Share
  • Link copied

القاسم الانتخابي وإعادة النظر في منطق حزب العدالة والتنمية

إن النقاش الذي عرفته الساحة السياسية المغربية بخصوص القاسم الانتخابي، والذي وصل حد التنابز والدخول في خصومات سياسية، لا يمكن اعتباره خلافا عاديا، ولا هو من قبيل الخلافات السياسية التي تشهدها الساحة بين الفينة والأخرى؛ وإنما هي فرصة لإعادة النظر في كثير من القضايا، لاسيما منهجية العمل لدى المنظمات السياسية المغربية بشكل عام؛ وكذلك هي فرصة للتعرف أكثر على حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة لولايتين؛ وبالتالي، فإن الخوض في هذا الموضوع ذا أهمية كبرى، وليس اقتحامه من باب الترف الفكري؛ ذلك أن إدراك كنه الأحزاب السياسية، وخاصة حزب العدالة والتنمية، يغنينا من الوقوع في تناقضات عند تأمل وتحليل تصرفات السياسيين، والمواقف المعتمدة عندهم.

وعليه، قبل الغوص في صلب موضوعنا أعلاه، لابد من التذكير بأهم ما يوجه العمل السياسي، بمختلف أصنافه، ألا وهو المبادئ الأساسية المعتمدة في تدبير الشأن العام، أو قل الفلسفة السياسية التي تُستمد منها؛ ولهذا، فإن القول بكون السياسة الميكافيلية هي المسيطرة والمتحكمة، لا يمكن الاختلاف عليه، ولو أن الأمر يحتاج النقاش كثيرا، حيث أن أغلب الساسة يأخذون بالمبدأ والقاعدة الشهيرة: “الغاية تبرر الوسيلة“؛ مما يجعلنا رهائن هذه الفلسفة السياسية عند التحليل، حتى نتمكن من فهم وإدراك المقاصد الخفية لمختلف التصرفات؛ بل إن إغفال هذه الفلسفة وكذلك القاعدة المشهورة، يجعل من النتائج المُتوصّل إليها نتائج مشكوك فيها، وقابلة للطعن، لعدم انسجامها مع القيم المعتمدة في السياسة الميكافيلية.  

إن ما أشرنا إليه أعلاه، لا يعني أبدا إيماننا بالفلسفة السائدة، وإنما هو من باب التنبيه، لكي لا نسقط في فخ السياسيين الذين يتقنون فن الخطابة، مع إحسانهم عملية التبرير والدفاع عن مواقفهم، بأساليب حجاجية تارة، وخطابات عاطفية تارة أخرى؛ بل لا يجدون حرجا في تأويل الكلام، بعدما أصبحوا أمهر الناس في استيفاء مقتضيات  المقولة المشهورة: ” كلمة حق أريد بها باطل”؛ وبالتالي فلا غرابة من تعدد مواقفهم، حسب الظروف، بتعدد مصالحهم، بل قل مطامعهم؛ ولعل هذا الحال، لم يسلم منه ممتهني السياسة في بلدنا، إلا من رحم الله، لكن يبقى اقتراف ذلك باسم الدين أشد أثرا وألما.

ولهذا، فإن حزب العدالة والتنمية، رغم ادعاء رموزه اعتماد المرجعية الإسلامية ونبذ سياسة المصالح الشخصية، لا ينبغي التسليم لهم الأمر، واعتبار أعمالهم لا تستجيب للقاعدة الشهيرة: “الغاية تبرر الوسيلة“، بعدما ثبت، في أكثر من موقف، اقتفاءهم أثر السياسيين، الذين كانوا، بالأمس القريب في نظرهم، محل الانتقاد والريبة؛ وهذا لا ينفي ارتكاب الأخطاء في العمل السياسي عند من يعتمد المرجعية الإسلامية ويعتقد بوصل السياسة بالدين؛ وإنما التأمل في الخطوات التي يُقدم عليها قادة الحزب، كل مرة، مع ما صاحبها من أفكار تنظيرية منذ انطلاق النواة الأولى، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، لا توحي بعدم الأخذ ببعض الأفكار والآليات المنبثقة من الفكر السياسي عند ميكيافيلي، أو قل بعبارة أدق: إن فكرهم السياسي، لا يمثل النموذج الإسلامي الصحيح، بل عرف كثيرا من الاختلالات المنهجية، مما جعلت منه فكرا سياسيا ينتقل تدريجيا في الدرك الأسفل من الميكيافيلية العلمانية، وسينتهي به الأمر، لا محالة، إلى اعتناق العلمانية بصريح العبارة ، مع الإيمان المطلق بالقاعدة الميكيافيلية، التي ذكرناها أعلاه.

حتى لا يكون هذا الموقف مجرد ادعاء بدون دليل، لابد من تقديم ما يدعمه من شواهد وأحداث.

لعل ما استقر عليه الأمر، عند كثير من الإسلاميين، في ما يتعلق بالجانب السياسي، هو اعتقادهم ببطلان فصل السياسة عن الدين، واعتبارهم الحل يكمن في التمييز بينهما، وقادة حزب العدالة والتنمية المغربي من رواد هذا التيار، ولعل الدكتور سعد الدين العثماني أحدهم، وله مؤلف بعنوان: “الدين والسياسة: تمييز لا فصل”؛ وهذا التمييز يقتضي من المبادئ ما يقتضي، لدرجة أنه يقبل بنوع من الفصل الخفي بين الدين والسياسة، أي أنه يقبل بتصنيف الأعمال على أساس أن منها ما هو ديني وما هو سياسي؛ ولهذا، لا يجد الآخذ بهذا الاعتقاد أي إشكال توظيف الآليات التي أنتجها الفكر الغربي العلماني المتأثر بالميكافيلية، وحتى الاعتقاد بمجموعة من القيم الغربية عموما؛ بيد أن محاولتهم تطبيق الشريعة، كما كان مقررا عند انطلاق الدعوة أول الأمر، بات بالفشل في ظل الظروف المعيشة وما تقتضيه الآليات الديمقراطية؛ وهذا ما جعل وجودهم كعدمهم سيان؛ بل أصبح تمييزهم عن غيرهم يقتصر على بعض الشكليات فقط، بينما صارت فكرة التمييز التي قالوا بها لا تختلف عن الفصل الذي نبذوه أول مرة، وجعلوا من النصوص الدينية أداة للدفاع عن مجموعة من القيم العلمانية، ظنا منهم، أن الدين سباق إلى ذلك، بعدما اختلطت عليهم المفاهيم، واتسعت رقعة مطامعهم التي يطلقون عليها “مصالح“.  

ولهذا، فإن من أهم مظاهر الانجرار مع التيار والأخذ بالقاعدة الميكيافيلية، هو نوعية الخطاب الذي بدأ يتبنى مفاهيم غريبة عن الإسلام، وكذا سعيهم الوصول إلى مراكز السلطة والاحتفاظ بها مهما كلف الأمر:

أولا: إن الخطاب عندهم تغير بشكل جذري، حتى رأينا من يناقش الحريات الفردية: العلاقات الرضائية، حرية المعتقد، الإجهاض وغيرها، بشكل لا يختلف عن غيرهم؛ مما جعلهم لا يجدون حرجا في ادعاء أن الإسلام كان سباقا للدفاع عنها، متأولين النصوص وإخراجها من سياقها العام، دون الشعور بالذنب وهم يقرون بارتكاب الكبائر، مخالفين المبدأ الذي ما فتئوا يدافعون عنه، وهو الذي يتمثل في تغيير المنكر بالقلب من باب أضعف الإيمان، وإلا الواجب يقتضي تغييره بسلطة القانون (وهذا ما يرمز إليه مصطلح اليد) والخطاب ( الذي يرمز إليه اللسان)؛ وهذا ما ينطبق على مجموعة من القضايا التي صاروا يتفننون في الدفاع عنها وهي من أعظم الكبائر، منها ما يهم الشأن العام، ومنها ما يتعلق بالأفراد والجماعات.

ثانيا: أما سعيهم للمناصب، فقد صار الأمر واضحا للجميع، بعدما انتفضوا تحت قبة البرلمان، بشكل هستيري، على قضية القاسم الانتخابي؛ ولا شك أن هذا القاسم لا يتماشى مع الديمقراطية كما آمن بها من صوت لصالح هذا الإجراء؛ لكن الغريب في الأمر أن المغرب، خلال العقد الأخير، شهد من القضايا ما هو أكثر أهمية من القاسم الانتخابي، ولم يقفوا في وجهها، رغم مسها بالقيم التي تأسس عليها الحزب، ولعل قضية التطبيع واللغة العربية خير مثال؛ وكل هذا، يؤكد تشبثهم بالمناصب، وليس بالمبادئ والقيم، التي يتغنون بها في خطاباتهم؛ بمعنى آخر، جعل تحصيل السلطة غاية في حد ذاتها، وليس وسيلة كما قرروا أول الأمر، حيث أن التنازل عن المبادئ أهون عندهم من التنازل عن المناصب، ولو كانت عبر آليات ديمقراطية، كانت محط انتقادهم قبل.

وعلى سبيل الاختصار، من الضروري التنبيه على أن الإسلامي هو ذلك الإنسان الرسالي، الذي يسعى دائما إلى أداء الأمانة، التي حملها، بينما أبى غيره حملها، لأنها تقتضي من الشروط ما تقتضي؛ وعليه، فإن تحمل المسؤولية في الدولة يقتضي الالتزام بالقيم التي تتضمنها الأمانة التي تحمَّلها الإنسان في عالم الغيب، إن هو كُلف بها؛ وعليه، فإن المسلم الرسالي لا يكون برفع الشعارات والإتيان بما يناقضها، وإنما برسم خطط وفق قيمه، متخذا التدرج في تطبيقها منهجا، حيث ينطلق من تغيير المنكر في قلبه، حتى إن ثبت عنده الأمر، صار يدعو بلسان حاله، قبل غيره، إلى الاقتداء به، لينتهي الأمر به تغيير المنكر بالقانون، عبر السلطة التي تكون مشبعة بالقيم الإسلامية، ولو لم تكن في يده لأنه أول من ابتدأ الأمر، ذلك أن الغاية المرجوة تحققت؛ وبالتالي، فإن الإسلامي الرسالي لا يتنافس مع غيره إلا في تثبيت القيم، وأما المناصب فلا تعدو أن تكون في نظره إلا مواطن الابتلاء، التي تتطلب مزيدا من الترقي ومحاسبة النفس.

وختاما، يمكن القول أن ما ابتدأ به حزب العدالة والتنمية دعوته، لم يصمد كثيرا، حتى صار واقعه أكثر بؤسا، لمحاولة تبريره بالقيم الإسلامية التي تخلّ عنها، عند اعتقاد قادته أن امتلاك السلطة هو الحل؛ ولكنه عندما امتلكوا جزءا منها أمسوا أكثر السياسيين نسيانا لثوابتهم.

اللهم وفق بلادنا إلى ما فيه خير، وارزقنا المنطق والعمل به.

Share
  • Link copied
المقال التالي