في مكانٍ ما على خريطة الوطن، قرّر الشعب ألا يؤجل الذبح، لأن الجار لم يؤجّله. الخروف لم يعترض، ولا الجيب اعترض، والقرار الملكي وجد آذانا صمّاء وقلوبا مترعة بالإيمان الزائف.
قيل لهم: الظروف لا تسمح. تراجع في القطيع، جفاف، جيوب تصرخ… فردّوا بلا تردد: “الجار يحضي الجار، لا ذبح تا أنا نذبح”. هذه ليست مزحة، بل قاعدة سلوكية عند كثير من الأسر: الذبح ليس شعيرة، بل معركة اجتماعية ضد العار. أن تشتري الأضحية وأنت عاجز عن ملء ثلاجتك بقنينة حليب، فتلك بطولة مغربية لا تُدرَّس في المدارس.
في السوق، المشهد سريالي، فليس كل شيء يُقاس بالميزان. “الدوارة” مثلاً، لا تُشترى لحاجتها، بل لحاجتنا لأن نبدو كباقي الناس. ثمنها يرتفع كلما ارتفع الشعور بالخوف من نظرة الجار، وكأنها صك غفران اجتماعي لا تكتمل “فرحة العيد” بدونه. لا أحد يسأل من أين جاءت، ولا كيف قفزت إلى أسعار تفوق المنطق. المهم أن تصل إلى المائدة، ولو خرجت من خروف ذُبح خلسة في ليلٍ بارد، لا تقرّبًا ولا شعيرة، بل نكاية في قرار. وهنا لا نلوم الجزار وحده، بل عقلًا جمعيًّا يقدّس الذبح كعادة اجتماعية لا تحتمل التأجيل، حتى وإن احترقت الحظيرة والضمير معًا.
أما التوجيه الملكي بتأجيل الذبح، فمرّ مرور الكرام. قِلّة فقط من سمعوه، وقِلّة أقل منهم من اعتبروه ملزمًا. فالولاء العاطفي شيء، والامتثال العقلاني شيء آخر. بين الخطاب الملكي، وصوت الجزار المتجوّل، اختار كثيرون صوت العادة. العادة عندنا أقوى من الدولة، ومن الدين، ومن الجيب.
الغريب في هذه الشيزوفرانيا الجماعية أن الجميع يشتكي من الغلاء، ويصرخ في وجه الجفاف، لكنه لا يتخلى عن الطقس حتى لو باع هاتفه أو استعان بتطبيقات القروض السريعة. العيد لا يؤجل عندنا، ولو تأجلت الحياة نفسها.
وحين يُذبح الكبش سرًا، يُذبح المنطق علنًا. لأننا أمام حالة من الإنكار الجماعي: نعرف أن الذبح هذه السنة ليس ضرورة، بل استفزاز للأزمة، ومع ذلك نمارسه بكل بهجة، ونصوّره، ونعلّق عليه في فيسبوك: “العيد فرحة”.
ثمّة شيء فينا يرفض الانضباط، لا لأننا متمرّدون، بل لأننا نحب المظاهر أكثر من المعاني. نحن لا نريد الأضحية لأنها شعيرة، بل لأنها تُعرض على الطاولة، وتُصوَّر على إنستغرام. والدوارة؟ إنها مرآة هذا الانفصام. لا أحد يحتاجها فعلًا، لكنها أصبحت الرمز الوحيد الذي لا يُغتفر غيابه.
فمن نلوم؟ الدولة؟ التي لا تستطيع مراقبة الذبح العشوائي في كل زقاق؟ أم السوق؟ الذي وجد في جوع المواطن فرصة عمر؟ أم المواطن نفسه، الذي اختار أن يُضحّي بنفسه بدل أن يؤجل الذبح؟ أم الثقافة الجمعية التي تضع “اللي ما ذبحش” في خانة الإدانة الاجتماعية؟ وكأن الجار أصبح الفتوى، والمقارنة هي المعيار.
في النهاية، لا أحد خرج رابحًا. لا الخروف، ولا الدولة، ولا الجيب، ولا حتى العيد.
الوحيد الذي ضحك فعلًا… هو الجزار. لأنه يعرف أن الكبش يُذبح مرة، والمواطن يُذبح كل عام.

تعليقات الزوار ( 0 )