شارك المقال
  • تم النسخ

اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي ورسائل كورونا المشفرة

أصبح من الثابث اليوم، بعد تفشي وباء كورونا الذي اجتاح العديد من دول العالم وتضاعف أعداد المصابين والوفيات بشكل مهول ، أن الخيارات الإقتصادية  والإجتماعية المتاحة  للدولة في  بناء نموذج تنموي جديد  أضحت واضحة المعالم  و تستدعي الوقوف على مجموعة من الإختلالات البنيوية التي أفرزتها الأزمة الحالية، فالمغرب  الذي سجل أول حالة  مؤكدة لوباء كورونا  COVID -19 يوم 02 مارس 2020  سارع إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الإستباقية لمواجهة هذا الوباء،  في ظل الخصاص الكبير الذي تعاني منه المنظومة الصحية بالمغرب  سواء من حيث الأطر الطبية المؤهلة  أو من  ضعف الإعتمادات المالية المخصصة لهذا القطاع.

ورغم فرض حالة الطوارئ الصحية بالمغرب منذ 20 مارس 2020، والتي صاحبها انخراط واسع للسلطات المحلية وفعاليات المجتمع المدني في جهود التوعية بهذا الوباء، إلا أن تضاعف حالات الإصابة وارتفاع عدد الوفيات قد دق ناقوس الخطر   أمام سرعة انتشار هذا الفيروس وصعوبة إحتوائه،  بالمقابل لم يكن الإقتصاد الوطني بمنأى عن تداعيات هذا الوباء رغم التدابير الإحترازية التي اتخدتها الحكومة لمواجهة آثاره السلبيية على النسيج الإقتصادي والمقاولاتي، فحجم الخسائر التي تكبدتها قطاعات السياحة والتصدير و النقل والخدمات، باعتبارها الٌقطاعات الأكثر تضررا من أثار هذه الجائحة، ساهم بشكل كبير في ازدياد مخاوف الإقتصاديين من تقلص نسبة نمو الناتج الداخلي الخام لهذه السنة التي  تميزت بشح التساقطات المطرية وهو ما زاد من تعميق  مظاهر الأزمة الإقتصادية.

وفي هذا السياق، فقد تم إحداث صندوق خاص لتدبير ومواجهة وباء كورونا تنفيذا للتعليمات الملكية السامية بغلاف مالي يقدر بعشرة ملايير درهم، يخصص أساسا للتكفل بالنفقات المتعلقة بتأهيل الآليات والوسائل الصحية. كما سيساهم في تأهيل الاقتصاد الوطني من خلال دعم القطاعات الأكثر تأثرا بتداعيات فيروس كورونا والحفاظ على مناصب الشغل والتخفيف من التداعيات الاجتماعية لهذه الجائحة.

وفي الوقت الذي تعكف فيه اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي على تكثيف مشاوراتها مع الفاعلين المؤسساتين وفعاليات المجتمع المدني بعد تكليفها من طرف الملك محمد السادس بإعادة تحيين وتجديد النموذج التنموي الوطني، أعادت الأزمة الحالية التي يعيشها العالم من جراء تفشي هذا الوباء النقاش حول الأولويات الكبرى  لانتظارات المغاربة  وتصوراتهم  حول النموذج التنموي الجديد، فالحصيلة الحالية لهذا الوباء أظهرت بشكل جلي ضعف وهشاشة منظومة الصحة والتعليم والشغل. حيث عرت الأزمة الصحية الحالية واقع  الإكراهات  الكبيرة التي تعاني منها هذه القطاعات رغم أهمية  الإستثمارات العمومية  التي تم ضخها  لتحسين الخدمات الإجتماعية  ودعم نجاعة المرافق العمومية وتيسير الولوج إليها.

ولمقاربة هذا الموضوع وبسط الإشكالات المرتبطة به، سنحاول تسليط الضوء على  أهم مواطن القصور  وأبرز  أوجه الإختلالات التي تعيق منظومات وبنيات التربية والصحة والتشغيل،  وسنستعرض بعد ذلك المداخل الرئيسية  لتجويد الخدمات الإجتماعية بالشكل الذي يضمن تكافؤ الفرص بين مختلف المرتفقين و الحد من الفوارق و التفاوتات المجالية، وتحقيق العدالة الإجتماعية من أجل بناء نموذج تنموي دينامي يعزز قيم التضامن والمواطنة بين مختلف مكونات المجتمع  و يحدث قطائع إيجابية مع الممارسات والتراكمات السابقة.

