لقد أصبح حضور المجتمعات المسلمة في الغرب أمرًا راسخًا لا يُختزل في ظاهرة عابرة أو في حالة طارئة، بل بات تعبيرًا عن تحوّل بنيوي في الخريطة الديمغرافية والدينية والثقافية للعالم الغربي. غير أن هذا الحضور الذي يزداد كمًّا ونوعًا، لا يزال يفتقر إلى اجتهاد فقهي مؤصّل، قادر على الإحاطة بتحديات التعدد، ومؤهل للتفاعل مع الخصوصيات القانونية والاجتماعية والمعيارية التي تميّز السياقات الغربية.
إن الفقه حين يُحاصر في قوالب تراثية جامدة، لا يعكس إلا مرحلة من مراحل تاريخه ولا يستجيب لحيوية الشريعة ومقاصدها، يغدو عبئًا على الأمة بدل أن يكون أداة لفهم واقعها وهدايتها. وحين ينعزل عن مقتضيات التعدد والتنوع، يُنتج أحكامًا تصطدم بالواقع بدل أن تنير مسالكه. لذا فإن استئناف الاجتهاد الفقهي في الغرب، لا يعني مجرد البحث في قضايا جزئية أو نوازل عارضة، بل يستدعي إعادة بناء النظر الفقهي برمّته، على قاعدة فكرية ومقاصدية تستوعب المتغيّرات دون أن تنكص عن الثوابت.
الاجتهاد في السياق الغربي لا يمكن أن يكون تكرارًا لاجتهاد نُسج في سياقات متجانسة دينيًّا وثقافيًّا. بل هو مطالبة ببذل الوسع في فهم نصوص الشريعة فهما يراعي عللها، ويستوعب مقاصدها، ويأخذ بعين الاعتبار مآلات تنزيلها في بيئات قانونية تختلف جذورها الفلسفية ومبادئها التشريعية عن النظم الإسلامية. وليس في ذلك إهدار لخصوصية الشريعة، بل تأكيد على قدرتها على الانبعاث المتجدد في كل زمان ومكان.
ولأن الاجتهاد لا يستقيم من دون إدراك الواقع، فإن فقه الواقع يُعدّ من ضرورات هذا المشروع الفقهي المنشود. فالواقع ليس خصمًا للنص، بل هو ميدانه ومجاله. والوعي بطبيعة التحديات التي تعيشها المجتمعات المسلمة في الغرب، هو المدخل إلى فهم الحاجة الملحّة لاجتهاد يستبطن أحوال الناس، ويقيس مصلحتهم، ويميز بين ما هو قابل للتكييف الشرعي وما لا يمكن استيعابه إلا بتغيير الأداة الفقهية ذاتها.
ولعل أبرز القضايا التي تفرض حضورها في هذا السياق هي قضايا الأسرة والهوية، وما يترتب عليها من التزامات قانونية وثقافية تتعارض أحيانًا مع التصورات الفقهية الموروثة. وهنا لا يكفي الاكتفاء بالتحذير أو التحريم، بل ينبغي استدعاء القواعد الكلية والمقاصدية التي تضبط الغاية من الأحكام، فيتم التمييز بين ما هو قطعي لا يُقبل فيه التنازل، وما هو اجتهادي قابل للمراجعة والتطوير. إن الحفاظ على الأسرة لا يكون بمجرد التشبث بالنصوص المجردة، بل بتوفير صيغ فقهية تحمي كيانها وتُمكّنها من التماسك داخل سياق لا يُعترف فيه غالبًا بشرعية التصور الإسلامي للأسرة.
أما مسألة المواطنة والانتماء، فهي من أعقد الإشكالات التي تعترض المسلم الغربي، إذ يجد نفسه موزعًا بين ولاء ديني وانتماء مدني، في ظل منظومة قانونية تفرض عليه احترام قوانينها، ومنظومة قيمية تُطالبه بالاندماج من غير أن تُفرّط بهويته. وهنا تبرز الحاجة إلى فقه يخرج من ثنائية الطاعة والمعصية، ليؤسّس لمفهوم المواطنة من داخل المرجعية الإسلامية، لا من خارجها. مواطنة تقوم على مبدأ العدل والتعاقد والكرامة، وتُعلي من شأن المصلحة العامة، وتُقر بحق الانتماء الكامل للدولة التي يعيش فيها المسلم، من دون أن يفقد وعيه بذاته الحضارية والدينية.
ولا يقل التعليم أهمية عن هاتين المسألتين، إذ هو الأداة الأعمق في تشكيل الهوية وإعادة إنتاج المعنى. والتعليم في الغرب لا يخلو من تحديات جمة، تتعلق بالمناهج والقيم والمعلمين والبيئة التربوية. وإذا غاب الاجتهاد الفقهي في هذا الباب، ضاعت الأجيال بين خطابين متصارعين: خطاب ديني تقليدي يرفض البيئة برمتها، وخطاب علماني لا يقبل أي مرجعية دينية. ومن هنا، يبرز دور الفقيه في تقديم رؤية تعليمية تستوعب القيم الكونية المشتركة، وتؤصّل لخطاب تربوي يُربي المسلم الغربي على الانفتاح والتوازن، دون أن يجعله تابعًا لقيم لا تنتمي إلى مرجعيته.
ولا يمكن لهذا المشروع الاجتهادي أن يُثمر من دون مؤسسات علمية وهيئات جماعية تتجاوز الفتوى الفردية، وتؤسّس لاجتهاد جماعي تُسهم فيه النخب الفقهية والفكرية والتربوية. ذلك أن الاجتهاد ليس حكرًا على فقيه واحد مهما بلغ من العلم، بل هو نتاج تشاور علمي وتراكم معرفي وتبادل تجريبي، يُصقل الرؤية، ويُبعدها عن الشطط والانعزال.
إنّ التجديد الفقهي في الغرب هو قبل كل شيء تجديد في الرؤية، وتحديث في المنهج، وتصحيح في مسارات الفهم. وهو دعوة إلى إخراج الفقه من ضيق المذهبية، ومن صخب الصراعات السياسية، إلى سعة المقاصد، وحرية الاجتهاد، وشرف خدمة الإنسان. فالمسلم في الغرب لا يحتاج إلى فقه يُدينه أو يُربكه، بل إلى فقه يُرشده ويُعزّز حضوره، ويجعله شريكًا في بناء فضاء مدني إنساني تعدّدي، لا مجرد ضيف غريب عنه.
وهكذا يلتقي فقه المقاصد مع فقه الواقع، ليؤسّسا لاجتهاد أصيل في الشكل، متجدد في المضمون، قادر على التعبير عن روح الشريعة في أفق حضاري، يعترف بالتعدد، ويؤمن بالمشترك، ويحترم الخصوصية، دون أن يُسقط عن المسلم انتماءه أو يُشوّش على هويته.
تعليقات الزوار ( 0 )