف الصحراء المغربية.
وقد استُخدمت حادثة تصريح دبلوماسي مغربي في نيويورك حينها كذريعة، فيما كانت الأسباب الأعمق مرتبطة بتباينات استراتيجية وهيكلية.
ورغم ما تمثله كل من الرباط والجزائر من شركاء استراتيجيين لأوروبا في ملفات الأمن والطاقة والهجرة، فإن الاتحاد الأوروبي تعامل مع الأزمة كملف ثانوي قابل للاحتواء.
غير أن الكاتب والمحلل إيمانويل كوهين-هادريا، في تقريره التحليلي الصادر عن مركز السياسات الأوروبية (European Policy Centre)، يرى أن هذا التجاهل لم يعد مقبولاً أو قابلاً للاستمرار، خاصة بعد دروس العنف والانهيار الإقليمي الذي شهده العالم بعد اندلاع حرب غزة في 2023.
التكلفة الأوروبية للصراع المغاربي الصامت
ويوضح التقرير أن أوروبا بدأت فعلاً تدفع ثمن هذا النزاع دون أن تعي ذلك بالكامل. فقد أدى إغلاق أنبوب الغاز المغاربي–الأوروبي عام 2021، والذي كان يمر عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا، إلى ضرب منظومة الأمن الطاقي الأوروبي في مقتل، وأظهر هشاشة الاعتماد الأوروبي على استقرار الشراكات المغاربية.
وبالتوازي، فإن انهيار التعاون الاستخباراتي بين الرباط والجزائر أضعف جهود مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية، ما انعكس مباشرة على الضفة الشمالية من المتوسط.
ويضيف التقرير أن هذا الفشل في التنسيق الأمني لا يخدم فقط المتطرفين ومهربي البشر، بل يضع أوروبا أمام تحديات أمنية متفاقمة.
المغرب: شريك استراتيجي لا يُعوّض
ورغم النزاع مع الجزائر، يظل المغرب شريكاً محورياً لأوروبا في ملفات أمن الحدود، ومحاربة التطرف، والتعاون الاقتصادي والتجاري.
وقد أثبتت الرباط عبر السنوات الماضية التزاماً واضحاً في بناء شراكة واقعية مع الاتحاد الأوروبي قائمة على المصالح المتبادلة، وهو ما تعكسه الاتفاقيات الثنائية الواسعة في مجالات الهجرة، الفلاحة، والصيد البحري، فضلاً عن الدور المحوري للمغرب في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.
ومع ذلك، فإن استمرار النزاع مع الجزائر، دون أي تدخل حقيقي من بروكسل، يهدد هذا الاستقرار ويضعف فرص التقدم في ملفات استراتيجية للجانبين، وهو ما يُفترض أن يكون مصلحة أوروبية بالدرجة الأولى، وليس فقط مغاربية.
ما الذي يمكن لأوروبا أن تفعله الآن؟
ويدعو كوهين-هادريا الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن دفن رأسه في الرمال، والانتقال من موقف المتفرج إلى دور الوسيط البنّاء.
ويقترح التقرير أن تبدأ بروكسل بتفعيل ما يُعرف بالدبلوماسية غير الرسمية (track II diplomacy)، من خلال دعم مبادرات حوار مدني وأكاديمي واقتصادي بين النخب المغربية والجزائرية، بعيداً عن الضجيج السياسي.
كما يشير إلى أهمية دعم التعاون الفني بين البلدين في قطاعات مثل البيئة، الطاقة المتجددة، والتعليم، وهو ما يمكن أن يخلق مساحات مشتركة من الثقة تُمهّد لتقارب رسمي مستقبلي.
ويمكن لمنظمة الاتحاد من أجل المتوسط (UfM) أن تلعب دوراً محورياً في هذه الجهود، عبر توفير منصات حوار تقني محايدة.
مصالح المغرب أولاً… ومنفعة الجميع لاحقاً
ويُظهر التقرير بوضوح أن تجاهل الاتحاد الأوروبي للأزمة المغربية الجزائرية ليس فقط إخلالاً بالمسؤولية، بل خطأ استراتيجي يهدد مصالح أوروبا ذاتها.
ولأن المغرب لطالما أثبت التزامه بالمقاربة السلمية والانفتاح على الحوار، فإن دعم الاتحاد له في هذا السياق لا يخدم فقط الاستقرار الإقليمي، بل يدعم أيضاً قدرة أوروبا على الاستمرار كفاعل مؤثر في محيطها المتوسطي.
وأشار التقرير، إلى أنه ومع اتساع نطاق النزاعات، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يستمر في التغاضي عن نزاع إقليمي في خاصرته الجنوبية، مبرزا أن مصالح أوروبا في الطاقة، والأمن، والهجرة، تمر اليوم من الرباط، وليس من حيادٍ سلبي تجاه جارها الشرقي.
تعليقات الزوار ( 0 )