أولا – اختلالات العرض الصحي بالمغرب : ضعف الإنفاق الصحي وصعوبة الولوج إلى العلاجات

ساهم  التفشي السريع   لوباء كورونا في مناطق مختلفة من العالم في  إعادة ضبط وظائف الدولة، وذلك بالإنتقال من منطق الدولة الحارسة  إلى  إعادة اعتماد مفهوم الدولة المتدخلة باعتبارها الفاعل المركزي في المجتمع ولا يقف دورها عند حدود الحياد ، بل يتعدى ذلك الى الأمن الاجتماعي المتمثل في توفير مقومات الحياة المدنية الضرورية  وخاصة منها الاقتصادية والاجتماعية،  وفي هذا السياق فقد عمل المغرب منذ بداية تسجيل حالات الإصابة فوق الترا ب الوطني على اتخاذ حزمة من التدابير والإجراءات التي همت أساسا  إقرار  مرسوم رقم 2.20.292 المتعلق  بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، وتخصيص جزء من موارد الصندوق الخاص  لـتأهيل القطاع الصحي وتغطية نفقاته، بالإضافة إلى وضع المراكز الطبية المجهزة التابعة للقوات المسلحة الملكية بمختلف جهات المملكة، رهن إشارة المنظومة الصحية بكل مكوناتها.

ورغم أهمية المقاربات الإستباقية التي تم تبنيها لمواجهة هذه الجائحة وإشادة العديد من المنظمات الدولية بفعالية التدابير الإحترازية التي اعتمدها المغرب، إلا أن واقع المنظومة الصحية بالمغرب  يخفي العديد من الإكراهات والإختلالات ذات الصلة بحكامة القطاع وبجودة العرض الصحي بالمغرب والتي سنحاول استعراضها على الشكل التالي:

ضعف فعالية الإستثمار العمومي  في قطاع الصحة وتدني مستوى الإنفاق الصحي للأسر المغربية

أشار المجلس الإقصادي والإجتماعي والبييئي في تقريره برسم سنة 2019 أن الميزانية المخصصة لقطاع الصحة  بالمغرب تشكل حوالي 6%  من ميزانية الدولة، وبالتالي فهي تظل أدنى من المستوى الموصى به من طرف منظمة الصحة العالمية ) مابين 10 و 12 في المائة( وهو مايشكل عائقا كبيرا أمام الجهود المبذولة  لتحسين مستوى الولوج إلى الخدمات الطبية بشكل عادل ومنصف.

.ويساهم التوزيع المجالي الغير متكافئ  للإعتمادات المرصودة في القطاع الصحي  ونقص التجهيزات الطبية وعدد الأسرة في المؤسسات العلاجية في تعميق أزمة المنظومة الصحية بالمغرب، كما أن الموارد المخصصة للبحث العلمي في المجال الصحي تبقى هزيلة ومحتشمة بالمقارنة مع معايير المنظمات الدولية، ولعل الأزمة الصحية الحالية وما صاحبها من ضعف الأبحاث والدراسات الطبية المخصصة لمكافحة وباء كورونا تظهر بالملموس أن الإستثمار في مجال البحث العلمي لا يحظى بالأهمية ضمن أولوويات مدبري الشان العام بالمغرب.

وبحسب إحصائيات رسمية، تتحمل الأسر المغربية أكثر من 53 في المائة من مجموع النفقات الطبية على المستوى الوطني، فالتوزيع الغير العادل للبنيات التحتية بين الجهات  و  النقص الحاد في الموارد البشرية من أطباء و ممرضين وأطر طبية وشبه طبية والتي تتوزع بشكل غير متوازن على مستوى التراب الوطني يحد بشكل كبير من سهولة الولوج إلى العلاجات  لا سيما في المناطق القروية.

تجربة نظام المساعدة الطبية RAMED  : تواضع النتائج و صعوبة الإستهداف

طبعت تجربة نظام المساعدة الطبية RAMED   بالمغرب، بعد ثمان سنوات من تعميمها، العديد من مواطن الضعف والقصور مع استمرار أوجه عدم التكافؤ إجمالا في الولوج إلى الرعاية الطبية، الشي الذي قلص من نجاعته وقدرته على الاستجابة لحاجيات الفئات المستهدفة، ولا سيما منها الأكثر عوزا وهشاشة، وقد بلغ عدد بلغ عدد المستفيدين من نظام المساعدة الطبية “راميد” برسم سنة  2019 أزيد من 14.5 مليون مستفيد منها 51% بالوسط الحضري و49% بالوسط القروي حسب إحصائيات وزارة الصحة.

وفي هذا السياق، فقد أشار  تقرير للمرصد الوطني للتنمية البشرية لسنة 2017   إلى أن التفاوت بين العرض والطلب على العلاجات بالمستشفيات العمومية  أدى إلى نمط للتدبير يقوم على أساس ندرة الموارد في ظل عدم وجود زيادة مماثلة في النفقات. وقد أفضى هذا الأمر  إلى تضخم في طوابير وقوائم الإنتظار، كما أن إحداث نظام راميد ساهم في  زيادة التكاليف غير المباشرة بالنسبة للمستفيدين من نظام المساعدة الطبية، مما يجبر بعضهم على اللجوء إلى تلقي العلاجات في القطاع الخاص، بالإضافة إلى أن تفعيل المجانية التامة للعلاجات كما وعد بها القائمون على نظام راميد، لم يستفد منها سوى أقلية فقط، أما الباقون فال يزالون يدفعون مبالغ كبيرة .

ورغم المكتسبات التي تم ترصيدها منذ تعميم  نظام المساعدة الطبية   RAMED لا سيما في مجال الولوج إلى الخدمات الصحية و توسيع قاعدة المستفيدين من التغطية الصحية، إلا أن  الحاجة إلى إعادة تقييم هذا النظام وإعادة النظر في معايير الإستحقاق وأوجه الإستهداف و آليات الحكامة أصبحت ملحة، خاصة بعد تداعيات الأزمة الصحية الحالية  التي عرت واقع المنظومات الصحية العالمية ، فالمواطن يجد نفسه اليوم إزاء منظومة صحية تسير بسرعتين، وتعاني من ازدواجية حادة  بين  قطاع صحي خاص يتسم بجاذبيته  لكنه مرتفع التكلفة سواء بالنسبة للمرضى أو لأنظمة  التغطية الصحية، وبين قطاع صحي  عمومي ماض في التدهور ويعمل تحت الضغظ.

ثانيا – إفلاس سياسات التكوين والتشغيل بالمغرب : زخم الإستراتيجيات و ضعف الجاذبية

تشكل منظومة التربية والتكوين إحدى الدعامات الأساسية في المشروع المجتمعي الوطني، باعتبار دورها الرائد في تربية وتكوين الرأسمال البشري وتأطيره واستثماره في تحصين هوية الأمة المغربية وثقافتها، والرقي بالبلاد إلى مصاف المجتمعات المتقدمة، ويشكل إصلاحها وانتقاء النموذج التربوي الفعال واللائق بتحديات وانتظارات المجتمع المغربي، أولوية الأولويات الوطنية الحاسمة[1].

وقد أثارت الأزمة الصحية الحالية  العديد من الأسئلة حول مدى جاهزية قطاع التربية والتكوين بالمغرب لمواجهة التطورات المتسارعة التي شهدتها المنظومة الدولية نتيجة تفشي وباء كورونا خصوصا بعد قرار وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي تعليق الدراسة بجميع الأقسام والفصول وذلك في إطار التدابير الاحترازية الرامية إلى الحد من العدوى وانتشار “وباء كورونا”.

إصلاح منظومة التربية والتكوين بالمغرب بين  طموح الخطاب وقصور النتائج

 سارع مدبروا الشأن التربوي بالمغرب إلى اللجوء إلى التدريس عن بعد لاستدراك ماتبقى من مقررات السنة الدراسية عبر اعتماد منصات رقمية افتراضية للتدريس، خاصة بعد تنصيص القانون الإطار للتربية والتكوين  51.17 المتعلق  بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي على ضرورة تنمیة وتطویر التعلم عن بعد، باعتباره مكملا للتعلم الحضوري، و تعزيز إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في النهوض بجودة التعلمات وتحسين مردوديته.

وبغض النظر عن مدى قدرة النظام التعليمي بالمغرب على رفع هذه التحديات ومواكبة التطورات التي فرضتها الظرفية الدولية الحالية، إلا أن واقع منظومة التربية والتكوين بالمغرب يوحي بجملة من الإختلالات  والنقائص التي تعرقل جهود الدولة في تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية المأمولة، ونستعرض فيما يلي أبرز الإكراهات :

ـ رغم الميزانيات الضخمة المرصودة لإصلاح قطاع لتعليم وتعدد البرامج والخطط الإصلاحية، إلا أن الكثير من الأبحاث والدراسات والتقارير الوطنية[2] والأجنبية[3] أجمعت على  أن المدرسة المغربية لم تتمكن بعد من تجاوز ضعف المردودية واكتساب الفعالية المرجوة وتحقيق الإنصاف المأمول وضمان تكافؤ الفرص .

ـمازالت  ظاهرة الهدر المدرسي تلقي بانعكاستها السلبية على المنظومة التربوية بالمغرب بسبب الظروف الإجتماعية غير المواتية لمواصلة الدراسة، فضلا عن كون برامج الدعم الجتماعي التي تم اعتمادها في قطاع التربية والتكوين لم تعط النتائج المرجوة منها )برنامج تيسير، مليون محفظة مدرسية، المدارس الداخلية ..[4](، وقد قدرت الهيئة الوطنية للتقييم سنة  2016 ثمن الهدر المدرسي  بـ 1,2 مليار درهم في أسلاك التعليم الثلاثة.

ـ لازال النظام التعليمي المغربي يعاني من وقع التفاوتات الصارخة بين التعليم الخصوصي الموجه للفئات الإجتماعية الميسورة  والتعليم العمومي المفتوح في وجه الفئات الإجتماعية الهشة والذي أصبح أداة لتكريس الفوارق الإجتماعية  وهو مايقوض سبل الاستفادة العادلة من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة  حسب ما نصت عليها الوثقيقة الدستورية لسنة 2011 و عبرت عنها الرؤية الإستراتيجية لإصلاح التعليم 2015 – 2030.

ـ لا زالت منظومة التعليم العالي بالمغرب تتخبط في العديد من الإشكاليات المرتبطة خاصة بأولوية تجديد المناهج و إعادة النظر في الهندسة البيداغوجية للتكوينات المقدمة، وضعف تجانس مكونات التعليم العالي التـي تشتغل بشكل معزول عن محيطها الإجتماعي والإقتصادي، وتتبنى نموذجا يقوم على التلقين والتحصيل لإنتاج أجيال غير قادرة على الإندماج في محيطها السوسيو اقتصادي في ظل غياب آليات واضحة وناجعة للتوجيه المدرسي والمهني، بالإضافة إلى أن النظام البيداغوجي المعمول به حاليا لا يحفز تطوير البحث العلمي والإبتكار  من أجل الإنخراط الفعال في مجتمع المعرفة والإنسجام مع متطلبات الثورة الرقمية.

السياسات العمومية في مجال التشغيل : ضعف إلإلتقائية وعدم مواءمة العرض التكويني لحاجيات سوق الشغل

ألقت التداعيات الحالية لأزمة تفشي وباء كورونا بظلالها الثقيلة  على الإقتصاد الوطني حيث تضررت العديد من القطاعات الحيوية من جراء قرار إغلاق الحدود وفرض حالة الطوارئ الصحية، وهو هو ماسارع إلى إنشاء  لجنة اليقظة الإقتصادية  لمواجهة انعكاسات وباء فيروس “كورونا المستجد” على الاقتصاد الوطني، وتحديد الإجراءات المواكبة، ومن المتوقع أن يسجل الاقتصاد المغربي أسوأ معدل نمو  له منذ 20 عاماً، وذلك بسبب أثار  شح التساقطات المطرية على الموسم الفلاحي الحالي  والتأثيرات السلبية لفيروس كورونا على العديد من القطاعات الإنتاجية. بالمغرب.

وفي هذا الصدد، فقد اتخذت  لجنة اليقظة الاقتصادية جملة من التدابير والإجراءات التحفيزية لفائدة المقاولات  المتوسطة والصغرى والمهن الحرة التي تواجه صعوبات، تتجلى أساسا في تعليق أداء المساهمات الاجتماعية إلى غاية 30 يونيو 2020 و تأجيل سداد قروضها البنكية، الإضافة إلى تخصيص مبلغ 2000 درهم لفائدة ا لأجراء والمستخدمين والبحارة الصيادين المتوقفين مؤقتا عن العمل المصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

وعمقت الأزمة الصحية الحالية من الإختلالات الكبيرة التي تعاني منظومة التشغيل في المغرب،  فقد عرفت معدلات البطالة بالمغرب خلال السنوات الأخيرة نموا مضطردا خاصة في أوساط الشباب، فحسب الإحصائيات التي نشرتها المندوبية السامية للتخطيط في مذكرتها الإخبارية حول أهم مؤشرات جودة الشغل خلال سنة 2016، فإن قرابة شاب من بين أربعة شباب متراوحة أعمارهم ما بين 15 و24 سنة  أي حوالي 1.685.000 شاب على المستوى الوطني لا يعملون ولا يدرسون ولا يتابعون أي تكوين، وهذه الأرقام المهولة تعبر بشكل جلي عن قصور السياسات العمومية في مجال التشغيل وعدم التقائيتها، فالبرامج الطموحة التي يتم صياغتها لتحقيق الإدماج الإقتصادي والمقاولاتي للشباب تبدو غير قادرة على استهداف هذه الفئة وقاصرة عن تمكين هذه الفئة من فرص حقيقية للشغل.

وتتداخل العديد من العوامل الإقتصادية والإجتماعية والمؤسساتية لتعميق أزمة التشغيل بالمغرب في ظل ضعف انخراط الفاعلين العموميين والخواص في مسار تتبع وتقييم البرامج والمبادرات الهادفة إلى  إدماج الشباب في النسيج الإقتصادي وتسهيل ولوجهم إلى سوق الشغل، ونستعرض فيما يلي أبرز هذه الإكراهات :

ضعف نجاعة وفاعلية سياسات التشغيل الرامية إلى  إدماج الشباب في الحياة العملية :

لم تستطع البرامج الحكومية التي تم تنزيلها للنهوض بتشغيل الشباب تحقيق الأهداف التي تم التعاقد بشأنها، فبرنامج مقاولتي على سبيل المثال  والذي يهدف إلى خلق المقاولات الصغيرة لتشجيع الشباب حاملي الشهادات على الانخراط في التشغيل الذاتي لم يحقق النتائج المتوخاة منه، حيث  لم يستفد من هذا البرنامج، حسب تقرير المجلس الإقتصادي والإجتماعي لسنة 2011،  سوى 4000 شاب من أصل 30.000 شاب كسقف تم تحديده، وهو مايوحي إلى ضعف التتبع والتقييم والمواكبة للشباب المستفيدين من هذا البرنامج، خصوصا في مجال الولوج إلى آليات التمويل والتكوين المستمر.

من جهة أخرى، يظل تأثير آليات الوساطة العمومية في مجال التشغيل محمدودا، حيث تعجز الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات، رغم النتائج المهمة التي تم تحقيقها في مجال إنعاش التشغيل، عن  استهداف فئات الشباب بدون شواهد والتي تشكل فئة جد عريضة من الشباب العاطل

ضعف جاذبية العمل في القطاع الخاص

رغم الجهود الحكومية المبذولة لتشغيل حملة الشواهد عبر إحداث ألاف مناصب الشغل كل سنة، وتبني سياسة التوظيف بالتعاقد لا سيما في قطاع التعليم، إلا أن سوق الشغل يبقى غير قادر على استيعاب هذا الكم الهائل من أفواج العاطلين، وهوما يساءل الأدوار المنوطة بالقطاع الخاص كشريك استراتيجي في بلورة سياسة مندمجة لتشغيل الشباب. 

ومن بين الإكراهات الحقيقية التي تواجه القطاع الخاص في المغرب هيمنة القطاع الغير مهيكل على نسبة كبيرة من النشاط الإقتصادي وتشغيله لفئات واسعة من الشباب بأجور متدنية وبدون توفير التغطية الصحية والإجتماعية للأجير، هذا بالإضافة إلى الصعوبات والعراقيل  التي يواجهها الشباب خلال مراحل إنشاء المقاولات الذاتية والتي غالبا ماتصطدم بتعقد وطول المساطر الإدارية وضعف المصاحبة والمواكبة لهذه المقاولات حتى تندمج في النسيج الإقتصادي.

عدم ملاءمة التكوين الذي توفره منظومة التربية والتكوين لحاجيات سوق الشغل:

يشكل سؤال التكوين في علاقته بآفاق الإدماج في النسيج الإقتصادي مأزقا حقيقيا يؤرق مدبري الشأن العام، فرغم الجهود المبدولة من طرف وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي لتطوير النموذج البيداغوجي وتنويع مسارات التكوين، إلا أن عدم  ملاءمة التكوينات مع متطلبات سوق الشغل يزيد من ارتفاع معدلات البطالة بشكل مضطرد وذلك بسبب غياب تشخيص علمي دقيق للحاجيات من اليد العاملة المؤهلة في صفوف الشباب وضعف التنسيق والشراكة بين مكونات النسيج المقاولاتي ومؤسسات التكوين المهني  مما يحد من فرص الإندماج المهني والولوج إلى سوق الشغل.

ثالثا – ملامح النموذج التنموي الجديد مابعد كورونا : نحو تعاقد اجتماعي جديد من أجل بناء  المستقبل

عبر الشعب المغربي خلال الأزمة الصحية الحالية عن تمسكه بقيم التضامن  والمواطنة الصادقة وانخراطه المسؤول في البناء والتغيير، وأعطى إشارات قوية للعالم عن روح المسؤولية والوعي المجتمعي التي يتحلى بها المجتمع المغربي بمختلف أطيافه، وهي دلالات  واضحة أن الأستثمار الحقيقي المعول عليه اليوم ليس في الموارد  والإمكانيات الإقتصادية، بل هو استثمار في الإنسان والفكر،  ولن يتأتى هذا المبتغى إلا بإعادة تأهيل القطاعات الإجتماعية وتوفير الحماية والرعاية الكفيلة بتحسين مستوى عيش المواطن لا سيما في ميادين الصحة والتعليم والتشغيل.

إن الحديث اليوم عن إعادة إحياء مفهوم  الدولة الإجتماعية في مواجهة تحديات العولمة بالشكل الذي يوفر  الرعاية الإجتماعية الضرورية للمواطن  ويحمي قدرته الشرائية ويضمن إعادة توزيع الثروات بشكل عادل ومنصف، يسائل اليوم الساهرين على بلورة نموذج تنموي جديد للمغرب لإعادة التفكير في خلق بدائل تنموية  جديدة بالمغرب بعد ثبوت فشل المقاربات التنموية السابقة، بجعل الإنسان في صلب كل البرامج التنموية وتيسير ولوجه للخدمات الإجتماعية بشكل سلس وذي جودة وضمان تملكه  لأدوات المعرفة.

فاللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد مطالبة اليوم  بسرعة الإنفتاح على كل الفعاليات الإقتصادية والإجتماعية ومكونات القطاع الخاص من أجل بلورة تصور عام للتنمية ينسخ كل التدابير التشخيصية السابقة، ويركز على إعادة بناء منظومة اجتماعية صلبة قائمة على أسس المساواة وتكافؤ الفرص، بالإضافة إلى تحصين وترصيد المكتسبات السابقة وبعث جيل جديد من الخدمات الإجتماعية القادرة على  تذليل كل الفوارق الإجتماعية والمجالية الموروثة عن السياسات التنوية السابقة.


الهوامش:

[1] التقرير الوطني حول اللقاءات التشاورية حول المدرسة المغربية، وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، شتنبر 2014، ص: 7.

[2]  تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين والبحث العلمي 2013-2000: المكتسبات والمعيقات والتحديات” الهيئة الوطنية لتقييم منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي 

[3]  صدر في يناير 2014 عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو التقرير العالمي الجديد حول تحقيق الجودة في التعليم في العالم. ووضع هذا التقرير المغرب ضمن 21 أسوأ دولة في مجال التعليم إلى جانب موريتانيا و باكستان وعدد من البلدان الإفريقية الفقيرة جدا.

[4]  النموذج التنموي الجديد للمغرب، مساهمة المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي 2019، ص : 50

باحث في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة، ورئيس مركز طاقات للدراسات والأبحاث والتداريب

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي