ترك الاستعمار الأوربي في عقول الشعوب التي استغلها أبشع ضروب الاستغلال المادي والبشري بصمات عميقة –بل وخطيرة – كالأمراض المزمنة لا زالت تنخر أجسام المجتمعات تضعف دولها بوتيرة تتفاوت سرعتها إلى أن تمزقها أحيانا.
لا مجال للغوص في جميع أوجه ما يسميه البعض ”الاستعمار الجديد”، الذي زرع المستعمر ”القديم” بذوره منذ أن وطأت أحذيته العسكرية والمدنية وداست دباباته أراضي مختلف أقطار المعمور وحلقت في سماواتها طائراته لتدفق منها كل أنواع المتفجرات والسموم الكيماوية وغيرها.
سنكتفي بالحديث عن لغة مستعمر وثقافته وما تخلقه من عواقب سلبية فقط، إذ يجب من الآن الاعتراف بأن لكل لغة ولكل ثقافة مهما كانت جوانب إيجابية، حينما تتغذى منها اللغات والثقافات الأخرى تغتني وتزدهر، وحينما ترضخ لغزوها تتحلل وتندثر، طال الزمان أم قصر. ولا حاجز، لا مناعة في وجه هذا الغزو سوى ”التلقيح” (إذا أردنا الاستعارة في زمن العولمة والأوبئة) باللغة-الثقافة الأم بجميع مكونات روافدها السليمة، مثلا العربية والأمازيغية في المغرب والمغرب الكبير.
وعن قصد أستعمل هنا عبارة (أو كلمة مركبة) ”اللغة-الثقافة”، إذ اللغة ليست كما يعتقد البعض مجرد آلية تقنية للتعبير، بل هي بالإضافة لهذا تبث نوعا من التفكير، وهي خزان ثقافة – بحمولاته الدينية والقِيَمية والعلمية…- وأداة نقلها وتطويرها والعكس؛ فكلاهما يغذي الآخر في صيرورة جدلية.
اللغة كنه الثقافة. كلما ازداد رصيد لغة أجنبية في لغة أم، كلما ازداد رصيد ثقافتها في الثقافة الأم. ودون الغوص في معنى أو معاني الثقافة، تكفي الإشارة إلى أنها نوعان أو مستويان. المستوى الأول يشمل كل مخزون المعارف والأفكار والمعتقدات والتقاليد والعادات في جميع المجالات، بينما ينصرف المستوى الثاني لكل ما هو معارف وعلوم وفنون ” راقية”، وأحيانا للرصيد المقتصر على مجال محدود، فيقال مثلا ”ثقافة موسيقية” أو ”دينية” أو غيرهما.
وللتوضيح أكثر، فالثقافة بالمعنى الأول تخص المجموعات البشرية كالشعوب والقبائل مهما شاعت في أوساطهم الأمية مثلا، بينما يسري المفهوم الثاني على المثقفين… ولو أن الأمية لصيقة بالجهل فإنها ليست مرادفة له، لذا نجد مثقفين وفنانين بالسمع وليس بالكتابة أو القراءة. كم من مثقف لا يقرأ ولا يكتب، وكم من مثقف من كثر القراء أو المطالعة لا يكتب. ويعتبر المجتمع مثقفا حينما يكون غالبية أفراده مثقفين. ولا نعتقد أن هذا ممكنا إلا بتعميم التعليم والتربية السليمين واستعمال اللغة الأم كأساس لهما. كأساس وليس استئثارا، لأن التفتح على اللغات-الثقافات الأخرى أفضل سبيل للمقارنة والاحتكاك وبناء القدرات الشخصية والجماعية على استئصال ما هو سلبي في لغتنا-ثقافتنا الأم (التحجر، الانزوائية…) وإبعاد مثيله في اللغات-الثقافات المعنية الأخرى (عوامل الاستلاب والخنوع).
لا تنمية لغوية بدون تنمية ثقافية ولا تنمية ثقافية بدون استعمال مطرد سليم للغة (أو اللغات) الأم مهما كلفنا هذا من مجهود وجهاد على أنفسنا وما تراكم فيها من لجوء شبه آلي لاستعمال الفرنسية أو الإسبانية أو العرنسية وكأن لغتنا العربية عاجزة عن التعبير حتى عن أبسط الأمور، أو ليس فيها مرادفات لجل المفردات التقنية، أو أننا عاجزون عن الترجمة. كل هذا رغم أنها أغنى، وأن عدد متحدثيها أكثر من مستعملي الفرنسية وأكثر انتشارا منها في الوقت الحاضر؛ ورغم أننا أصبحنا محل استغراب، بل واستهزاء وتحقير من قبل كثير من الأجانب، بما فيهم بعض الفرنسيين، الذين يسمعوننا نتكلم الفرنسية أو العرنسية.
وربما اللغة هي المُكوَّن الأهم للهوية وتراجعها أو ضعفها يضعف الهوية، يقر الاستلاب، وفقدانها يمحو الهوية محوا شبه تام. وإذ أتحدث عن الهوية لا أجهل الهوية المتعددة أو متعددة الأبعاد؛ في حال عدم الاعتماد على اللغة-الثقافة الأم فإننا نبتر هذه الهوية المتعددة.
أكيد أن بعضنا لم يلج المدرسة المغربية ويكمن القول أنه يتحدث الفرنسية بفعل العادة أو الممارسة. لا أقول بحكم هذه أو تلك، فقد بلغني أن البعثة الفرنسية تلقن العربية لتلاميذها، وربما أفضل مما تفعله المدرسة المغربية، وهذا كاف لأن تتكلم فئة أو فئات من النخب المغربية العربية.
أكيد أن بعضنا الآخر يرفض التحدث إلينا نحن المغاربة بالعربية بدعوى أنه أمازيغي ”قح” وأن الأخيرة لغة ”غزاة” (كلام تردد على مسمعي مرات ومرات). لن أغوص هنا في نقاش عقيم لأن الأمر يتعلق هنا بأقلية قليلة، ربما تقلصت أكثر منذ أن أصبحت الأمازيغية لغتنا الرسمية إلى جانب العربية، لأن من لا يزال يصر على هذا الرفض يجهل أن ليس هناك عرقا ”قحا”، ويعتبر نفسه أقرب إلى الفرنسيين منه إلى أبناء جلدته، وهذا ما أراه استلابا لا يقل عن الاستلاب الشائع عبر مجموع التراب الوطني والمغاربي وحتى العربي.
أكيد كذلك أن فئة منا تقرن التحدث بالفرنسية حصرا بالحداثة والمعاصرة والحضارة، رغم أنهم ليسوا ملمين بمقومات الحضارة الأجنبية التي نصّبوا أنفسهم، عن قصد أو عادة، حاملين لها وناشرين لها،. كأن الحضارة العربية الإسلامية أصبحت في خبر كان، وأن اللغة العربية أضحت لغة ”ميتة” كاللاتينية مثلا. ربما يجهلون أن من يصنع الحداثة والمعاصرة والحضارة له ولوطنه، إن لم نقل لأمته (هناك ”إسلاميون” أو”إسلامَوِيِون” و”محافظون” و”حداثيون”… لا يكلمونك بالعربية إلا في المناسبات الدينية)، ومن يُعصرِن اللغة والثقافة هو الإنسان، والإنسان المثقف ومن يعتبر نفسه من نخبة هدا الوطن.
و أخيرا وليس آخرا إن الكثيرين ممن يتطلعون للوصول إلى النخبوية –وهي درجات- يصارعون أنفسهم للحديث بلغة أجنبية، ولتقمص مظاهر حداثة تدعو للضحك (أو الاشمئزاز) وهم لا يسعًون شعوريا أو لا-شعوريا إلا لترسيخ الاستلاب اللغوي-الثقافي… وإننا جميعا لا نعمل كل ما في وسعنا من أجل تغيير هذا التوجه الخطأ الذي لا محالة لا يساعد على تحقيق تنمية متجانسة مستدامة على غرار ما حصل ويحصل في دول أخرى غالبا ما نعطي بها المثل.
فلننظر في الشوارع والساحات والأزقة إلى أعداد واجهات البنايات والمحلات التجارية والمهنية… المغربية (ناهيك عن الأجنبية) التي لا تحمل إلا أسماء أجنبية -وكأن ليس في الحضارة المغربية والعربية الإسلامية أسماء تشرفها- وعلامات مكتوبة بالفرنسية أو الإنجليزية وحدها، متجاهلة ما أورده الدستور من كون اللغتين الرسميتين هما العربية والأمازيغية. لا أعتقد أننا نجد هذا في الصين أو اليابان أو أمريكا أو أوربا.
يفر البعض من استعمال العربية كفراره من عدو خيالي بتقديم تبريرات واهية، مثلا قوله بأن العربية ليست لغة علم أو علوم. وإذا ما تجاوزنا الدروس التاريخية التي تثبت العكس، فالعلوم نتاج مجتمعي وليس نتاج لغة. حينما نبدع أو نخترع شيئا، يمكننا أن نبحث له عن اسم في لغتنا وإن لم نجده بسهولة فإننا سوف نضطر لتطوير هذه اللغة؛ كل لغة عبارة عن اتفاق مجتمعي. ومع ذلك، يمكن لمن أراد أن يبدع لغويا –بالعربية أقصد- شيئا خياليا يمكنه ذلك، دليله في هذا ما فعله العديد من روائيي الخيال العلمي بالإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما، استباقا لاختراعات علمية، مثلا. من جهة ثانية، لقد برهنت اللغة العربية على قدرتها على الترجمة الدقيقة لأدوات علمية-تكنولوجية. فاليوم مثلا، الجميع تقريبا يسمي ”المذياع” بـ”الراديو”: المذياع أفضل، لأن الراديو يفيد معاني أخرى، منها الإذاعة (المؤسسة) ومنها ما يتعلق بالفحص بالأشعة. ما علينا، فجميع اللغات تتبنى وتدخل في قواميسها كلمات من لغات أخرى تصبح متداولة كأنها كلماتها الأصلية، إذ اللغة، أي لغة، هي أيضا –أكرر- اتفاق مجتمعي. ولكن -منطقيا- تدخل هذه الكلمات حينما لا توجد في اللغة المترجَم إليها مرادفات… وإلا، فتدريجيا تفقد هذه اللغة من غناها وتنوعها… وتفسح المجال تدريجيا للاستلاب، وما العرنسية في نظري إلا إخفاق في التمكن من اللغتين الأم واللغة الغازية معا، تبخيس للأولى ينم عن عجز معرفي وثقافي، وقصور في المجهود، وشعور-لاشعوري بمُركب نقص أمام الثانية.
وجه آخر من تبخيس اللغة الأم، العربية في هذه الحالة، هو المطالبة بالتدريس بالدارجة. أية دارجة؟ سمعت أناسا يقصدون بها العرنسية، أو العرنسبانية… بينما كانت بالنسبة لي ”العرمازيغية” بحيث أن لغتنا العامية كانت أسسها المتينة العربية بالإضافة إلى ما فيها من أمازيغية كما أن الأمازيغية –على الأقل حينما أستمع لأصدقائي أو للإذاعة- تتضمن كلمات عربية.
سبق وأن لمحت أن اللغات ليست جامدة وأنها تثري بعضها البعض وتزرع دينامية جديدة في ثقافاتها. لا داعي إلى إعطاء عدد الكلمات العربية التي تبنتها اللغات الأجنبية ولا زالت تتبناها وتدخلها قواميسها، ومنها الفرنسية. ويمكن للغة العربية المغربية أن تغتني من الأمازيغية. ولكن اعتماد الدارجة –خاصة بمفهومها كعرنسية وما إلى ذلك- في اعتقادي ليس إلا الجر إلى الوراء… نحو الخلف والتخلف.
كما أن دعاة التشبث بالعربية وحدها- وإن كانت القاسم المشترك الذي يجمع الصحراوي، بالشرقي، بالريفي، بالسوسي، بالجبلي…- دون التمكن من لغات أخرى ليس إلا ضربا آخر من ضروب الجر إلى الخلف والتخلف الاقتصادي والاجتماعي والحضاري والرغبة في تحنيط العقل المغربي وما تبقى من العبقرية المغربية، والركون إلى عهد ازدهار ولى إلى غير رجعة في زمن يتطلب من الجميع بناء عقل جديد –أو عقلية جديدة- لنتمكن من تجديد ثقافتنا وحضارتنا، دون طمس لهويتنا أو نبذ لمقومات أساسية تزخر بها هذه الحضارة.
فلنبدأ بمحو البصمات اللغوية للاستعمار، الدالة على الاستلاب والعاملة على ترسيخه في تصرفاتنا اليومية، وأعمالنا البسيطة.
في عصر العولمة، أهم من احتلال الدول عسكريا (وقبله)، احتلال العقول!
عميد كلية الحقوق بوجدة سابقا
تعليقات الزوار ( 0 )