Share
  • Link copied

الصمت المغربي بين أخلاق المسؤولية وحسابات الشرعية

الصمت المغربي بين أخلاق المسؤولية وحسابات الشرعية، قراءة سوسيولوجية في موقف الدولة من النزاع الإسرائيلي-الإيراني

في عالم يتقاطع فيه منطق المصالح مع هندسة الرموز، يختار المغرب الصمت أمام التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، يختار صمتًا ليس نابعا من فراغ، بل من إدراك حاد لتعقيد البنية الدولية، وتشابك المكونات النفسية والسياسية التي تحكم تفاعل الدولة مع ذاتها ومع الخارج، فهذا الصمت ليس حيادا كما قد يبدو لأول وهلة، بل هو تعبير دقيق عن ما يسميه ريمون بودون بـالعقلانية السياقية، حيث تُبنى القرارات بناء على تموضع الفاعل داخل شبكة مصالح وتمثلات وتوازنات لا يمكن الفكاك منها دون ثمن.

فالمغرب باعتباره دولة ذات طموح استراتيجي إقليمي، يجد نفسه في موقع لا يسمح له باتخاذ موقف علني من نزاع تتداخل فيه حسابات الهيمنة والانتماءات الطائفية والتنافس على الشرعية، فمن جهة تربطه بإسرائيل علاقات رسمية منذ توقيع اتفاقيات التطبيع، وهي علاقات لم تبقى في إطار رمزي بل اتخذت أبعادا أمنية وعسكرية واستخباراتية عميقة، وجعلت من تل أبيب شريكا تكتيكيا في قضايا تعتبرها الرباط مصيرية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، ومن جهة أخرى لا يزال المغرب يحتفظ بتمثلات شعبية قوية ترتبط بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية للضمير الجمعي، وهو ما يجعل أي انحياز صريح لإسرائيل مكلفا على المستوى الداخلي، وهكذا يصبح الصمت صيغة هجينة من التموقع، ويعبر عنها ماكس فيبر بوصفه أخلاق المسؤولية حيث لا تحكم الفعل السياسي المبادئ وحدها، بل مآلاتها المحتملة أيضا.

غير أن هذا التموقع لا يمكن فصله عن بنية الدولة نفسها كما تحللها نظريات علم الاجتماع السياسي، فالمغرب كغيره من الدول النامية، يتفاعل في ظل محدودية في السيادة الرمزية، ويمارس شكلا من أشكال البراغماتية المضادة، حيث يوازن بين استرضاء الحلفاء الغربيين، والحفاظ على الانسجام الداخلي، وهنا يستحضر علم النفس الاجتماعي مفهوم التنافر المعرفي كما صاغه ليون فستنغر لفهم كيف يمكن للدولة أن تبرر صمتها تجاه عدوان من حليفها، بينما تعلن في الآن ذاته دعمها لحقوق الفلسطينيين، هذا التنافر لا يقتصر على صناع القرار بل يتسرب إلى الوعي الجمعي، محدثا نوعا من التفكك الرمزي بين الشعور والانتماء، وبين ما يقال وما يعاش وبين الرموز المستقرة والسياسات المتحولة.

واللافت في هذا الصمت أنه لا ينتج عن غياب الإرادة بل عن فائض من الإدراك، فالمغرب يعلم أن الحرب بين إسرائيل وإيران ليست فقط مواجهة عسكرية، بل معركة على معاني الشرعية والمظلومية والمقاومة وكلها رموز مشحونة بدلالات نفسية وجماعية عميقة، وفي هذه المساحة الرمزية يجد المغرب نفسه محاصرا بسؤال مزدوج مؤداه أن الوقوف ضد إيران يعني الاصطفاف المطلق مع إسرائيل، وأن التضامن مع فلسطين يتطلب دعم نظام لم يتورع عن سحق شعوب بأكملها في سوريا ولبنان والعراق.

وهذا التردد ليس فقط ناتجا عن حسابات عقلانية، بل أيضا عن تمثلات نفسية تؤطر علاقة الدولة بنفسها وبالآخر، فتحليل سلوك الدولة وفق قواعد علم الاجتماع السياسي يؤكد أن الاحتكام إلى الصمت لا يكون دائما علامة على الحياد، بل قد يكون أحيانا أرقى درجات التحيز حين يمارَس لتأجيل الصدام، أو لتمويه الموقع الحقيقي، أو لصياغة هوية رمزية متحركة، فالمغرب هنا لا يصمت لأنه محايد بل لأنه يعيش توترا بين ذاكرته الرمزية وتحالفاته الواقعية، وبين ضغط الرأي العام ومتطلبات البقاء في هندسة النفوذ الدولي.

إن صمت الدولة المغربية أمام هذا النزاع يكشف كذلك عن طبيعة السلطة فيها، وذلك بوصفها سلطة تسعى إلى إنتاج إجماع هادئ لا يختبر إلا في لحظات التوتر، فهو صمت لا يفهم إلا إذا اعتبرنا الدولة ككائن رمزي، كما يرى بيير بورديو يتصرف داخل فضاء اجتماعي مليء بالفخاخ الرمزية، حيث قد يكون الكلام خطأ كما أن الصمت قد يكون أيضا خطأ لكن بدرجة أقل، لذلك تفضل الدولة أن تلوذ بظل الغموض مفضلة التأويل المفتوح الذي يسمح لها بأن تفهم من الجميع، وأن تدين بلا تصريح وأن تؤيد بلا إعلان.

وعلى هذا النحو، لا يعود الصمت المغربي فراغا دبلوماسيا بل ممارسة للسلطة في أكثر صورها تعقيدا، حيث سلطة التموقع دون انكشاف والمناورة دون إعلان، وهو ما يعكس بشكل صارخ الأزمة الرمزية التي تعيشها الأنظمة السياسية في زمن العولمة، حيث لم يعد القرار خاضعا فقط لموازين القوى، بل أيضا لتصورات الجماعات وضغوط الإعلام وتأثير الانفعالات الجماعية، تلك الانفعالات التي تعيد تشكيل معنى الوطنية والهوية والانتماء، وتفرض على الدولة أن تزن كلماتها كما لو كانت قنابل رمزية قد تنفجر في أي لحظة.

إن ما يعيشه المغرب اليوم ليس فقط أزمة موقف من صراع خارجي، بل هو تجل عميق لأزمة توازن داخلي بين الدولة كجهاز والشعب كحامل للرموز وبين السياسة كممارسة يومية والهوية كحلم جماعي، وفي مثل هذا السياق لا يكون الصمت ضعفا بل شكلا من أشكال الخطاب، لأنه خطاب مرمز وقابل للتأويل ولا يقول كل شيء، لكنه يلمح إلى كل شيء.

Share
  • Link copied
المقال التالي