Share
  • Link copied

الوطنية المؤجلة بين قدسية الدولة وشرعية النقد!

في هندسة الأنظمة السياسية، لا تقاس قوة الدول بعدد أسلحتها، ولا بحجم حضور رموزها في الإعلام، بل بمدى قدرتها على احتضان التعدد واستيعاب النقد وتحويل الصراع الرمزي إلى طاقة بناءة، فكما يذكرنا ريمون آرون فإن الديمقراطية ليست نفيا للسلطة، بل تهذيبا لها، والنقد لا يضعف الدول بل يؤسس لعقد اجتماعي مرن يربط السلطة بالمجتمع دون وساطة الوصاية.

ورغم أن العديد من الدول ترفع شعارات الإصلاح والانفتاح، إلا أن قشرة الحداثة السياسية سرعان ما تنقشع عندما يُطرح تساؤل مؤداه أحقية من ينتقد، هنا تنكشف هشاشة التعاقد ويستدعى قاموس التخوين والقداسة، وتجرد المؤسسات من طابعها البشري لتصبح كائنات فوق القانون والمساءلة، في إعادة إنتاج ديني للسياسة كما وصفها إرنست رينان، حيث تتحول الدولة إلى معبد، والنقد إلى تجديف.

ويشير بيير بورديو إلى أن الرأسمال الرمزي الذي تراكمه المؤسسات يستثمر في فرض تمثل واحد للواقع، وهو ما يؤدي إلى إقصاء كل التمثلات المخالفة دون حاجة إلى القمع المباشر، وهكذا تحاط المؤسسات الأمنية والعسكرية والدينية بهالة من القداسة، وتقصي كل مساءلة علنية لا لعدم مشروعيتها، بل لكونها غير مندمجة في ما يراد له أن يكون الوعي العام المقبول.

وتتحول السياسة الأمنية، في هذا النمط من التمثل السلطوي من اختيارات قابلة للمراجعة إلى منظومة مقدسة تتعالى على النقاش العمومي. ويأخذ النقد معنى الخيانة، وتفرض على المواطن فضيلة الصمت، وهنا يصبح فيه الإجماع المفروض بديلا عن الرأي الحر. وهذا ما تنبه له ميشيل فوكو حين رأى أن السلطة تنتج معرفة تبرر وجودها وتحمي ذاتها بها.

إن أخطر أنماط القمع ليست تلك التي تمارس بالعنف الصريح، بل تلك التي تجعل من الصمت قيمة أخلاقية ومن التماهي مع السلطة دليلا على الانتماء، ويذكرنا هربرت ماركوز بهذا حين صرح بكون الاستيعاب التام للرأي العام يجعل المعارضة بلا صوت حتى قبل أن تمنع، وهو ما يجسد قمعا رمزيا يعمل على تجريد المواطن من حقه في الاختلاف عبر جعل هذا الحق نفسه بلا شرعية.

فعندما تختزل الدولة في رموزها ويتحول النقد إلى وصمة، تصبح وقتها المؤسسات هوية متعالية على المجتمع، ويعاد إنتاج الهيمنة من خلال آليات ناعمة تقصي كل ما يخرج عن النسق الرسمي، وحين يجرد الرأي الناقد من مشروعيته، لا يمارس القمع عليه بالضرورة، بل يصبح وجوده ذاته موضع اشتباه، وهنا لا يعامل الاختلاف كمظهر من مظاهر التعدد، بل كتهديد للوحدة الوطنية.

ويرى كارل بوبر أن المجتمعات الحرة تبنى على حق المواطن في أن يخطئ، وهو ما يجعل من الاعتراف بشرعية النقد شرطا لبقاء النظام نفسه، وبالمقابل تعيد الأنظمة السلطوية تعريف الوطنية بوصفها طاعة، والانتماء بوصفه صمتا. وهكذا لا توجه التهم إلى الأفكار بل إلى أصحابها، ويختزل التمايز في الرأي إلى موقف عدائي ضد الدولة.

كما تغلق بعض الأنظمة السياسية المجال العمومي على أصوات محددة، وتقصي النخب النقدية من التفاعل الرمزي، مما يجعل مؤسساتها تتحدث إلى ذاتها وتعيد إنتاج صورتها داخل فقاعة مغلقة، وهو ما نبه إليه كل من بيتر برغر وتوماس لوكمان في البناء الاجتماعي للواقع، إلى أن المؤسسات التي لا تختبر اجتماعيا تتحجر وتفقد قابليتها للتطور.

إن الإجماع المصنوع لا يصنع استقرارا حقيقيا، بل ينتج توازنا هشا سرعان ما ينهار عند أول أزمة غير متوقعة، فالمجتمعات التي تشرعن النقد وتحتفي بالتعدد وحدها من تملك آليات التعديل الذاتي، بينما تلك التي تحتكر الحقيقة تعيد إنتاج هشاشتها كلما أخمدت صوتا ناقدا، وقد كتب جان جاك روسو بأن ليس في الدولة آلهة بل مواطنون أحرار يراقبون السلطة التي منحوها.

ولا تقوم الدولة الحديثة على التقديس الرمزي، بل على تعاقد حي بين سلطة مسؤولة ومواطنين أحرار، وهو ما يجعل العلاقة بين الطرفين قائمة على المراقبة المتبادلة، لا على الطاعة المطلقة، فحين تحول الدولة إلى كيان متعال، وتدرع وتمنع مؤسساتها ضد النقد، يتم خنق الشروط التأسيسية للشرعية السياسية.

إن الأدبيات النقدية في علم الاجتماع السياسي تؤكد بأن غياب المساءلة، والخلط بين رمزية الدولة ومصالح السلطة، يؤدي إلى انسداد سياسي وثقافي. فكلما ازدادت المسافة بين المؤسسة والمجتمع، ضعف التعاقد، وزادت احتمالات الانفجار الرمزي، وكما كتب نوربرت إلياس بأن الحضارات لا تنهار بفعل العدو الخارجي، بل عندما تفقد قدرتها على مساءلة ذاتها

Share
  • Link copied
المقال التالي