على الرغم من عمق معنى النفس الإنسانية، والتحامها بالسيمفونية الغامضة التي لا يمكن كشف تفاصيلها بدقة، إلا أن السلوك الإنساني لطالما قدم “خطة مكشوفة”، لكل ما يجول في تلك النفس المنزوية في أبهتها، ف”كل وعاء بما فيه ينضح”!
ومع ملاحظة الفروقات السلوكية والعقلية، نجد أن هناك فضولاً في التعرف على أولوية التقدم في الإنسان، ومحور التحكم، فهل النفس الإنسانية توجه العقل، أم العكس من ذلك هو الصحيح، وكيف يمكن استخدام العقل في تفسير النفس مع أنها أكثر تجذراً وأصالة، إذ يعيش إنسان بلا عقل، ولا يعيش إنسان بلا نفس.
وقد ارتبطت متعلقات الإنسان أياً كان شكلها وهيئتها ب “النفس”، إذ تحمل حقيقة بوجهين أحدها أنها مجموع وخلاصة مكتسبات الإنسان، وثانيها أن معرفتها والتصالح معها، أولى خطوات التعرف على الكون، وبخاصة إذا ما تم تجريدها من عوالق البيئة المحيطة ومعانيها المتناقضة، لتجد أن هذه النفس تسلك نحو إشباع روحي يلامس أعمق ما قد يشعر فيه بداخل الوجدان، مما يوصل الإنسان ل: “بر الأمان” ممتلكاً نفساً مشبعةً، تحمل بداخلها كينونة العقل، الذي ارتوى بالحصول على المعرفة الكبرى (معرفة الله)، وبات قادراً على الإدراك والإحساس، والتمييز بين الفضيلة ونقيضها، والتعرف على معرفة الأشياء.
ولذلك نجد أن النفس حيثما شرحت، لم يذكر الجسد إلا في الإشارة لانقطاع علاقتهما من حيث التركيب، وهذا ما سار عليه العديد من الفلاسفة والمفكرين، فتجد النفس كما قسمها أفلاطون إما أن تشغل حيزاً في العقل، أو أن تلقي بانعكاساتها على الحس، أو أن تقع بينهما بعلاقة جامعة. بينما يذهب أرسطو على نقيض ذلك باعتبار البدن جزء من النفس، تستعملها وتلجئ إليها في تحقيق وظائفها.
إن الاتفاق الذي وصل له العلماء بوجود علاقة نفسية عقلية، لم يجد اختلافاً إلا في تحديد الدافع المحرك لكل منه، سيما أن الاستناد يكون في نتاج هذا الدافع بصورته الأخيرة، الذي يلعب فيه العقل دور الرزين الموجه، الذي يجابه رغبات النفس وتقلباتها، وأقل ما يمكن الإشارة إليه تأثير النفس لدى مشركين قريش برفض نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر “العاديين”، وقبولهم إله من حجر! وبالتالي فإن النفس إذا ما أحكمت قبضتها على سيالات العقل وقوته، بات العقل خادماً لها لا موجهاً.
وبناءً على ذلك فقد يقودنا السعي لتطوير الدوافع العقلية، للاهتمام بالبناء النفسي، سيما أن الإرادة الإنسانية مكونة من نفس وعقل، مما يدفع لصون سلامة بذرته الأولى، قبل أن تختلط بدوافع الرغبات والانحرافات وتقبل الأخطاء، ومن ذلك قيل أن الإنسان ابن بيئته يتشكل ويكون كيف تحركه من خلال معطياتها وما تمليه عليه. ولكن هذا لا يعني تغلب الطبيعة على العقل، وبخاصة إذا ما قاد هذا العقل نفس الإنسان من خلال رجاحة الرأي وبصيرة تسبق الهوى، وهذا مثال نعيشه كل يوم في معترك الحياة، وتتشابك فيه عقولنا مع أنفسنا دون أدنى انتباه واعٍ، إذ يعترف العقل الراجح بحق النفس، ولكنه ينتهج مبدأ “لا إقتار ولا تبذير”، إذ يؤدي الإسراف النفسي لتقييد وظيفة العقل وتعطيلها إلا فيما رغبت، ويسوق الإسفاف في حق النفس لهدء يسبق عاصفة من التمرد على العقل ورفض منطقه.
وبالنظر لكل القوة التي اكتسبها كل من النفس، والعقل بتأييد نخب العقلاء والمفكرين والفلاسفة، إلا أن التوازن فيما بينهما لا يمكن أن يكون من خلال إجراءات نظرية بحتة منزوعة الروح، إذ لطالما استطاع الإيمان والشعور الوجداني المتعلق بالإله، أن يكبح جماحهما، وأن يطلقها في موضعها الآمن، بل أنه تفوق في صورته المعتدلة على القوة، إذ يتحصل بالعقل والمعرفة ما لا يتحصل بالقوة التي إذا افتقدت للمعرفة تحولت لسلاح تهديد لا حماية.
وبالتالي، فإن النفس يقدر لها أن تكون عاقلة، وأن تمثل سبيلاً للحق، إذا ما اعتمدت على قوة عقلية ناجحة في تحقيق الاستنتاجات الصحيحة، والاستدلالات الدقيقة، فالعقل هو قوة النفس التي تقود لليقين.
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )