يبدو أن الروائية أحلام مستغانمي استنفدت حكايات الحب الرومانسية، فلجأت أخيراً إلى كتابة سيرة ذاتية وجماعية بعنوان “أصبحتُ أنتَ” (دار نوفل، 2023). بعد نجاحات شعبية حقّقتها رواياتها السابقة كـ”ذاكرة الجسد” و”فوضى الحواس” و”عابر سرير” و”الأسود يليق بك” وحوّلت مستغانمي إلى إحدى أكثر الكاتبات العربيّات قراءة في العالم العربيّ، خصوصاً لدى الفتيات والسيدات، توجّه الكاتبة نصّها الصادر حديثاً إلى والدها المناضل الجزائريّ المعروف، وتحوّل العمل السرديّ إلى رسالة تخاطب فيها والدها مباشرة وتطلعه على كلّ ما لم تخبره به طيلة هذه السنوات التي فاتت، فتكتب: “كلّ كتاباتي كانت تنقصها دهشتك. كلّ نجاحاتي كان ينقصها زهوك. أيّ شقاء أن تكتب للقارئ الوحيد الذي لن يقرأك. (…)هذا الكتاب لك.” (ص 17- 22).
العلاقة بالأب
يمكن تناول هذه السيرة انطلاقاً من ثلاث علاقات: علاقة مستغانمي بوالدها، علاقتها بالوطن وعلاقتها بالكتابة. وعلى اختلاف هذه العلاقات يبقى الأب هو المرسل إليه، هو المخاطب وهو مرآة الذات وكنهها ومبتغاها. من هنا العنوان “أصبحتُ أنت”. فعلى الرغم من أنّ المثل السائر هو أن تكون الفتاة شبيهة بأمّها، يبدو أنّ مستغانمي كسرت هذه القاعدة وتحوّلت إلى صورة طبق الأصل عن والدها، فتكتب: “بعدكَ أصبحتُ أنتَ. أعدتُ اقتراف كلّ حماقاتك، خسرتُ بسخاء، وبسخاء تهكّمتُ على خساراتي… كتبتُ قصائد بشغفك، بولعك وحزنك. خبّأتُ رسائل من أحبّوني، بخوفك على رسائل من أحببتَ.” (ص: 15).
تتحوّل العلاقة بين أحلام مستغانمي ووالدها من علاقة أب بابنته، إلى علاقة شيخ صاحب طريقة بمريده الذي يتمنّى أكثر ما يتمنّى، أن يشبه شيخه محطّ إعجابه وتبجيله. فمستغانمي معجبة بشخصيّة والدها، هي معجبة بفكره وشخصه، بعنفوانه، بكبريائه، بنضاله، بثورته، بشموخه، بكبر نفسه… ويبدو ذلك واضحاً في مجمل النصّ، فتكتب منذ بداية السيرة: “كنتَ من جيل أنيق بلا بذخ، فصيح بلا جهد، ومثقّف بلا استعراض.” (ص: 44).
تتمثّل مستغانمي بوالدها، محاولة اعتناق صفاته وخصاله هي التي تعمل منذ صغر سنّها على ترسيخ حضوره وصفاته في نفسها. ومستغانمي دوماً محامية والدها، فهي التي تدافع عنه أمام والدتها وأمام الطبيب النفسيّ وأمام العالم. تحرص مستغانمي الطفلة ومستغانمي الكاتبة على رضا والدها وتدأب على نيل موافقته وإعجابه في مختلف محطّات مسيرتها لتصبح هي ووالدها واحداً.
تبدو صورة الأب في هذا النصّ صورة الرجل الأنيق المثقّف الثائر المفعم بالفضائل والقيم، القارئ المنشود إنّما المستحيل، فتفتتح مستغانمي نصّها بجملة حادّة ومحزنة قائلة: “ما جدوى أن أكتب ما دام ليس في المقابر مكتبات ليقرأني أبي”. ويصبح اليتم أو فقدان الأب شعوراً محورياً في هذا النصّ، يصبح فقدان الأب ثغرة تحاول مستغانمي سدّها عبر الحبّ وعبر الكتابة وعبر التمثّل بالأب، إنّما عبثاً، فبلا الأب لا بطل ولا قارئ ولا ميزان ولا أحد ليمسك بيدها ويرشدها ويوجّهها ويصحّح أخطاءها، فتكتب: “اليُتم هو أن تخطئ ولا يصحّح لك أحد.” (ص: 19).
العلاقة بالوطن
يكتشف القارئ في هذه السيرة أنّ حبّ الوطن مبنيّ على حبّ الأب وهو جزء من العلاقة به ويدور في فلكه. حتّى في العلاقة بالوطن يكون الأب هو المحور وحجر الأساس. تعشق مستغانمي الجزائر لعشق والدها لها هو الثائر الذي طالما قاوم وحارب من أجل حرّيّة وطنه. ويمكن أن يجد القارئ في هذه السيرة وثيقة تاريخيّة تقدّم لمحات وومضات عن تاريخ الجزائر قبل الاستقلال وخلاله وبعده، بخاصّة بوجود الجارتين الفرنسيّتين “مدام كوزيت” و”مدام سيمون” ووجود أخبار عن حقبة الستّينيّات والسبعينيّات والثمانينيّات من القرن العشرين، وتوقّف مبطّن في بعض المواضع على العلاقة بين الفرنسيّين والجزائريّين.
منح هذا البعد التاريخيّ النصّ جماليّة جديدة وسماكة سياسيّة وفكريّة شيّقة حتّى مع مغادرة مستغانمي الابنة الوطن والابتعاد، عنه بسبب ما يعانيه من مرّ العداوات والحسد والغيرة والعزل. هنا يظهر التضاد بين الوطن والأنوثة ويتحوّل الوطن إلى عدوّ على الرغم ممّا قدّمه مستغانمي الأب لتحريره. وبين حبّ الجزائر الموروث والتنكيل الذي يطاول الكاتبة ويجبرها على الرحيل، تضطر هذه الأخيرة إلى السفر، فتقول: “اكتشفتُ باكراً أنّ الأنوثة ضعف، وخوف، وشبهة، وخطأ، وخطيئة، وأنّ الأنثى وحدها المسؤولة عن شرف العائلة، وأنّ حياتها في كلّ الأعمار تتحكّم فيها ثلاثة أحرف: “عيب”. (ص: 57).
تخرج مستغانمي من الجزائر بعد كره تلاحظه من المحيطين بها منذ ذيوع شهرتها بسبب عملها في الإذاعة. فهذه الفتاة الشابّة الموهوبة تُطرد من الثانويّة لشهرتها وتُمنع عن إكمال دراساتها العليا لانتشار اسمها بين القرّاء، وتُطرد من حدث أدبيّ عامّ لسخط الأدباء القُدامى عليها، وتُواجه أقذع الاتّهامات في أمسيتها الشعريّة الأولى. فتكتب مستغانمي عن المعارك التي اضطرّت إلى خوضها وهي بعد شابّة: “كنتُ شمعة تتحدّى الريح، صبيّة عزلاء في مواجهة مدينة ذكوريّة” (ص:214).
تضطرّ أحلام مستغانمي إلى مغادرة الجزائر والتوجّه إلى فرنسا لنيل شهادة الدكتوراه من السوربون، هي التي حملت أنوثتها عبئاً على كاهلها في وطنها. تحوّل الوطن فجأة إلى عائق وتحوّلت الابنة إلى ضحيّة الأرض التي أحبّها الأب ودافع عنها. معارك كثيرة تضطرّ الكاتبة إلى خوضها مع وطنها لمجرّد أنّها أنثى. صحيح أنّ الأب دافع عن ابنته بشراسة وقوّة وصلابة أمام جمهور الكتّاب والصحافيّين، لكنّ الفتاة الشابّة ظلّت أضعف من أن تواجه مجتمعاً ذكوريّاً متسلّطاً عاقبها على نجاحها الفتيّ، فتقرّر الرحيل وتقول لوالدها بنبرة فيها الكثير من الحزن والانكسار إنّما أيضاً الكثير من الواقعيّة: “أخبرتك يوماً أنّه ما عاد لي من مكان في هذه المدينة. دعني أغادر يا أبي. هذا الوطن لا يحتاجني”. (ص: 248).
العلاقة بالكتابة
وكما هو متوقّع، تتناول مستغانمي في سيرتها هذه التي هي رسالة إلى الأب، علاقتها بأدبها وبنصوصها. تتناول علاقتها بالكتابة وبالكلمات وبأبطالها فتكتب مثلاً عن نفسها: “أنا روائيّة بأبطال متعبين، يشوّشون على قناعاتي. أتعلّم منهم أحياناً وأحياناً أندم على مناقشتهم. لعلّ الوقت تأخّر لأغيّر أفكاري.” (ص: 294).
وعلى غرار العلاقة بالوطن، تتحوّل العلاقة بالكتابة إلى مرآة للعلاقة بالأب الذي يكون هو نفسه قارئاً وكاتباً ومثقّفاً، تطلب أحلام رضاه وموافقته وإعجابه من دون كلل. فالأب هو أوّلاً القارئ المنشود، هو القارئ الأبديّ الذي يقبع في وعي الكاتبة ولا وعيها، فتتساءل هذه الأخيرة: “هل يبكي الموتى يا أبي؟ أخبرني حتّى لا أكتب ما يبكيك. وهل يقرأ الموتى؟ أجبني حتّى أواصل الكتابة إليك”. (ص: 22).
يظهر كذلك طيف الأب في كتابات مستغانمي ككاتب ثانٍ وذات أخرى. فهو ليس مجرّد قارئ بل هو أيضاً جزء من أبطالها ونصوصها وكلماتها فتكتب: “كلّ الرجال الذين أقاموا في كتبي كان فيهم شيء منك، من عنفوان خسارتك، من ذكاء سخريتك، ومن تلك المروءة التي لا تصمد أمام سحرها النساء”. (ص: 17).
“أصبحتُ أنتَ” سيرة روائيّة جميلة وبسيطة للروائيّة الجزائريّة أحلام مستغانمي الذي راهن قرّاء وأدباء كثر على نضوب قريحتها الأدبيّة. فهذا النصّ الذي يجمع ما بين فنّ المراسلة والكتابة إلى الأب الغائب والسيرة الذاتيّة والسيرة الغيريّة والوثيقة التاريخيّة، استطاع أن يقدّم للقرّاء ما اعتداوه من فنّيّة وبساطة واسترسال إنشائي، في الأسلوب واللغة والإحساس لدى مستغانمي. فتكاد لا تخلو صفحة من جملة حكميّة تستوقف القارئ وتحرّك مخيّلته وتعود به إلى ذكرى أو عاطفة خاصّة به وبماضيه. تكاد لا تخلو صفحة من خاطرة في اليتم أو الحبّ أو الأبوّة أو الكتابة أو الموت، ليكون هذا النصّ غزيراً جميلاً تماماً كما يتوقّع القراء والقارئات خصوصاً من نصوص مستغانمي التي تقول بكلّ بساطة عن الرواية والأدب: “أين يمكن للأحياء والأموات أن يتواعدوا خارج الكتب؟ لعلّ الروايات وُجدت كي نتمكّن من أن نروي للراحلين ما حدث بعدهم”. (ص: 263).
*عن أنتدبنت بالعربية
تعليقات الزوار ( 0 )