يفرض علينا تحليل القرآن الكريم طرح أسئلة جديدة إذا ما رمنا فعلا تجديد قراءتنا له، وتجاوز القراءات الخارجية الإسقاطية. نقترح ثلاثة أسئلة تتلخص في: كيف نقرأ القرآن؟ ولماذا؟ وعندما ننطلق من أن القرآن الكريم نص لغوي، يفرض علينا السؤال الثالث نفسه بإلحاح: ما هو الموقع الذي يحتله هذا النص ضمن إنتاج النصوص وتلقيها؟ ومعنى ذلك بتعبير آخر: ما هو التصور الذي ننطلق منه ليكون أساس دراستنا، ومحور اهتمامنا؟ إن الجواب عن السؤال الأخير هو بمثابة المدخل الذي منه نتوجه لطرح سؤال الكيفية، لننتقل بعد ذلك إلى سؤال الـ«لماذا؟»
برزت خلال الحقبة البنيوية عدة نظريات لتحليل النص، والخطاب في الدراسات الحديثة، وهي تتأسس على خلفيات لسانية، وتتداخل فيها اختصاصات متعددة ترتبط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، لكنها لم تتطور بالقياس إلى ما حققته الدراسات التي اهتمت بالسرد. كان من بين العلوم التي حاولت الظهور في الحقبة المذكورة علم النص أو «النصيات» ( Textology) التي تعنى بـ«دراسة الشروط العامة لوجود النصوص» لكن هذا العلم لم يفلح في فرض نفسه، ليصبح العلم الجامع لكل العلوم التي تعنى بالنص، لكن في المقابل نجحت نظرية التفاعل النصي التي كان منطلقها «التناص» في أن تصير محورية في تحليل أي نص، دون أن تكون النظرية الأعم التي يمكن أن تتضمن نظريات متعددة، بعد أن هيمنت المقولة المشهورة التي تذهب إلى أن «أي نص هو تناص». والمقصود بذلك أنه يتفاعل مع غيره ليكون نصا له مقوماته وخصوصياته التي تجعله منتميا إلى بنية نصية أعلى، وهذا هو التصور الذي اعتمدته في تعاملي مع النص عندما كنت أشتغل بانفتاح النص الروائي (1989) تمييزا له عن الخطاب.
إن النص تمييزا له عن الخطاب، مثل اللغة في علاقتها بالكلام، حسب تمييز دو سوسير، يخضع لأنموط ( Prototype) هو بمثابة نموذج أولي أو أعلى، يسير عليه كل منتج لأي نص أو خطاب، لأنه ينطلق منه، بوعي أو بغير وعي، لإنتاج خطابه أو نصه. ألا ترى أن القدماء العرب كانوا ينصحون من يريد أن يكون شاعرا أن يحفظ الشعر، وينسى لكي يتمكن من تطوير ملكته، وجعلها قادرة على الإنتاج؟ ومن هذه الصفة يكتسب أي نص إمكانية التفاعل التي تسمح لأي متلق أن يتجاوب معه، وينفعل به، أو يتفاعل معه فهما وتفسيرا وتأويلا. لقد دفعني الانطلاق من هذا «الأنموط» أو «النصية» التي يمكن ربطها به في محاولة موقعة النص القرآني ضمن بقية النصوص التي أنتجها الإنسان إلى التمييز بين أنموطين، أو نصيتين بينهما تداخل وتفاعل، وفي الوقت نفسه تمايز واختلاف لأنهما معا نتاج علاقة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه، ويسعى إلى التعبير عن علاقته به، في ضوء تطوره في الزمان.
نميز بين الأنموطين في ضوء ما يمثله أي نص في علاقته برؤيته للعالم، أو تصوره للكون، على اعتبار أن أي نص يتصل بالأنماط التي يتحقق من خلالها، كما وضحت ذلك في «الكلام والخبر» (1997). أما الأنموط الأول فسميته «الكوني» حيث ينطلق فيه إنتاج النص من تصور محدد للكون، يتجسد من خلال علاقتين عمودية وأفقية. تبدو لنا العمودية في الربط بين الأعلى (السماء) والأسفل (الأرض) بحيث تتداخل العلاقة بينهما، ويؤثر أحدهما في الآخر، ويتأثر فيه. أما الأفقية فتبرز لنا من خلال العلاقة بين الحياة (الدنيا) والموت (الآخرة) حيث يكون الامتداد بينهما بجعل الأولى متصلة بالثانية، وتتحقق بعدها. نجد مقابل هذا الأنموط النص «العالمي» الذي يختلف عن «الكوني» لأنه يتركز على رؤية العالم الذي ينتج النص في نطاقه دون أن تكون له أي صلة بالأعلى، أو بالحياة الأخرى بعد الموت. إنه رهين العالم الطبيعي أو الواقعي الذي يعيش فيه، ويتفاعل مع ما يفرضه عليه من إكراهات وشروط للحياة.
ندرج ضمن النص الكوني كل النصوص التي أنتجت في تاريخ البشرية محملة بهذه الرؤية التي تتداخل فيها العوالم العلوية والسفلية، والحياة الدنيا والآخرة، والتي تبرز لنا في الأساطير والملاحم، والكتب المقدسة، والحكايات العجيبة، التي برزت في الحضارات القديمة، ولدى شعوب مناطق في افريقيا وأمريكا وأستراليا. إن ما يجمع بينها جميعا هو العلاقة التي تقيمها بين عالمي «الغيب» من جهة، و«الشهادة» من جهة أخرى. أما النص العالمي فيتجلى في الاقتصار على كل ما يتصل بعالم «الشهدة» فقط. وحسب خصوصية أي نص منهما نجد الإنسان يواجه مصيره، أو قدره، وهو خائف، أو متمرد، خاضع، أو متحد، باحثا له عن الأسباب التي توفره الحياة كما يريدها، من جهة أولى، أو باحثا عن خلاصه عن طريق الرحلة إلى المجد، أو ممارسة السلطة لبسطها على غيره، أو التغلب على محيطه الطبيعي خدمة لمآربه.
يمكنني في ضوء هذا التحديد التمييز بين نصيتي الإلياذة ودون كيخوته، وبذلك فتحليل القرآن الكريم يفرض عليّ الجواب عن أسئلة الكيف والـ«لماذا» في نطاق النص الكوني.
تعليقات الزوار ( 0 )