يمكن أن نؤرخ لرجل السياسة عموما من خلال وصف الثنائيات الكثيرة في شخصيته، عالم السياسة عبر العالم عرف شخصيات كثيرة دخلت عالم السياسة من بوابات متنوعة، وبنسب مختلفة، من أهم هذه المداخل والممرات هي بوابة الفكر والثقافة والمال والأعمال والعسكر والدين.
أمامنا صور كثيرة للسياسي المثقف المتأثر بتوجهات فلسفية فكرية وإيديولوجية عديدة. حاول بناء تلك الأفكار والثقافات على الأرض. أسس مشاريعه السياسية لإدارة الدولة وللتشريع وتنظيم فضاء الدولة والمجتمع من خلال أركان نظرية. منهم من تفوق في إيصال الفكرة وصبغ المؤسسات الرسمية والاجتماعية بثقافته ومنهم من خاب مسعاه، بسبب منحاه النخبوي.
السياسي العسكري وصوره العديدة في العالم، شعاره الأسمى النصر على الأعداء. طبعت مسيرته بشخصية الحرب والتوتر التي تندس في عروقه. رغبته في فرض الأمر بقوة دون تشارك أنتجت في مواجهته مقاومة من نفس جنس القوة والتحدي.
السياسي التاجر أو رب العمل، يصطدم بقناعة رأس المال جبان. يفر من أول مواجهة ميدانية تخسره بعض مؤشرات الربح. ميوله الطبيعي، ليس نحو النشيد الوطني طبعا، بل نحو نقر آلات حساب الربح والخسارة. يجتمع القوم من حوله، حفاة عراة أو كساة، في سبيل ما عنده ويتفرقون عنه عند الشدة. لايأسر العقول والقلوب لكنه يأسر الجيوب.
أيضا جاء إلى عالم السياسة فنانون ذواقون للجمال، مثاليون أحيانا كثيرة، فشلوا أغلبهم في الوصول إلى الصدارة. الرياضيون أيضا دخلوا السياسة. قياس المسافات الميدانية الذي تعودوا عليها ضللهم في السياسة. فمسافة مائة متر جريا في الحلبات تعادل سنوات طويلة في السياسة، وبالتالي كسب الأرقام صعب جدا عليهم بعملية القياس التي تعودوها.
الأطباء الذين مارسوا السياسة في المغرب تعثروا وانسحبوا جلهم، إلا قليل منهم تعدهم على رؤوس الأصابع. المنطق العلمي، تجريب، تشريح ومختبرات وأدوية كيماوية وغيرها، صعب جدا تنزيله في عالم السياسة المغربية. السياسي بعض الأحيان يداوي المجتمع بسحر الكلمة ولا يحتاج إلى عقاقير وله أولويات ومخرجات غير التي تفرضها عملية التشخيص السطحي.
المحامون كانوا بارعين في عالم السياسة. قوة الإنتاج اللفظي ساعدتهم في ذلك. أيضا طريقة الترافع و منهج البحث عن الثغرات الشكلية والمخارج الموضوعية ما بين اللغة القانونية والحقوقية والخطاب السياسي، عاونهم على الممارسة السياسية بشكل أفضل. غير أن رحلة البحث، بطبيعة المهنة التي يمارسون لكي يعيلوا أنفسهم، عن زبائن يحملون قضايا مربحة، ظل هاجسا داخل رؤوسهم، فوت عليهم نجاحات كثيرة.
ثنائية أخرى في شخصية السياسي وجدت عندنا. هي ثنائية السياسي/المتدين أو رجل الدين والدعوة. أغلبهم مارسوا السياسة من منظور ميكيافيلي. ومنهم من مارسها من منطق فرعوني “ما أوريكم إلا ما أرى”.
وبعضهم أخلص النية للدولة ظالمة أو مظلومة. شخصية هذه الفئة من السياسيين، تتراوح ما بين الوعظ والتفقه والإفتاء على شاكلة خطب منابر المساجد بدون جدال أو نقاش، وما بين الزهد والبذخ. حبسوا أنفسهم في تناقضات لم يستطيعوا إدارتها وحسمها وتصريف ناتجها. ظل نفر كبير منهم يتخبطون في صراعات نفسية، استعصى عليها التوفيق ما بين رغبات الحرية ونزعات التسلط، لكل موقع وصلوه موقف. خرجوا بعد زمن طويل من كهفهم، لكن الناس لم يجدوا فيما ما لديهم “أزكى طعاما”، بل “زادوهم رهقا”.
الغائب الأكبر في مغربنا الحزبي السياسي هو شخصية القائد السياسي المربي. في التصوف لا مريد بدون شيخ مربي يعظه ويربيه ويوضح له ما التبس عليه من أموره الظاهرة والباطنة مهما كان عمره ودرجة علمه.
في السياسة أيضا نحن بحاجة إلى سياسيين مربين على نهج الرعيل الأول منهم، المهدي بن بركة، علال الفاسي، المكي الناصري، بن الحسين الوزاني، عبد الرحيم بوعبيد وغيرهم من الجيل الأول والثاني لمغرب الاستقلال. سياسيون كانوا يمتطون صهوة المنابر الخطابية بشخصية الأستاذ والمعلم والأب المربي. سياسيون كانوا يشرحون للعامة وللمتعلمين كل حسب فهمه، كل أركان الدولة والمجتمع بلغة تحمل قيما مغربية أصيلة. ومن الملح أن نقول أننا فعلا بحاجة ماسة إلى بيداغوجيا حزبية سياسية، تتفرع عنها لبنات وهياكل حزبية مربية، تتعامل مع الجماهير ومع الفئات والأجيال الجديدة بمنطق تربوي سياسي هادئ.
الحاجة ماسة وملحة، لأن أحزابنا وسياسيونا أصبحوا يخاطبون ويخطبون ود المغاربة بدون قيم تربوية. أصبحنا نشرع بدون خطط تربوية تهيء المتلقي للنص وللقاعدة القانونية. أصبحنا نتواصل مع الشيوخ والنساء والأطفال والعمال والفلاحين بلغة واحدة وبطريقة واحدة دون احترام قواعد التواصل الجيلي والبناءات العمرية الاجتماعية. لذلك خصوصية المغرب وظرفيته تستدعي شخصية السياسي المربي.
السياسي المربي ليس ذلك الذي يخطب ليشتم الآخرين أو يفضحهم. كما ليس هو من يعتمد فقط على لغة هجومية تثير الأعصاب وترفع التوتر. هو شخصية مربية تنشر القيم و تربي على احترام القانون والاحتكام إليه، هو من يشرح للناس أبصارهم وقلوبهم بلغة أسرية ومدرسية غير منفرة متعصبة، ويفتحها على مؤسسات العيش المشترك وقواعد تسيير الشيء العمومي المشترك ورهاناته الحقيقية ومخاطر ضياعها، في سبيل بناء جماعي لأمة ولوطن اسمه المغرب.
*باحث في العلوم السياسية
تعليقات الزوار ( 0 )