شارك المقال
  • تم النسخ

النويني: تعنيف الأساتذة المتعاقدين سلوك سلطوي ومس بالحكامة الأمنية

سجلت عدسات الكاميرات خلال احتجاج الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد يومه الثلاثاء 16 مارس 2021 بالعاصمة الرباط، مشاهد يظهر فيها رجال السلطة يتعاملون بعنف مع أصحاب الوزرة البيضاء، وبشكل يمس بكرامتهم وإنسانيتهم، مما جعل الرأي العام ينتقد هذا السلوك ويمجه، لكونه مخالفا لروح الدستور المغربي في فصله الثاني والعشرين، والذي ينص على أنه “لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص، في أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت، خاصة أو عامة ولا يجوز لأحد أن يعامل الغير تحت أي ذريعة، معاملة قاسية أو لا إنسانية، أو مهينة أو حاطة بالكرامة الإنسانية، وأن ممارسة التعذيب بكافة أشكاله، ومن قبل أي أحد، جريمة يعاقب عليها القانون”.

إننا أمام هذا الوضع لا نملك إلا إدانة هذا السلوك السلطوي باعتباره يمس بالحكامة الأمنية، التي تنشدها الأمم الديموقراطية، والتي تعتبره معيارا رئيسيا من معايير التحول الديموقراطي في أي بلد، إذ لا يمكن تصور وجود تحول ديموقراطي في أي مجتمع، دون أن تطال البنيات الأمنية لهذا المجتمع، تغييرات جوهرية، لضبط تعامل الأجهزة الأمنية مع المواطنين، بحسب ما تقتضيه القوانين، وما تفرضه المواثيق الدولية التي تنظم مجال الاحتكاك بين قوات الأمن والمواطنين.

أمام هذا الأمر يجعلنا نستحضر الحقل المفاهيمي للمدارس الفلسفية عبر التاريخ، التي انقسمت بدورها إلى توجهين، الأول توجه مكيافيلي وهو الذي يؤمن بمبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”.

هذا المبدأ الذي تبناه نيكولا مكيافيلي، المفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي في القرن السادس عشر، حيث يعتقد أن صاحب الهدف باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها، أيا كانت وكيفما كانت دون قيود أو شروط، فكان هو أول من أسس لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة.

واعتبرت هذه القاعدة هي الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل متسلط، حيث يضعها نصب عينه ويتبناها، لتبرر له أفعاله الخشنة غير الناعمة والمخالفة للقوانين والأخلاق.

ويرى مكيافيلي ضرورة استخدام العنف والقوة من قبل القائد السياسي، مبررا ذلك بأنه يولد الخوف، والخوف أساسي من أجل السيطرة على الشعوب -حسب اعتقاده- ومن لم يفعل ذلك لا يعتبره قائدا سياسيا ناجحا.

إذا كان التصور السياسي لنيكولا مكيافيلي يمركز كل السلط في يد الحاكم، وتبقى القوانين فقط صورية، يمكن اللجوء إليها حينما لا تكون مضرة بمصلحة الحاكم ونفوذه؛ فإن مونتسكيو ظل متأثرا بروح عصره، وبالتراكمات الفلسفية التي خلفها عصر النهضة، حيث فكر في السلطة من منطلق حقوقي وقانوني، تكون السلطة فيه في خدمة المواطن لا في خدمة الحاكم، وهكذا نجد مونتسكيو يدافع على أن الدولة الحديثة تتميز بوجود ثلاث سلط بعضها مستقل عن بعض؛ وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية، حيث تتولى كل سلطة مهمة خاصة ومحددة، دون أن تتدخل في السلطة الأخرى، من أجل تحقيق غاية واحدة وهي أمن المجتمع وسعادة أفراده، لذلك دافع مونتسكيو على عدم جمع الحاكم لكل السلط بين يديه حتى لا نسقط في الاستبداد والديكتاتورية، فالفصل بين السلطات ضروري، لتضمن كل سلطة حق ممارسة مهامها بعيدة عن التأثير أو التأثر بسلطة أخرى، وفي هذا الصدد يقول مونتسكيو: “عندما تجتمع السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بين يدي شخص واحد، أو في هيئة قضاء واحدة، فإنه لا يعود ثمة مكان للحرية، لأنه بإمكاننا أن نتخوف من قيام الحاكم بسن قوانين استبدادية، ولن تكون هناك أية حرية إطلاقا إذا لم تكن السلطة المتعلقة بإصدار الأحكام غير منفصلة عن السلطة التشريعية والتنفيذية”.

هكذا أخبرنا بول ريكور بأنّ العنف لا يؤسس للأخلاق، بل ينفيها، وهو ما يجعله صنواً للسلبية المحضة، فلئن كان استخدام القوّة من طرف الدولة واحتكارها لوسائل الإكراه، يجد ما يشرّع له في السعي إلى تطبيق القوانين وحفظ النظام وبسط الأمن العام، فإنّ تحقيق الدولة لرغبات صاحب السلطة يجعل من العنف ممارسة قهرية قمعية، وهنا تفقد الدولة شرعية العنف.

إن قوة الدولة وأجهزتها تكون في قوة أخلاقها وقيمها وصيانتها لكرامة وإنسانية مواطنيها، وهذا ما نادى به المفكر وعالم الاجتماع المغربي عبد الله العروي، الذي يعتبر دولة الحق في نظره هي “دولة القانون والمؤسسات، وتجمع السياسة والأخلاق، القوة والإقناع، في حين أن دولة الاستبداد تبقى معزولة عن الناس، وهذا ما يجعلها هشة ومعرضة دوما للفردانية والتسلط”.

وهو المنحى نفسه، الذي ذهبت إليه عالمة الاجتماع جاكلين روس، التي تعرف دولة الحق باعتبارها صيغة قانونية قائمة على القانون والحق، الخاضعين لمبدأ احترام الشخص، باعتباره وازعا لضمان الحريات ومراعاة الكرامة الإنسانية، والعمل تبعا لذلك على تجنب ومناهضة كل ما من شأنه أن يخل بهذا المبدأ من ظلم وطغيان وتعسف وعنف.

محام وباحث في القانون الدولي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي