شارك المقال
  • تم النسخ

النظام المغربي والبَصْق في وجه الديموقراطية

أقرّت المحكمة الدستورية في العاصمة الرباط قبل أيام دستورية مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب الذي بموجبه صار يُعتمد حساب “القاسم الانتخابي” انطلاقاً من عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بدل المُصوتين. الأمر يشكل سابقة في تاريخ القوانين والنظم الانتخابية، إذ ليس يوجد في أي دولة على وجه الأرض تَعتمد في نظامها الانتخابي التمثيلَ اللائحي النسبي.

       لا شك أن الذين يعرفون النظامَ المغربي ووظيفةَ الانتخابات داخل نسقه السياسي لم يُفاجئهم قرار المحكمة الدستورية إطلاقاً، فهم يدركون أنه عندما يتعلق الأمر ب”السياسة”، يُعدُّ الحديث عن استقلال القضاء مسخرة لا يجرؤ عليه سوى مُرتزقة الإعلام والماسكون بأبواق السلطة. وإنه لمن السذاجة اعتبار قرار النظام تهورا، أو خطوة غير محسوبة جاءت من مجموعة نافذة داخل “حكومة الظل” تفتقر إلى بعد النظر، وتنقُصها التجربة. فخبرةُ النظام في تجاوز الأزمات وتحويلِ الفشل إلى انتصار مكينة، وتجاربُه كثيرة في ترويض المعارضة، وتدجين العامة، وجرّ النخب السياسية والاقتصادية إلى طاولة “اللعبة”.

       إذن لماذا لجأ النظام إلى سَنّ قانون يجعله في نظر العالم ضُحكة؟ قانون من شأنه أن يُحفز على مقاطعة مكاتب التصويت المهجورة منذ زمان، وأن يدفع المتردّدين والمحسوبين ضمن التيار المعتدل إلى أحضان الجماهير الناقمة على السلطة، بينما هو في أمسّ الحاجة إلى فتح جميع نوافذِ التهوية لتجنب الانفجار؟

       للإجابة عن السؤال، لا بد من نظرة شاملة لتحركات السلطة خلال الفترة التي تبتدأ في تقديري بعد اندلاع حراك الريف سنة 2017. فالقرار المهزلة سبقته قرارات أخرى تفتل في الحبل نفسه، حبل شنق الحياة السياسية والاجتماعية في المغرب، وأبرزها:

       – قمع انتفاضة الريف بلا هوادة وإرسال زعمائها وعدد من شبابها إلى السجن بأحكام ثقيلة لا تناسب بتاتا فعل التظاهر السلمي.

       – اعتقال الصحفيين وأصحاب الرأي بتهم مُغرقة في السخافة والهزل كأن الأمر يحدث على خشبة المسرح لا على أرض الواقع، مثل تهمة التخطيط لإدخال دبابة من الخارج، والاتجار في البشر، أو بناءً على تدوينة/شكاية في موقع فيسبوك من مجهول!

       – قطع شرايين الحياة للصحافة المستقلة عن دوائر السلطة لقتلها في صمت.

       – تشميع بيوت و”مقرات” جماعة العدل والإحسان، أكبر تنظيم إسلامي في البلاد، بدون أي مبرر قانوني، ولا مسوغ اجتماعي، ولا أي شيء.

       – إطلاق العنان لرجال السلطة في إهانة المواطنين بالصفع والركل، ومحاكمة آخرين بسبب تدوينة على صفحة في موقع للتواصل الاجتماعي، وعودة أسلوب القمع المخزني القديم في التعامل مع الاحتجاجات والإضرابات، واختطاف المعارضين.

       – تعمد إغلاق معظم المساجد بحجة محاربة الوباء، بينما المقاهي والحانات وكل شيء في البلاد مفتوح.  

       – التشبت بنظام التشغيل بالتعاقد في قطاع التعليم الذي يعتبر كارثيا بكل المقاييس، لخطورته على السلم الاجتماعي وعلى النظام التعليمي كله.

       – طرد طلاب الجامعة بسبب نشاطهم النقابي…

       يتضح مما سبق أن النظام المغربي كان طيلة هذه الفترة إنما يبصُق في وجه الديموقراطية. قلتُ “الديموقراطية” بمعنى الأمل الذي يراود كل وطني صادق يتحرك في الساحة، والغاية التي ناضل من أجل تحقيقها ومنهم من مات خيرةُ أبناء الوطن، لا تسميةً لقيمة موجودة. وأهداف النظام الرئيسية تتلخص في ما يلي:

       1- سحق حزب العدالة والتنمية “الإسلامي”، وزرع بذور الانقسام والصراع داخل صفوفه في أفق جعله حزبا إداريا تابعا للسلطة مثل معظم الأحزاب، وذلك بتحميله المسؤولية عن الفشل الذريع والتردي العام في جميع القطاعات. ولئن كان واضحا أن غاية السلطة من حساب “القاسم الانتخابي” بناءً على عدد المسجلين هو سدّ الباب في وجه الحزب لرئاسة الحكومة للمرة الثالثة، فإن الغاية الكبرى والرهان المحوري من القرارات المذكورة آنفا هو مسخُ صورة الإسلاميين في خيال المجتمع، وغرس هذه الصورة الشائهة في وجدانه لأمدٍ طويل، وجعل كلمة “إسلامي” مرادفة لفترة سوداء كارثية من تاريخ المغرب الحديث، لم ير الشعب فيها سوى القمع، والفساد، والفقر، والاضطهاد، والجشع، والخيانة (جريمة التطبيع مع الكيان الصهيوني).

       2- خفض سقف المطالب الصاعد لا يزال إلى مرتبة ما قبل الربيع العربي، ودفع خطر ارتقائها إلى ما يمكن أن يُسقط القداسة عن بعض مكونات الحياة السياسية، أو أن يُدخل السلطة في تعقيدات وحيص بيص يصعب الانفكاك منه. وبهذا “التكتيك” يُختزلُ على سبيل المثال التظاهر من أجل الزيادة في الأجور المتدنية في قطاع التعليم إلى التظاهر من أجل حذف نظام التعاقد، وتتحول المطالبة بحرية الصحافة والرأي إلى المطالبة بإطلاق سراح الصحافيين والمدونين، ويصير الضغط من أجل تأسيس حزب بالنسبة لجماعة العدل والإحسان ضغطاً من أجل فتح البيوت المشمعة.

       3- ترسيخ فكرة أن النظام لا يخضع للضغط والابتزاز، ولا ينحني للتظاهر والإضراب والاعتصام، وأن “الحقوق” عنده تُعطى ولا تُنتزع، وهو الذي يقرر متى وكيف. وهذه غاية قد لا يدركها بعضهم، لكنها في رأيي لا تقلُّ أهميةً عن الغايتيْن السابقتيْن!

       4- تهييء انتقال الحُكم من الملك الحالي الذي أَقعدهُ المرضُ عن مباشرته بالقوة المطلوبة إلى ولي عهده في ظروف “انفراج” سياسي ومجتمعي كبير، خاصة أن الانتقال القادم لن يكون سهلاً بسبب الاضطرابات الإقليمية وتراجع أدوار الأنظمة الملكية على المستوى العالمي، وبسبب سِن الأمير الذي لن يبلغ الثامنة عشرة إلا في شهر ماي المقبل. وكعادة النظام في المرحلة الإنتقالية، لا بد لتوطيد أركان الحُكم ولخلق حالة الإجماع على العهد الجديد من قرارات كبرى لافتة، وخطاب جديد يبعث الأمل في النفوس المكلومة، ويُبشر بالمستقبل للجماهير البائِسة اليائِسة. ولمّا كان النظام لا يملِك ما يُقدّمه مالياً واجتماعياً للجياع، وللفئات المتضررة من وباء كورونا،  وللطبقة المتوسطة النازلة يوما بعد يوم إلى حضيض الحاجة والعَوَز، بسبب الوضع الاقتصادي الكارثي المُزمن الناتج عن غياب العدالة الاجتماعية والفساد البنيوي، فإنه لا أقل منَ العزْف على وَتَر “السياسة” والحقوق، والتغنّي بالشعارات التي مفادها أن البلد لم يعدْ كما كان، وأن الملك الجديد “لا يشبه أباه”، وذلك بإطلاق سراح سجناء الرأي ومعتقلي حراك الريف، وإلغاء نظام التعاقد، وربما التراجع عن تشميع بيوت جماعة العدل والإحسان.     

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي